كل شتاء، تتجدد الأزمة الإنسانية المروعة في مخيمات النازحين السوريين في الداخل خصوصًا، وفي دول الجوار عمومًا، إذ تتكرر مشاهد الخيام الغارقة بالطين وأقدام الأطفال المتمرغة في الوحل وتتصدر الشاشات وشبكات التواصل، فتقام حملات الدعم والإغاثة الطارئة لنجدة النازحين الغارقة خيامهم إلى أن يخفت ضجيج شبكات التواصل، ثم تعاود الأزمة الانداع في الشتاء المقبل، في حلقة مفرغة لا يعرف إلا الله متى تنتهي.
إثر الأزمة الأخيرة التي ضربت مخيمات الشمال السوري نتيجة الهطولات المطرية الغزيرة، ارتفع عدد المخيمات المتضرِّرة إلى 104 مخيمًا، وانقطعت الطرق المؤدية إلى العديد من المخيمات، وذلك وفق بيان أصدره فريق “منسقو استجابة سوريا”، وبحسب الفريق فإن أضرار المخيمات شملت دمارًا كُلّيًا لـ 194 خيمة، فيما تضررت 316 خيمة بشكل جزئي، ودخلت مياه الأمطار إلى 2145 خيمة مسبِّبة أضرار مختلفة.
يضيف التقرير أن أضرارًا واسعة ضربت الطرقات التي تجاوزت الـ 9 كيلومترات ضمن المخيمات ومحيطها، ويجري العمل على الوصول إلى المخيمات المتضررة التي يصعب الوصول إليها نتيجة سوء وانقطاع الطرقات المؤدّية إليها.
وتوزّعت الأضرار ابتداءً من مخيمات خربة الجوز غربي محافظة إدلب، وصولاً إلى المخيمات الحدودية باتجاه ريف حلب الشمالي، إضافة إلى محيط مدينة إدلب ومعرة مصرين وبلدات كللي وحربنوش وكفريحمول وحزانو وزردنا.
بحسب بيان منسقي الاستجابة، فإن عدد العائلات المتضررة بشكل مباشر بلغ 1842 عائلة، في حين بلغت عدد العائلات المتضررة من الهطولات المطرية 3742 عائلة، فيما سُجِّلت حركة نزوح داخلية ضمن المخيمات لأكثر من 472 عائلة نتيجة تضرر خيامهم، ويتوقع الفريق زيادة الأضرار بشكل أكبر في حال استمرار الأمطار أو تجدُّدها في المنطقة، إضافة إلى مخاوف من حدوث انزلاقات طينية ضمن المخيمات نتيجة تشكُّل مستنقعات مائية كبيرة.
إلى ذلك، أُطلقت العديد من النداءات لاستدراك الأمر وإغاثة العوائل المنكوبة من قبل المنظمات الإنسانية العاملة، خصوصًا بعد التحذيرات من انهيار منظومة المأوى الخاصة بالنازحين في المخيمات، من خلال زيادة الأضرار وصعوبة تعويض خسائر النازحين.
مأساة متكررة وحلول مؤقتة
ومع تكرار المأساة للسنة العاشرة على التوالي، يتجدد السؤال المُلحّ: أين هي عشرات المنظمات الإنسانية التي تعمل على تخديم هؤلاء النازحين، ولمَ تحصل هذه المعاناة سنويًّا؟
يجيبنا عن السؤال المتطوع في المجال الإنساني ضمن مخيمات النزوح في الشمال السوري، فراس منصور، حيث يقول: “لا يوجد حل جذري للمعاناة، خاصة أن المانحين الدوليين الرئيسيين لا يدعمون فكرة إنشاء وحدات سكنية مؤقتة، خوفًا من عمليات التغيير الديمغرافي أو الاشتراك بعمليات توطين جديدة”.
يشير منصور خلال حديثه لـ”نون بوست” إلى أنه تمَّ إنشاء أكثر من 150 ألف وحدة سكنية على يد العديد من المنظمات، ونقلت الكثير من العوائل إليها، لكن هذه الوحدات لم تغطِّ أكثر من 10% من عدد العائلات النازحة والتي يُقدَّر عددها بـ 2 مليون، ويضيف أن هؤلاء النازحين يتوزّعون على 293 مخيمًا، ويشير منصور إلى أنه “في حال أردنا اتّباع خطة الإسكان في وحدات سكنية فنحن بحاجة لخطّة زمنية تطول إلى 10 سنوات”.
الجدير بالذكر أن بعض المنظمات والفرق التطوعية بدأت حملات خارج إطار المانحين الدوليين لتوفير دعم لبناء وحدات سكنية مؤقتة، وتبلغ مساحة كل وحدة 24 مترًا مربعًا، وبعض المنازل الأخرى 32 مترًا مربعًا، يتمُّ تسليمها بحسب أعداد العوائل المستفيدة، بحيث توفِّر المساحة الكافية والخصوصية المناسبة، كما تطورت هذه الأمور إلى إنشاء قرى كاملة تشمل بنية تحتية متكاملة من كهرباء وصرف صحي، ويتمُّ إسكان العوائل فيها عوضًا عن الخيام.
موضوع الوحدات السكنية تشارك فيه المنظمات التركية بدعم من الحكومة، حيث تعهّد وزير الداخلية التركي بعد زيارة له بداية عام 2021 إلى مخيمات الشمال، “ببناء منازل من الطوب في إدلب لإسكان الناس بها عوضًا عن الخيم”، كما يواصل وقف الديانة التركي تسليم وحدات سكنية للنازحين في منطقة إدلب ومحيطها، في إطار مشروع كبير يهدف لنقل النازحين إلى المنازل، ويحمل المشروع اسم “منازل الخير”.
– الذين غادروا أوطانهم هرباً من الجحيم، يسكنهم جحيم غربتهم.#بوتين_قاتل_المسلمين #مخيمات_الشمال_السوري pic.twitter.com/lNezeYcPA4
— رانيا سليمان (@RaniaSula) December 24, 2021
إلى ذلك، يقول فراس منصور إن “تكرار المأساة يرجع أيضًا إلى قلة الإمكانات المادية لدى المهجّرين أنفسهم، إذ إن النازح لا يملك قدرة على تدعيم خيمته أو الانتقال للعيش في منزل أو إنشاء صرف صحي لمكان سكنه، بسبب قلة العمل وانخفاض الأجور”.
يشير منصور إلى أن المنظمات الإنسانية تعملُ بكل طاقتها، ولكن لم يعد هناك قدرة استيعابية لملايين النازحين، كما يوضِّح أن “النسبة الأكبر من المخيمات المتضررة هي مخيمات عشوائية غير مكفولة من أي منظمة أو جمعية، وتتواجد في بعض الأراضي الزراعية، إذ إن القاطنين فيها نزحوا من قراهم فجأة وجلسوا في أراضٍ عشوائية”.
فيضانات وسيول تُصيب مئات العوائل النازحة في مخيمات الشمال السوري سببتها الأمطار ? pic.twitter.com/kZlnyZzTmb
— Adham – Haj Ahmed (@adham_syria1) December 22, 2021
دلامة علي، مؤسِّس فريق الاستجابة الطارئة، قال بدوره إن الخيم لا تقاوم حرّ الصيف ولا برد الشتاء، ومن أول نسمة هواء يخشى قاطنوها من أن تطير وتبقيهم في العراء، ويشير في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن المانحين الدوليين لا يقبلون إنشاء وحدات سكنية إنما يعملون على تجديد الخيام كل 3 أو 6 أشهر، بينما تعمل بعض المنظمات على بناء الوحدات الإسمنتية المقاومة للظروف المناخية السيّئة.
لم يعد الشقاء في مخيمات الشمال السوري ضيفا ثقيلا…
لقد صار من أهل المخيمات..
اللهم الطف يارب العالمين. pic.twitter.com/aSxR9xFfW8— منذر طعمه (@Almunzer33) December 22, 2021
يضيف علي: “الآن بشكل مستعجل نحتاج إلى تغيير الخيم وتركيب عوازل، بالإضافة إلى تجهيز أرض للخيم تكون مقاومة للظروف المطرية الحالية، بالإضافة إلى توزيع ألبسة شتوية وتركيب مدافئ، خاصة أن المخيمات تتركز في أماكن باردة”، ويروي الناشط علي أن “فريقهم يعمل على إنشاء قرى سكنية وافتتاح مدارس للأيتام وتأمين الحالات الإنسانية الأكثر ضعفًا، مثل إجراء عمليات جراحية”.
السبب الأساس
تواصلنا مع عبد الرزاق عوض، مدير منظمة “سيريان ريليف” في الشمال السوري، للسؤال عن تكرار المأساة في كل سنة، وفي هذا الصدد يقول عوض: “طالما لا يوجد بالأفق أية حلول سياسية فالأزمة مستمرة”، ويتساءل عوض عن فائدة المنظمات الكثيرة في ظل تناقص الدعم الوارد إليها.
ويرى أن “تناقص الدعم وجفاف مصادر التمويل لأغلب المنظمات المحلية والدولية التي تدعم الشأن الإنساني السوري، يدفع باتجاه ضعف مواجهة الأزمات، ويدفع بأن تبقى هذه المنظمات لاستجابات الطوارئ فقط”.
ويشير عوض إلى أن هذه “الاستجابات تكون آنية، بمجرد أن تنتهي المأساة يعود الوضع لما كان عليه قبل، ويوجد تفكير دائم بخطط على المدى البعيد للعمل على بنى تحتية لاستبدال الخيمة بوحدات سكنية، لكن إلى الآن هذه الحلول والخطط والأفكار لم تُطرح بشكل جدّي ضمن أروقة الداعمين الدوليين، خاصة الأمم المتحدة والمؤسسات المرتبطة بها”.
يوافق فراس منصور في حديثه لـ”نون بوست” ما يقوله عوض، ويضيف أن “نهاية الأزمة تكون بنهاية نظام الأسد، إذ إنه عندما يرحل هذا النظام ستعود الناس إلى مدنها وقراها وتعيد بناء بيوتها من جديد، وسيُقضى على شيء اسمه خيمة، وسيعود كل إنسان إلى عمله، حيث إن السبب الأساسي بمشكلة المخيمات هو حرب النظام السوري على الشعب السوري الذي أُجبر على النزوح واللجوء إلى هذا الأسلوب في الحياة”.
#مخيمات_الشمال_السوري
عشر سنوات ومازال اهلنا يعانون البرد في الشتاء…وحر الصيف لاسقف يحميهم ولاجدران…بعض اقمشة ممزقة تسمى خيمة…
لله دركم يااطفال الخيام… تمزقت قلوبنا عليكم…ولااحد يشعر بمأساتنا.. pic.twitter.com/EKvJ89ZTtJ— مغرد سوري (@MghrdSwry) December 17, 2021
“نحن إش ذنبنا يصير فينا هيك.. وين بدنا نروح بحالنا”؟
“حياتنا صارت كلها قهر كلها عذاب”
بغصة في الحلق وحرقة في القلب.. مهجرة تشرح واقع مخيمات الشمال السوري#سوريا_ستريم pic.twitter.com/AAbG7Mg5j0— سوريا ستريم – Syriastream (@syriastream) December 22, 2021
ما يزال يعيش أكثر من مليون ونصف إنسان سوري في خيم، في مخيمات في الشمال السوري وفي المناطق الحدودية وبلدان الجوار بالأخص العراق ولبنان، لا يعرف الأطفال الذين ولدوا في تلك المخيمات كيف يكون شعور الاستناد إلى حائط، فيما تفيض عليهم السيول بالطين والأوحال كل عام، وهذا ليس مسليًا، ليس كما الثلج مثلًا، ففي حين يحب الأطفال الثلج وبياضه واللعب فيه ومشاكسة الصبية في الخيمة المجاورة، إلا أنهم لا يتشوقون للبرد بالمرة.