قُبيل النكبة وإعلان قيام دولة “إسرائيل”، كانت الحاجة ملحّة لدى المؤسسات الصهيونية لجمع المعلومات والمعطيات للاستعداد لأي مواجهة قادمة مع الفلسطينيين أبناء الأرض المسلوبة، وجيوش الدول العربية من جهة أخرى، وحتى مع سلطات الانتداب الإنجليزي رغم انحيازها الواضح للمشروع الصهيوني، وعلى إثر ذلك تولّت عصابة الهاغاناه العسكرية مهمة الخدمات الاستخباراتية لجمع المعلومات.
وبعد النكبة الفلسطينية في مايو/ أيار 1948، ومع تحول المستوطنات الصهيونية إلى ما يُسمّى بـ”دولة إسرائيل”، تنامت الضرورة لوجود جسم استخباراتي يحمي الدولة المزعومة من أي خطر قادم، ويكون ذراع “إسرائيل” التي تطول كل خطر خارجي.
وفي ظل معطيات هذه الضرورة، أقرَّ رئيس حكومة الاحتلال ديفيد بن غوريون، في 13 ديسمبر/ كانون الأول 1949، تشكيل “مؤسسة مركزية لتجميع وتنسيق خدمات الاستخبارات والأمن”، وذلك لتنسيق وتوجيه العمليات الاستخباراتية التي كانت تتمُّ من مؤسسات صهيونية متباعدة، وعلى وجه الخصوص التنسيق بين “الشين بيت” وفرع المخابرات في غرفة عمليات دفاع الاحتلال، وقد عُرفت هذه المؤسسة لاحقًا باسم “الموساد الإسرائيلي”.
“الموساد الإسرائيلي”، أو وكالة الاستخبارات المركزية الإسرائيلية، ومجال عملها خارج حدود دولة الاحتلال، تهدف بشكل خاص إلى جمع المعلومات في مختلف المجالات الأمنية والعسكرية والسياسية والاجتماعية، وإجراء بحوث وتقييمات لهذه المعلومات والمعطيات ورفد الجهات السياسية والأمنية الرسمية في حكومة الاحتلال بها، فضلًا عن تنفيذ عمليات ومهمات خاصة تصل حدّ جرائم الاغتيال.
وعن طريقة تجنيده لعملائه ومخبريه، ذكر موقع “المجد” المختص بالقضايا الأمنية أن للموساد عدة وسائل لتجنيد العملاء، تقوم على دراسة الناحية السيكولوجية النفسية للشخص المُراد تجنيده، واستغلال نقاط ضعفه، وإعداد ملف كامل عن شخصيته ومزاجيته قبل أي اقتراب منه، مستخدمين الجنس والمال والعاطفة كأساليب رئيسية في الضغط والتجنيد.
وبعد اجتياز العميل للاختبار، يتم تدريبه لمدة سنة كاملة على المبادئ الأولية لطبيعة عمل المخبر، والتي تكون جمع معلومات واستهداف فئات في مواقع حساسة من علماء وخبراء، ورجال سياسة، وأساتذة جامعات، وباحثين، وحزبيين.
تعدّ عملية “عزرا ونحميا” ما بين عامَي 1949 و1951 من أوائل وأبرز عمليات الموساد في استقدام اليهود من الأراضي العراقية.
أما داخل الجهاز، فيوضِّح موقع “المجد” أن الموساد يتفرّد في اختيار ضبّاطه ومديري أقسامه ومسؤولي محطاته والعناصر المهمة في هيكليته من الرعيل الأول من الإسرائيليين، خاصة أفراد وضباط القوات المسلحة والمتفوقين من طلاب المدارس والمعاهد والجامعات.
دعم الهجرة اليهودية
يعود اسم الموساد كاختصارٍ لعبارة “موساد لعالياه بت” العبرية؛ أي منظمة الهجرة غير الشرعية، والتي كانت من إحدى أبرز مهامها القيام بعمليات تهجير اليهود، وقد نفّذ الموساد منذ تأسيسه عدة عمليات استقدام يهود من شتى أنحاء العالم للاستيطان في فلسطين المحتلة، وقد حاول الموساد فيها إلى خلق أجواء مرعبة لليهود في بلدانهم الأصلية لدفعهم على الرحيل.
وتعدّ عملية “عزرا ونحميا” ما بين عامَي 1949 و1951 من أوائل وأبرز عمليات الموساد في استقدام اليهود من الأراضي العراقية، الذين لم يأخذهم الشغف بعد في القدوم إلى “إسرائيل” والاستيطان فيها.
وعلى إثر ذلك أرسل جهاز الموساد موفديه إلى العراق لبثّ القلاقل لحمل اليهود على الهجرة إلى “إسرائيل”، حينها كان هناك 134 ألف يهودي يعيشون في العراق، لكن هذا العدد سرعان ما انخفض بعد أن بدأت “إسرائيل” تنفيذ “عملية عزرا ونحميا”، وقد غادر فيها 96% من يهود العراق جوًّا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقد استخدم الموساد في ذلك أساليب “قذرة” لدفع اليهود إلى الهجرة، إذ وقعت عدة تفجيرات عامَي 1950 و1951 طالت كنيسًا يهوديًّا في بغداد وشركات متاجر ومحلات لليهود، وقد أظهرت الأحداث بعد ذلك بقليل أن عملاء الموساد هم المسؤولون عن الانفجارات، إذ وجدت الشرطة العراقية كمية من الأسلحة في كنيس يهودي في بغداد.
ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، هاجر أكثر من 100 ألف يهودي إثيوبي إلى “إسرائيل” في إطار عدة عمليات، إلا أن أهمها “عملية سليمان” في مايو/ أيار 1991، وذلك عند سقوط نظام منغيستو هايلي ميريام، ما سمحَ بنقل 20 ألف شخص إلى الأراضي المحتلة خلال 36 ساعة فقط.
مسيرة ملطَّخة بالدماء
تورّطَ رؤساء الموساد في جرائم حرب مختلفة ضد الفلسطينيين بشكل خاص والعرب عمومًا، من خلال تنفيذهم عددًا من الاغتيالات، وقد تركزت أشد الجرائم التي قام بها الموساد بشكل أساسي ضد الشعب الفلسطيني، خاصة المقاومة المسلحة وقياداتها الثورية، حيث قام عملاء الموساد بالعشرات بل بالمئات من عمليات الاغتيال والتصفيات الجسدية لمناضلين فلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينية، وفي دول العالم المختلفة.
ولعلَّ أبرز القيادات التي اغتالها الموساد الإسرائيلي، وما زالت تبكيها الثورة الفلسطينية، الشيخ المؤسِّس لحركة حماس أحمد ياسين، ومهندسا الحركة يحيى عياش وعماد عقل، ومؤسِّس حركة الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي، والقياديان الثوريان في حركة فتح صلاح خلف “أبو إياد” وخليل الوزير “أبو جهاد” في تونس، والقيادي المؤسِّس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وديع حداد.
وفي العقد الأخير، عاد الموساد ليلعبَ جرائم قتله في مختلف دول العالم، مثل اغتياله محمود المبحوح أحد قيادات كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، عام 2010 في دبي، وعضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عمر النايف داخل السفارة الفلسطينية في بلغاريا عام 2016، وفي العام ذاته اغتالت ذراع الموساد التونسي محمد الزواري مهندس “طائرات الأبابيل” القسامية، والمهندس الفلسطيني فادي البطش في ماليزيا عام 2018.
ولم يكتفِ جهاز القتل الإسرائيلي بملاحقة المقاوم العسكري فحسب، بل طال اغتياله الكلمة أيضًا، حين قتل بدم بارد الأديب والكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في العاصمة اللبنانية بيروت عام 1972، وذلك بتفخيخ سيارته بعبوة ناسفة، واغتيال رسام الكاريكاتير ناجي العلي في لندن عام 1987، وقد يشير استهداف الجهاز لهاتين القامتين على مدى تأثير أعمالهما في صنع الثقافة الوطنية الفلسطينية المقاومة.
وفي إطار حربها البعيدة القريبة مع دول إقليمية، اتّهمت طهران “إسرائيل” باغتيال 4 من العلماء النوويين الإيرانيين بين عامَي 2010 و2012، وهم مسعود محمدي ومجيد شهرياري وداريوش رضائي ومصطفى أحمدي روشن، واغتيال أبرز علمائها النوويين محسن فخري زاده عام 2020، فضلًا عن وقوع عدة قيادات في حزب الله اللبناني تحت مرمى نيران خطط الموساد.
ومؤخرًا، بدأت تنكشف زوايا أكثر عمقًا لتورُّط الموساد في جرائم ومجازر ارتُكبت خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وعلاقتها بالكتائب والميليشيات المسيحية آنذاك.
وحول ذلك يشير الكاتب والمحامي إيتاي ماك في مقال عبر “هآرتس” العبرية عام 2020، إلى أن الموساد دعمَ من خلال حرصه على مصالح “إسرائيل”، الميليشيات المسيحية في لبنان أثناء الحرب الأهلية، من خلال تقديم الأموال والإرشاد والتدريبات والأسلحة والمعدات الإلكترونية اللازمة، ونوّه إلى أن الموساد قامَ بفعل ذلك رغم علمه بضلوع أعضاء هذه الميليشيات بجرائم بحقّ نشطاء سياسيين ومدنيين ينتمون إلى مجموعات سياسية ودينية وقومية وإثنية معادية.
وتوسُّعًا في أفريقيا، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في يناير/ كانون الثاني 2016، تقريرًا يفيد بأن صفقة أسلحة تمّت تحت رعاية جهاز الاستخبارات الإسرائيلية في جنوب السودان، وأن هذه الصفقة انطوت على تجاوز لآليات شراء الأسلحة الرسمية المتبعة في جنوب السودان، ويشير التقرير لاقتناء بنادق آي أم آي “جليل” إسرائيلية الصنع في صيف 2013، ومن ثمة سُلِّمت هذه الأسلحة لميليشيا الحكومة التي أجرت تدريباتها في مزرعة رئيس جنوب السودان الخاصة.
ويؤكد الكاتب الإسرائيلي ماك أن ميليشيا جنوب السودان استخدمت هذه البنادق بتاريخ منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2013، لارتكاب مجزرة بحقّ أبناء قبيلة النوير في العاصمة جوبا والمنطقة المجاورة لها، وكانت هذه المجزرة بمثابة الشرارة الأولى التي أعلنت بدء اندلاع الحرب الأهلية في السودان.
رغم امتداده.. فشل!
رغم سلسلة عمليات الاغتيال الكثيرة التي تلطّخ بها سجلّ جهاز الموساد الإسرائيلي، إلا أنه مُنيَ بفشل متعدد في عدد من المهمات الجوهرية، ولعلّ أبرزها محاولة اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس آنذاك خالد مشعل، في العاصمة الأردنية عمّان عام 1997، من خلال حقنه بمادة سامة، والتي أحدثت أزمة كبيرة بين المملكة الهاشمية والاحتلال الإسرائيلي، حيث هدّد الملك حسين حينها بإلغاء الاتفاقيات الموقّعة بين الطرفَين، وقد أذعن الاحتلال للتهديد، وأرسل الترياق لضمان حياة مشعل، وأفرجَ عن شيخ حركة حماس أحمد ياسين من السجن الإسرائيلي.
نجح الموساد في التغلغل في مختلف بلدان العالم، وجمع معلوماته الاستخباراتية كما يحلو له.
ومؤخرًا أحبطت الاستخبارات التركية عملية استخباراتية إسرائيلية كبيرة على أراضيها، حين أعلنت القبض على 15 فلسطينيًّا يجنّدهم الموساد في الأراضي التركية لجمع المعلومات عن نشطاء وسياسيين، وعن طلاب أتراك في الصناعات الدفاعية التركية، فيما لم تتكشّف تفاصيل العملية بشكل أوسع بعد.
بعد 72 عامًا على تأسيس الموساد، وعملياته في استقدام اليهود للاستيطان في الأراضي الفلسطينية المسلوبة من أهلها، والتغلغل في مختلف بلدان العالم، وجمع معلوماته الاستخباراتية كما يحلو له، وقد أسهم في ذلك تواطؤ الأنظمة الغربية وحتى بعض الأنظمة العربية مع حكومة الاحتلال، ونسيانها الدم الفلسطيني، حيث باتوا جميعًا مساهمين في ترسيخ عقيدة الموساد: “إسرائيل أولًا وأخيرًا ودائمًا أبدًا”.