احتوت رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك بعد صلح الحديبية رسالة إلى هرقل قيصر الروم، حملها سفيره دحية الكلبي، وقد هيأ الله لقيصر وفدا من قريش على رأسه أبو سفيان، فحاورهم واستيقن من صدق الرسالة وعرف أن صاحبها نبي آخر الزمان، وتوقع أنه سيحوز منه هذا الـمُلك، ولكنه آثر الدنيا والملك (1).
ثم كانت غزوة مؤتة أول ما وقع من الصراع بين الدولة الإسلامية والروم البيزنطيين، وقد كانت “أكبر لقاء مثخن، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة رسول الله” (2) ، وهي -من وجهة النظر العسكرية- تعتبر هزيمة للمسلمين وانسحابا لهم، ولكن بالتعمق في التفاصيل فإنها بمثابة رسالة عسكرية في غاية القوة للدولة الرومية وللأعراب المنضوين تحت لوائها ولعامة العرب، إذ استطاع جيش المسلمين الصغير (ثلاثة آلاف مقاتل) أن يتصدى ويثخن في جيش التحالف الرومي العربي العرمرم (مائتي ألف مقاتل) ثم ينسحب إلى المدينة ولا يجرؤ الروم على تتبعه!
ثم بعد عام وشهرين وقعت غزوة تبوك، ضد ذات الحلف الرومي العربي ولكن في منطقة تبوك وهي أقرب إلى المدينة من مؤتة، وعلى رغم الظروف العصيبة للمسلمين حينئذ إلا أنهم أخرجوا أكبر جيش في تاريخهم (ثلاثين ألفا) غير أنه لم يقع قتال، بل تفرق الروم والعرب ولم يجسروا على المواجهة.
وقد مات النبي وهو يجهز جيشا آخر لغزو الروم بقيادة أسامة بن زيد، فأنفذه بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأصر على إنفاذه رغم اضطراب الجزيرة العربية عليه، فكان اتباعه لأمر النبي مما ألقى المهابة من المسلمين في صدور العرب، ثم انشغل المسلمون بما وقع في الجزيرة العربية بعضا من الوقت، ثم بدأت الفتوحات الإسلامية الكبرى.
انطلقت الفتوحات تجاه فارس والروم في ذات الوقت، وبينما كان قتال الفرس أشد وأشرس كانت جبهتهم تنهار أمام المسلمين أسرع، فيما أبطأت الفتوحات في جبهة الروم حتى حوَّل الصديق جزءا من الجيش الإسلامي في الجبهة الفارسية إلى جبهة الروم بقيادة خالد بن الوليد، ثم وقعت المعركتان الكبريان في جبهتي فارس والروم في ذات الوقت تقريبا، فكانت القادسية على جبهة الفرس (شعبان 15هـ) واليرموك على جبهة الروم (رجب 15هـ).
وما يهمنا في هذا السياق هي جبهة الروم التي تلقت الصدمة الأولى الكبرى منذ عهد أبي بكر الصديق، فخسرت تباعا معاركها الكبرى في أجنادين واليرموك، وتساقطت عواصم الشام الرومية القدس ودمشق وأنطاكية، ثم جاء عهد عمر بن الخطاب فخسر الروم أملاكهم في مصر والشمال الإفريقي كذلك، ثم جاء عهد عثمان بن عفان فخسروا جزائر في البحر المتوسط أهمها جزيرة قبرص.
ثم تراجعت الفتوحات حين وقعت الفتنة بين المسلمين أواخر عهد عثمان وطوال عهد علي، حتى اجتمع المسلمون في عام الجماعة، وبدأت الدولة الأموية، أو لنقل: العاصفة الأموية التي هبت على دولة الروم البيزنطيين فزلزلتها، ففضلا عن الاستنزاف المستمر لقوى الروم، فتح المسلمون عددا من الجزر أهمها رودس وصقلية وهددوا جزيرة كريت، وصارت الغزوات برية وبحرية، والأهم من ذلك بل المفاجأة غير المتوقعة أنهم هددوا عاصمة الدولة ذاتها: القسطنطينية، وذلك أكثر من مرة (49هـ) فانطلق الجيش الإسلامي إلى القسطنطينية وظل يحاصرها لسبع سنوات (54 – 60هـ)، لكن المدينة العتيقة استطاعت الصمود هذه المرة.
ولما مات معاوية ودخل المسلمون في فتنة أخرى اضطر عبد الملك بن مروان أن يتنازل ويصالحهم على أموال يدفعها لهم، فلما استقرت له الأمور فيما بعد، استأنف هو وأولاده من بعده تهديد الدولة البيزنطية وعاصمتها أكثر من مرة، وبدا وكأن شمس الروم البيزنطيين توشك على الغروب. ثم إن عصر الأمويين حمل عنصرا جديدا في عهد الوليد بن عبد الملك؛ إذ فتح المسلمون الأندلس وتوغلوا في جنوب فرنسا، وكادوا أن يصلوا إلى باريس لولا أن هُزِمت جيوشهم في معركة شارل مارتل (بلاط الشهداء)، وهي المعركة التي نجهل حتى الآن كيف وقعت هزيمتها لانعدام المصادر التي فصَّلت هذا الأمر. وبالجملة، فكأن الأمويين كانوا كالجسم الذي يحيط بذراعيه كل مساحة الغرب المعروف ويوشك أن يحتويه ويضمه إليه.
إلا أن الدولة الأموية ضعفت قبل أن تحقق هذه الـمُنى الواسعة، وورثتها الدولة العباسية التي انتقلت عاصمتها إلى الشرق مما أثر بالضعف على الفتوحات في جبهة الروم، وفي ذات الوقت انفصلت الأندلس بقيادة بقية الأمويين عبد الرحمن بن معاوية الداخل، فتجمدت فتوحات المسلمين على الجبهتين، وتحولت إلى الضربات المستمرة والاستنزاف المستمر وإلقاء الهيبة في قلوب الروم، ونستطيع القول بأنه قد استقرت الحدود بين الدولة الإسلامية وبين الروم في ذلك الوقت على الجبهتين: العباسيين والبيزنطيين، والأندلس وبلاد الغال (فرنسا)، وإن لم يخل الأمر من غارات متبادلة وحملات غير مستقرة وتوغلات بعضها خطير، وفي كل هذا كانت اليد العليا -في الأغلب- للمسلمين.
في المشرق ظل وضع التفوق العسكري للمسلمين طوال العصر العباسي الأول، وصدرا من العصر العباسي الثاني، وحتى لما ضعفت الخلافة العباسية في بغداد قامت الدولة الطولونية ثم الإخشيدية (وكلاهما في مصر والشام) ثم الحمدانية (في الشام) بواجب جهاد الروم، إلا أنه دائر في مجال الاستنزاف والغارات ولم يحقق تقدما حقيقيا في أرض الروم، وبقدر ما عجز الروم عن استغلال ضعف الخلافة العباسية في ذلك الوقت في تحقيق تقدم على حساب الدولة الإسلامية، بقدر ما عجزت الخلافة العباسية عن تحقيق تقدم مثله، إذ كان كل طرف منشغلا بما يهدده؛ كتمردات الزنج والصفاريين والقرامطة بالنسبة للعباسيين، وتمردات البلغار والأرمن والنزاعات الداخلية في بلاط القسطنطينية.
ثم انقلب الحال مع الربع الأول من القرن الرابع الهجري، إذ زاد ضعف الخلافة العباسية وسيطر عليها البويهيون، وبرز في الدولة البيزنطية أباطرة أقوياء -أهمهم نقفور فوكاس- استطاعوا تحقيق تقدم مفاجئ وخطير داخل الأراضي الإسلامية، وهزموا الحمدانيين في الشام، واستولوا على مدن الثغور، بل على عاصمة الجهاد في الثغور “طرسوس”، واجتاحوا حتى حلب عاصمة سيف الدولة الحمداني وأنطاكية التي هي أحصن مدن الشام، ثم حالت الاضطرابات في بلاط بيزنطة دون استكمال هذا التقدم إلى أخطر من ذلك، حتى جاءت العاصفة السلجوقية.
انبعثت الدولة السلجوقية من الشرق، ثم تقدمت بسرعة كبيرة تجاه الغرب فأزالت الدول التي في طريقها، بما فيها البويهيين، وسيطر السلاجقة على الخلافة العباسية ذاتها، وانطلقوا غربا وشمالا، واقتحموا بلاد الروم، وأنزلوا بهم إحدى الهزائم التاريخية الساحقة في موقعة ملاذ كرد (463هـ) التي قضت على كل أمل في التوسع داخل الأراضي الإسلامية بل وأعادت في أذهان البيزنطيين ذكر العاصفة الأموية والتهديد الوجودي، وكانت اندفاعة الدولة السلجوقية من القوة بحيث إنها لما انقسمت على نفسها كان قسم منهم عُرِف بـ”سلاجقة الروم” قد استولى على نصف آسيا الصغرى.
وما إن ضعف سلاجقة الروم وتفرقوا حتى كانت أوروبا الكاثوليكية تتمخض عن واحد من أهم حوادث التاريخ وأكثرها شهرة: الحروب الصليبية.
لكن، وقبل أن ندلف إلى الحروب الصليبية، نتوقف عند علاقة المسلمين بالشطر الغربي من أوروبا، من جهتي الغرب والجنوب.
أما في الغرب فقد مَثَّلت جبال البرنييه (وتسمى البرانس) ذات الحد الطبيعي الفاصل الذي مثلته جبال طوروس بين المسلمين والروم، لكن الجزء الصغير في شمال غرب الجزيرة الإيبرية الذي لم -يفتحه المسلمون أول أمرهم- مثَّل جبهة الغرب في الصراع الإسلامي الغربي، إذ ظل هذا الجزء يكبر رويدا رويدا –وبالذات في لحظات الضعف والتمزق الأندلسي- حتى تحول إلى مملكة ليون، ثم صار يشمل كل الجزء الشمالي من الجزيرة، ورغم أنه انقسم على نفسه إلى ممالك كثيرة، ورغم أن فترات القوة الإسلامية -وذروتها في القرن الرابع الهجري- أعادت كل هذه الأجزاء إلى الانكماش الجغرافي والضعف السياسي، إلا أن النظرة العامة لمسيرة التاريخ تشهد بأن هذا الجزء صار يتسع رويدا رويدا حتى تحول إلى خطر حقيقي وتهديد وجودي في منتصف القرن الخامس الهجري، وقد كانت الأندلس حينئذ في عصر ملوك الطوائف، واستطاعوا إسقاط أول عاصمة كبرى للمسلمين (طليطلة 478هـ)، لولا أن جاء المدد من المرابطين بالمغرب فأوقف هذا التقدم الإسباني لقرن على الأقل.
وأما في الجنوب فقد تضافرت عدة عوامل على دخول المسلمين على خط الصراع بين والي صقلية والإمبراطور الروماني، التجأ على إثرها قائد الأسطول الصقلي إلى الأغالبة (الذين كانوا يحكمون إفريقية -تونس- آنذاك)، وآل هذا إلى أن يفتح المسلمون صقلية (212هـ)، واستمر حكمهم لها أكثر من قرنين من الزمان (حتى 484هـ)، وشهدوا في بعض الأوقات تفوقا وقوة هددوا بها أملاك البابوية في إيطاليا حتى لقد كانت لهم حملة على روما ذاتها (232هـ)، إلا أن توسعهم في الأراضي الإيطالية لم يكن مستقرا، ثم جاءت عاصفة النورمان التي دخلت أول الأمر على خط الصراع الأوروبي الداخلي ثم تكونت لهم مملكة استولت -ضمن ما استولت- على صقلية وأنهت الحكم الإسلامي فيها.
هذا هو مجمل ما يمكن أن نسميه “الصدمة الأولى” في الصراع بين المسلمين والغرب، والذي امتد نحو خمسة قرون، منذ البعثة وحتى نهاية القرن الخامس الهجري، وهو مجرد إشارات إلى الأحداث الكبرى فحسب، وقد بدا فيه هذا الاكتساح الواسع من المسلمين للأراضي التي استولى عليها الروم من قبلهم، وأثمرت هذه الصدمة الإسلامية أوضاعا وحدودا سياسية واجتماعية ودينية استحال تغييرها.
(1) البخاري (7)، د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 2/454 وما بعدها.
(2) المباركفوري: الرحيق المختوم ص326.