واصلت السلطات المصرية خلال عام 2021 استراتيجيتها المعهودة في استخدام كافة أنواع القمع والتنكيل بحقّ الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، من مداهمات وغلق وتشميع للمقارّ، وحبس صحفيين ومنعهم من النشر، وتسييس اختيارات عضوية نقابة الصحفيين، وصولًا إلى فرض حالة من الخنق الممنهَج للمناخ الصحفي الذي أُصيب بالشلل التام، ليعود بالوضع إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث التأميم الكامل.
استراتيجية مستمرّة
اعتقل النظام المصري عشرات الصحفيين -بسبب تعبير عن آرائهم على منصات السوشيال ميديا تحديدًا- وزج بهم داخل السجون خلال هذا العام، وفق ما رصدته مؤسسة حرية الفكر والتعبير (مستقلة معنية بحرية الرأي)، ليصلَ إجمالي عدد الصحفيين المحبوسين حتى ديسمبر/ كانون الأول الجاري إلى 65 صحافيًّا وصحافية.
ومن أبرز الأسماء التي اعتقلتها السلطات المصرية رئيس تحرير جريدة “الأهرام” الأسبق، عبد الناصر سلامة، الذي ألقت قوات الشرطة القبض عليه في 18 يوليو/ حزيران الماضي، بعد نشره عبر حسابه على فيسبوك مقالًا ينتقد فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي وإدارته ملف أزمة سدّ النهضة، محمّلًا إياه مسؤولية الفشل في هذا الملف، ومطالبًا بتنحّيه عن رئاسة الجمهورية وتقديم نفسه إلى المحاكمة.
كذلك الصحفي بقناة “الجزيرة” ربيع الشيخ، الذي ألقت أجهزة الأمن بمطار القاهرة الدولي القبض عليه، فور عودته من العاصمة القطرية الدوحة في زيارة قصيرة لعائلته، وفقًا لموقع القناة، رغم التقارب المصري القطري في الآونة الأخيرة وظهور مراسلي قنوات “الجزيرة” من القاهرة مباشرة.
من أقبح صور الانتهاكات التي تعرّضت لها المنظومة الصحفية خلال العام الجاري الانتقائية والتسييس، واللتين باتتا المعايير الحاكمة لعملية توفيق أوضاع المواقع الصحفية، واختيار الصحفيين لعضوية النقابة.
وتصدّر شهر سبتمبر/ أيلول الماضي قائمة الأكثر تنكيلًا بالصحفيين، حيث شهدَ 25 انتهاكًا بحقّ صحفيين، تصدّرها انتهاكات المحاكم والنيابات بـ 16 انتهاكًا، تلاها الحبس والاحتجاز المؤقت بـ 4 انتهاكات، ثم منع البرامج والتغطية بـ 3 انتهاكات، وتساوت القرارات الإدارية التعسفية مع انتهاكات السجون بانتهاك واحد لكل منهما، بحسب المؤسسة الحقوقية المعنية بحرية التعبير.
تضييق الخناق تجاوزَ صحفيي مصر إلى الصحفيين الأجانب، حيث منعت السلطات المصرية الصحفي الإيطالي جاستون زاما من دخول البلاد، لإعداد تقرير صحفي عن الباحث المعتقل باتريك جورج، وذلك في أغسطس/ آب الماضي، رغم تدخُّل سفارة بلاده في القاهرة للسماح له بالحصول على هذا التصريح، لكن دون جدوى، بحسب ما ذكر موقع “مدى مصر“.
وفي إطار التضييق على الحريات الإعلامية، حجبت السلطات المصرية العديد من المواقع الإخبارية، آخرها موقع “180 تحقيقات” الذي فوجئ المسؤولون عنه بحجب رابط الموقع الإلكتروني بشكل نهائي داخل مصر، دون أي إخطار من أية جهة رسمية، أو حتى معرفة أسباب الحجب، ليُضاف إلى أكثر من 500 موقع تمَّ حجبهم منذ عام 2017 وحتى اليوم.
وقف الصحف المسائية
الانتكاسة التي يتعرّض لها الإعلام في مصر تجاوزت الاستهداف الشخصي إلى التصفية المؤسَّسية، حتى لدى الكيانات القومية المملوكة للدولة، فبجانب غلق مئات الصحف والمواقع الخاصة، فوجئت الأسرة الصحفية في يوليو/ حزيران الماضي بقرار إيقاف النسخ الورقية للصحف المسائية الحكومية، وتحويلها إلى منصات إلكترونية.
القرار الذي أصدرته الهيئة الوطنية للصحافة (هيئة حكومية تقوم على إدارة المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة وتطويرها)، تضمّن وقف إصدارات “الأهرام المسائي” (الصادر عن مؤسسة “الأهرام”)، و”الأخبار المسائي” (الصادر عن مؤسسة “أخبار اليوم”)، و”المساء” (الصادرة عن مؤسسة “دار التحرير للطبع والنشر”)، وتحويلها إلى إصدارات إلكترونية فقط، بجانب قرار سابق تعلّقَ بوقف التعيينات بداخل المؤسسات الحكومية لتقليل النفقات.
أحدثَ القرار صدمة داخل الوسط الإعلامي المصري، ليعيدَ ملف مستقبل الصحافة الورقية للأضواء مرة أخرى في ظل سياسة ممنهَجة، لتقليل عدد الإصدارات وتقزيم حضورها، بالتزامن مع خفض حجم العمالة في الصحافة بصفة عامة، محرريين وإداريين وفنّيين، وهو ما يتناغم بشكل أو بآخر مع حلم الرئيس السيسي في إعادة إعلام عبد الناصر، حيث محدودية الوسائل الإعلامية ووحدة رسالتها الداعمة على طول الخط لتوجُّهات النظام وخدمة أهدافه.
عشرات الصحفيين أعربوا عن تخوفهم من أن يكون هذا القرار نقطة بداية لحزمة من القرارات الأخرى التي تستهدف الصحف الورقة ومن بعدها المواقع الإلكترونية، وهو ما يهدِّد مستقبل الصحافة والأسرة الصحفية بصفة عامة، في ظل سياسة التقشُّف التي تطالب بها الحكومة في الحقل الإعلامي، في الوقت الذي تفتح فيه البلاد خزائنها أمام المشاريع في المجالات الأخرى، ما يعطي انطباعًا عامًّا عن مكانة الإعلام لدى قائمة أولويات النظام.
استهداف الصحفيين لم يقتصر على صحفيي الداخل فقط، بل واصلت السلطات المصرية -هذا العام أيضًا- مطاردة الإعلاميين خارج الحدود.
تسييس وتمييز
ومن أقبح صور الانتهاكات التي تعرّضت لها المنظومة الصحفية خلال العام الجاري الانتقائية والتسييس، واللتين باتتا المعايير الحاكمة لعملية توفيق أوضاع المواقع الصحفية، واختيار الصحفيين لعضوية النقابة.
ففي نهاية أبريل/ نيسان الماضي أقام المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام (الجهة المنوط بها إدارة الإعلام في مصر) احتفاليتَين، لتسليم قرابة 50 موقعًا صحفيًّا، أغلبها من الصحف القومية، شهادات اكتمال الترخيص، وذلك في إطار عملية توفيق أوضاع المواقع الصحفية الإلكترونية التي تصدر في مصر، تطبيقًا لقانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018 ولائحته التنفيذية، ولائحة التراخيص التي أصدرها المجلس العام الماضي بقرار رقم 26 لسنة 2020.
المواقع التي تمَّ منحها التراخيص أثارت الكثير من التساؤلات حول المعايير الحقيقية للاختيار، لا سيما أنه قد تقدم أكثر من 200 موقع بطلبات مستوفاة الشروط، لكنها لم تحظَ بما حظيت به غيرها، وحين السؤال عن أسباب التأجيل أو الرفض، لم يحصل مسؤولو تلك المواقع عن إجابات واضحة من قبل المجلس الأعلى للإعلام.
غير أن السمة الأبرز للمواقع التي لم تحصل على ترخيص، أنها تتشارك في تقديم محتوى يُشتبه بمعارضته أو انتقاده للسياسات القائمة، أو محاولة التغريد بعيدًا عن السرب في البحث عن روايات أو سرديات للوقائع والأزمات بعيدة عن تلك التي تقدّمها الحكومة، وهو ما أشارت إليه بعض المؤسسات المعنية بحرّية التعبير في مصر، والتي أشارت إلى أن التمييز بين المواقع الصحفية الإلكترونية يكون بالأساس وفقًا لطبيعة المحتوى المقدَّم، وكذلك ماهية القائمين عليه.
ومن معيار التسييس لمنح التراخيص للمواقع الصحفية، إلى تصنيف المتقدمين للحصول على عضوية نقابة الصحفيين إلى مؤيدين ومعارضين، والذي على أساسه يكون منح العضوية؛ فقبل أيام قليلة أعلنت لجنة القيد بنقابة الصحفيين قبول دفعة جديدة من الصحفيين، فيما رفضت اللجنة قبول العشرات وأجّلت المئات دون مبررات واضحة، ما أثار الشكوك في طبيعة الاختيارات ومعايير القبول، التي لم تخرج هي الأخرى عن دائرة التمييز وفق الانتماء السياسي.
ومن أبرز المرفوضين في لجنة القيد بالنقابة الصحفي محمود السقا، الذي جاء رفضه على خلفية موقفه السياسي الذي دفع ثمنه مرارًا من قبل (كان من المشاركين في المظاهرات الرافضة للتنازل عن جزيرتَي تيران وصنافير للسعودية، حيث اعتصمَ بمقرّ النقابة مطلع مايو/ أيار 2016، وأُلقي القبض عليه برفقة الصحفي عمرو بدر، عضو مجلس النقابة السابق)، مؤكدًا أنه سيسلك كل الطرق القانونية لنيل حقّه الشرعي في عضوية النقابة.
وفي الوقت الذي ترفض فيه نقابة الصحفيين عشرات المشهود لهم بالمهنية من زملائهم ورؤسائهم في العمل، تفتحُ النقابة ذراعها لعدد من المرشّحين الموالين للنظام الحاكم، رغم الطعون الكثيرة التي قُدِّمت ضدهم، ومنهم بعض نواب البرلمان الحاليين وعلى رأسهم النائب محمود بدر، زعيم حركة تمرد التي قادت التظاهر ضد الرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013.
يسعى الرئيس المصري بشتّى السبل لتطبيق نموذج إعلام عبد الناصر في ولايته الثانية، استكمالًا لما بدأه في ولايته الأولى التي شهدت حزمة من القوانين التي أغلقت الباب نهائيًّا أمام الحريات، وحبست الإعلام داخل قفص ضيّق محاط بسياج تشريعي محكم.
استهداف الصحفيين لم يقتصر على صحفيي الداخل فقط، بل واصلت السلطات المصرية -هذا العام أيضًا- مطاردة الإعلاميين خارج الحدود، أبرزهم الإعلاميَّين هيثم أبو خليل وحسام الغمري، حيث مارسَت القاهرة ضغوطًا كبيرة لمنعهما من الظهور على قناة “الشرق” التي تتّخذ من تركيا مقرًّا لها، ليلحقا بزميلَيهما معتز مطر وهشام عبد الله في القناة نفسها، والإعلاميَّين محمد ناصر وحمزة زوبع من قناة “مكملين الفضائية”، بحسب بيان صادر عن المرصد العربي لحرية الإعلام (مستقل).
وعلّقَ المرصد على هذا الاستهداف بأنه دليل جديد على عداوة النظام المصري الشديدة لحرية الصحافة، ورغبته القوية في إسكات كافة الأصوات في الداخل والخارج على حد سواء، طالما كانت تغرّد بعيدًا عن السرب الرسمي للدولة، وهو ما يمكن قراءته في وقف العديد من البرامج والإعلاميين، بعضهم معروف ولائه الشديد للنظام.
في 5 أغسطس/ آب 2014 كشف السيسي مبكّرًا عن رؤيته لمنظومة الإعلام في بلاده، متباهيًا بفترة الستينيات، قائلًا: “يا بخت عبد الناصر بإعلامه”، وهي تلك المرحلة التي كان الصوت الواحد عنوانها الأبرز، فلا مجال للتنوع أو الاختلاف، بل إن عبد الناصر نفسه -الذي يأمل السيسي أن يكون مثله في التعامل مع الإعلام- لم يرحم حتى من وقفوا معه بداية حكمه، ودعموه قبل الثورة من الإعلاميين، فسجنَ إحسان عبد القدوس، وحاصرَ أحمد أبو الفتح، وصادرَ صحيفة “المصري”، ونالَ من حلمي سلام.
يسعى الرئيس المصري بشتّى السبل لتطبيق نموذج إعلام عبد الناصر في ولايته الثانية، استكمالًا لما بدأه في ولايته الأولى التي شهدت حزمة من القوانين التي أغلقت الباب نهائيًّا أمام الحريات، وحبست الإعلام داخل قفص ضيّق محاط بسياج تشريعي مُحكَم، وأرهبت بشكل غير مسبوق من هم خارج الصندوق.