إن كان تعريف الاقتصاد الموازي لدى أمهات الكتب الاقتصادية هو ذلك النوع من النشاط الاقتصادي غير المدرج في الناتج المحلي والدخل القومي وغير الواقع تحت مظلة الدولة، فإن لدى الدولة المصرية تعريف آخر له، ذلك الذي يُقسَم إلى قسمَين، اقتصاد المؤشرات الرسمية والذي في الغالب يطغى عليه اللون الوردي، وآخر حالك السواد يتعلق بالواقع المعاش حياتيًّا، وهو ما يتلمّسه المواطن ساعة تلو الأخرى.
المتابع للحالة المصرية لا شكّ أنه سيُصدَم بشيزوفرينيا المؤشرات والأرقام، فعلى الجانب الأيمن من الصورة، وبحسب التقديرات الرسمية، يتربّع الاقتصاد المصري على عرش خارطة النمو في العالم خلال العام الأخير تحديدًا، وسط تفاؤل واضح لدى كيانات التقييم الاقتصادي والمالي.
وهناك في الجهة المقابلة، واقع يتجرّع فيه المواطن كؤوس البؤس والتدني كأسًا تلو الأخرى، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال حزمة مؤشرات، أبرزها زيادة معدلات البطالة ونسب الفقر وتراجع المدخرات وتفاقم حجم الديون وموجة إلغاء الدعم واستنزاف جيوب المواطن.
وشهدت الأعوام السبع الماضية، وهي فترة حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، عشرات الوعود بتحسُّن الوضع الاقتصادي للبلاد، البداية كانت في عام 2015 الذي أطلق عليه الرئيس “عام الرخاء” ثم سرعان ما طالبَ الشعبَ بالصبر لمدة عامَين في عام 2016، تأجّل هذا الوعد إلى عام 2017 والمطالبة بـ 6 أشهر إضافية، وهكذا في عامَي 2018 و2019، حتى وصل إلى عام 2020 حين قال إن مصر ستصبح بنهاية يونيو/ حزيران من هذا العام “حاجة تانية خالص”.
وعدٌ تلو الآخر، دون تحريك للمياه الراكدة في نهر الاقتصاد المتجمّد، ليزداد الوضع تأزُّمًا عامًا تلو الآخر، وسط انقسام حاد لدى الشارع، بين من يرى في تلك السنوات إنجازات لم تشهدها مصر في تاريخها، وآخرين يعتبرونها السبع العجاف التي لا ينتظر بعدها البقر السمان، في ظل استمرارية السياسات المتّبعة، والتي من المتوقع أن تدفع البلاد ثمنها لعشرات السنين القادمة.
هذا ما تقوله المؤشرات
وفق تقديرات مجلة “فوربس الشرق الأوسط”، حلَّت مصر في المركز الثالث في قائمة أكبر الاقتصادات العربية خلال عام 2021، بعد السعودية والإمارات، مع توقعات وصول ناتجها المحلي الإجمالي إلى 394.3 مليار دولار بنهاية العام، مقابل 361.8 مليار دولار عام 2020.
المؤشرات ذاتها توقعت أن يصل نمو الناتج المحلي الإجمالي المصري إلى 2.8% في نهاية السنة المالية 2020-2021، على أن يحقق تعافيًا وينمو 5.2% في السنة المالية 2021-2022، وهو المعدل الذي لم تحقّقه البلاد منذ سنوات طويلة، في إشارة إلى حجم الإنجازات التي حقّقتها السياسات الاقتصادية المتّبعة، بحسب المجلة.
أما صندوق النقد الدولي، فتوقع هو الآخر تحقيق الاقتصاد المصري “تعافيًا قويًا” خلال السنة المالية 2021-2022، وفق ما ذكره بيان أُصدر منتصف شهر يوليو/ تموز الماضي، مرجّحًا أن يستمر ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى 3.83 آلاف دولار في العام المالي 2021 الذي انتهى في 30 يونيو/ حزيران الماضي، وهي زيادة بنسبة 6.8% مقابل 3.58 آلاف دولار العام الماضي و3.01 آلاف دولار عام 2019.
التقديرات ذاتها توقعها البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، الذي رجّح عودة الاقتصاد المصري لمستوى نمو ما قبل كوفيد-19 خلال العام المقبل، متوقعًا، في تقرير الآفاق الاقتصادية الإقليمية الصادر مؤخرًا، أن يبلغ النمو 4.2% العام الجاري قبل أن يصل إلى مستوى ما قبل الجائحة خلال عام 2022 ليبلغ 5.2%.
وهذا هو الواقع
في الجانب الآخر، هناك صورة أخرى أكثر قتامة، يوثّقها الواقع والأرقام الصادرة عن الجهات المالية المحلية، تتصدرها الطفرة الهائلة في حجم الدين الخارجي، الذي زاد بنسبة 193% خلال سنوات السيسي السبع، وكما يقول الخبراء إذا كان نهر النيل هو شريان الحياة للمصريين، فإن الاقتراض أصبح هو شريان الحياة للحكومات المصرية في عهد الرئيس الحالي.
وتستحوذ مصر على 34% من إجمالي ديون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال عام 2019 حسب تقرير البنك الدولي، إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى بلوغ الدَّين الخارجي المصري، حتى نهاية يونيو/ حزيران الماضي، قرابة 137.9 مليار دولار، مع إضافة 3 مليارات دولار قيمة سندات دولية في سبتمبر/ أيلول المنقضي، ومثلهم وديعة سعودية في البنك المركزي المصري خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، هذا بخلاف 40 مليار دولار قيمة فوائد هذا الدين، بما يعني أن الرقم الفعلي للدين الخارجي بفوائده قد يصل إلى 203 مليارات دولار.
هذا الحجم غير المسبوق في تاريخ مصر من الديون التهمَ بشكل كبير الجزء الأعظم من الموازنة السنوية المخصصة لتلبية حاجات الشعب والإنفاق عليه، حيث أظهرت بيانات وزارة المالية المصرية أن فوائد الديون والأقساط المستحقة تلتهمُ أكثر من 80% من الإيرادات العامة للدولة خلال العام المالي الماضي.
منذ اللحظة الأولى لتوليه السلطة عام 2014، اتخذت حكومات السيسي المتعاقبة من جيب المواطن موردها الأول لسداد ضريبة سياسات الاقتراض التي اتبعتها طيلة السنوات الماضية.
بنهاية العام الحالي فقط، مطلوب من الحكومة المصرية سداد نحو 12.062 مليار دولار، تمثل ديونًا خارجية قصيرة الأجل، منها نحو 11.958 مليار دولار أصل الدَّين، بالإضافة إلى فوائد بنحو 103.76 ملايين دولار، وذلك في تقرير صادر عن البنك المركزي المصري.
المؤشر الثاني على الواقع الاقتصادي يتعلق بمدخرات الأفراد، إذ تقول القاعدة إنه كلما تحسّنت مداخيل الفرد زادت مدخراته، لكن يلاحظ أن مدخرات المصريين في عهد السيسي تراجعت بشكل كبير، فخلال الفترة 2014-2020 لم تتجاوز نسبة الادّخار للناتج المحلي 10% في أحسن الأحوال، باستثناء عام واحد هو العام المالي 2018-2019، وفق بيانات التقرير المالي الشهري لوزارة المالية في يونيو/ حزيران 2021.
يذكر أن معدلات الادّخار في فترة 2005-2010 إبّان عهد مبارك لم تقل عن 12.6%، بل وصلت في بعض الأحيان إلى أكثر من 17% من إجمالي الناتج المحلي، وهو أعلى من أفضل سنوات عهد السيسي التي لم تتجاوز 10%، ما يشير إلى مستوى دخول المواطنين خلال تلك الفترة.
ثم تأتي مؤشرات الفقر لتضرب ادّعاءات التصريحات الرسمية، حيث بلغ معدل الفقر في مصر 29.7% في السنة المالية 2019-2020، ورغم تراجُعه عن معدل السنة المالية 2018-2019 حيث كان 32.5%، إلا أن هذا التحسُّن المزعوم لم يظهر بأي صورة من الصور على معدلات الادّخار.
الاقتراب من نقطة 30% كمؤشر للفقر يضع 30 مليون مواطن تحت مستوى دولار في اليوم الواحد، مع العلم بأن معدلات الفقر حين تولّى السيسي الحكم عام 2014 لم تتجاوز 25%، مقارنة بما كانت عليه خلال عام 2000 حين لم تتجاوز 16.7%.
استنزاف جيوب المواطنين
كان لتلك المؤشرات السابقة وقع السحر على جيوب المواطنين التي أفرغتها ممّا تحتويه من أموال، سائلة كانت أو مجمّدة، فمنذ اللحظة الأولى لتوليه السلطة عام 2014 اتخذت حكومات السيسي المتعاقبة من جيب المواطن موردها الأول لسداد ضريبة سياسات الاقتراض التي اتّبعتها طيلة السنوات الماضية.
ويكفي للوقوف على حجم الأموال المحصلة من المواطنين تلك المقارنة بين معدل عوائد الضرائب حين تولّى السيسي ونسبتها اليوم، إذ ارتفعت حصيلتها من 305.9 مليارات جنيه عام 2015 إلى 983 مليار جنيه في موازنة 2021-2022، وهو ما يعني زيادة في الإيرادات بنحو 678 مليار جنيه، تشكّل أكثر من 90% من موارد الدخل القومي للبلاد.
تلك القفزة الكبيرة في الضرائب تحققت بفضل روشتة الإصلاح المقدَّمة لصندوق النقد، والتي تعتمد على إلغاء الدعم تدريجيًّا وصولًا إلى تصفيره، يرافقها موجات متتالية من زيادة الأسعار وفرض الرسوم والأعباء المادية، ما كان له أثره الكارثي على معدلات التضخم وتفشّي البطالة وتخلّي السواد الأعظم من المواطنين عن مستلزمات الحياة العادية.
“المصريون لا يأكلون المؤشرات الاقتصادية التي تعلنها الحكومة ومصر مطالبة بسداد الديون الخارجية حتى عام 2071”.. الخبير الاقتصادي ممدوح الولي.
استنزاف جيوب المواطنين لم يتوقف عند رفع سعر الخدمات والسلع فقط، بل منافسة الشعب في ممتلكاته الخاصة، وهو ما ظهر جليًّا مع بعض القوانين المستحدثة أبرزها فرض رسوم إجبارية على عقارات السكان (قانون المصالحة)، بزعم عدم ترخيصها رغم الاعتراف بها منذ سنوات عبر تزويدها بالمرافق العامة من مياه وكهرباء وعوائد سنوية، وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن الحكومة حصّلت بنهاية يونيو/ حزيران الماضي 18 مليار جنيه تحت بند المصالحات.
وبينما يرفع السيسي شعار التشاركية في الاستثمار، وتشجيع القطاع الخاص الذي يعمل به النسبة الأكبر من الأيدي العاملة المصرية، يهيمن الجيش على الاقتصاد المدني في مصر، عبر إنشاء الكيانات الاقتصادية في الأنشطة المختلفة، أو استحواذ وزارة الإنتاج الحربي على مجال التوريدات وتنفيذ المشاريع المختلفة داخل الوزارات والمؤسسات العامة، ما أزاح القطاع الخاص من مجال الاستفادة من ثمار النمو الاقتصادي، ودفع بالملايين من الشباب إلى طابور البطالة، مع الوضع في الاعتبار سرّية البيانات الخاصة بمنظومة المؤسسة العسكرية الاقتصادية، والتي لا يمكن لأي جهة أيًّا كانت الاطّلاع على أرقامها الصحيحة.
تضارب الواقع والمعلن
هناك نوعان من المؤشرات، الأول يعتمد على البيانات الرسمية التي تفصح عنها الدولة، والثاني يجمع ويرصد من خلال هيئات دولية اقتصادية وحقوقية، هكذا يقسم رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام “تكامل مصر”، الباحث مصطفى خضري، خارطة المؤشرات الاقتصادية المصرية.
يشير خضري إلى أنه بالنسبة إلى مصر، تلك الدولة التي يحكمها نظام سلطوي، فلا يمكن الاعتماد على المؤشرات الدولية الخاصة بها كمعبِّر عن حقيقة مطلقة، وفق تصريحاته لـ”عربي 21″، لافتًا إلى أن المؤشرات الصادرة عن النظام الحاكم حول معدلات النمو ومعدلات البطالة، ستكون غير حقيقية “لأنها اعتمدت على مدخلات مضلِّلة”.
واستعرض الباحث بعض مؤشرات تقرير “الحالة المصرية “الصادر عن مركز “تكامل مصر”، الذي يرأسه، نهاية حزيران/ يونيو الماضي، والذي كشف عن ارتفاع معدل البطالة ليبلغ 27% عام 2021 مقارنة بـ 23% في العام الماضي، وانخفاض مستوى الدخل للأسر بنسبة 8% عام 2021 مقارنة بعام 2020، كاشفًا عن بدء دخول مصر في حالة الكساد التضخمي، حيث أظهر التقرير ارتفاع معدل التضخم عام 2021 بنسبة 34% مقارنة بالعام الماضي.
الرأي ذاته ذهب إليه الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، الذي كشف أن “المصريين لا يأكلون المؤشرات الاقتصادية التي تعلنها الحكومة”، لافتًا إلى أن مصر مطالبة بسداد الديون الخارجية حتى عام 2071، وذلك خلال مقابلة له مع “ميدل إيست مونيتور“.
رغم الجهود المبذولة لتجميل الصورة عبر التلاعب بالأرقام والمؤشرات، ومحاولة إيصال صورة وردية للشارع الذي يئنُّ من وطأة الأعباء المعيشية الطاحنة، إلا أن الواقع بفجاجته أكثر مصداقية لدى محدود الدخل الذي لا يكاد يكفي قوت يومه وأسرته.
وتناول الولي بعض ملامح الصورة المقابلة لنظيرتها الوردية التي تسلّط الحكومة الضوء عليها، أبرزها زيادة الاحتياطي النقدي، وهي المسألة التي يعزفُ على أوتارها إعلام النظام ليل نهار، إذ يشير الخبير الاقتصادي إلى أنه إذا كان الاحتياطي النقدي الأجنبي قد زاد من 19.2 مليار دولار في سبتمبر/ أيلول 2016 إلى 40.9 مليار دولار بالشهر نفسه من عام 2021، أي بنحو 21.7 مليار دولار خلال 5 سنوات، فقد ارتفع الدين الخارجي من 60.1 مليار دولار في سبتمبر/ أيلول 2016 إلى 137.8 مليار دولار في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، ما يعني أن الدين الخارجي ارتفع بما يقارب 4 أضعاف الزيادة في الاحتياطي النقدي الأجنبي في الفترة نفسها.
وفيما يتعلق بزيادة الصادرات المصرية، كأحد إنجازات السيسي بحسب إعلامه، فإن البيانات التي تعلنها الحكومة تشهد أخطاء فادحة تستهدف مغازلة الداخل دون الوقوف على الحقيقة، فبينما تشير البيانات الرسمية إلى أن الصادرات المصرية زادت من 21.6 مليار دولار بالسنة المالية 2015-2016 إلى 34.4 مليار دولار بالسنة المالية 2020-2021 بنسبة نمو 59%، وهذا غير صحيح، فإن الرقم الحقيقي وفق البنك المركزي للعام 2020-2021 بلغ 28.7 مليار دولار فقط، كما أن رقم الصادرات بالسنة المالية 2015-2016 كان 18.7 مليار دولار فقط.
ورغم استفادة حفنة صغيرة من سياسات السيسي الاقتصادية، إلا أن الغالبية العظمى من الشعب تدفع ثمنًا فادحًا لهذا “الاقتصاد المسموم”، كما يسمّيه أستاذ إدارة التغيير والتخطيط الإستراتيجي الزائر بجامعة كامبريدج، حسام الشاذلي، الذي يرى أن تلك الاستراتيجية تسبّبت في إفقار الجزء الأكبر كنتيجة حتمية لسياسات غير مدروسة.
ويعتبر الخبير الاقتصادي أن الوضع الراهن في مصر والقائم منذ عام 2014، قائم على “اقتصاد الطبقة الحاكمة فقط الذي يحتكره الجيش ومن يعمل تحت عباءته، وترحيل المديونيات للأجيال المقبلة، بتحويلها ديون طويلة الأجل بدلًا من قصيرة الأجل”، مؤكّدًا في تصريحاته لـ”الجزيرة” أن أي رخاء اقتصادي في مصر مشروط بحدوث استقرار سياسي وأمني، وهو ما لم يحدث.
على أي حال.. رغم الجهود المبذولة لتجميل الصورة، عبر التلاعب في الأرقام والمؤشرات ومحاولة إيصال صورة وردية للشارع الذي يئنُّ من وطأة الأعباء المعيشية الطاحنة، إلا أن الواقع بفجاجته أكثر مصداقية لدى محدود الدخل الذي لا يكاد يكفي قوت يومه وأسرته، وسط القلق ممّا هو قادم، خاصة بعد العبث بمنظومة الدعم والتموين التي من المتوقع أن تزجَّ بمتوسطي ومحدودي الداخل إلى أتون الصراع لأجل لقمة العيش.