تبدأ مرحلة جديدة منذ نهاية القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجري، حتى منتصف القرن السابع الهجري، ونستطيع أن نقول بأنها مرحلة الحروب الصليبية التي حققت إنجازات مهمة وغير متوقعة كذلك في الجهات الثلاث: الشرقية والجنوبية والغربية، إلا أن أوسعها نجاحًا كانت في الجهة الغربية حيث سقطت حواضر الأندلس ولم يبق منها سوى جزء صغير في الجنوب هو مملكة غرناطة، بينما كان أقلها نجاحًا في الجبهة الجنوبية إذ لم يستطع الروم الاستقرار في جزء من الشمال الأفريقي، بينما كانت الجبهة الأكثر شراسة واشتعالاً وأهمية والتهابًا هي جبهة الشام التي شهدت أشهر حدث في التاريخ: الحروب الصليبية.
فأما في الجهة الغربية حيث الأندلس، فقد أوقف المرابطون زحف ألفونسو السادس وأوقعوا به هزيمة ساحقة في سهل الزلاقة (479هـ) محطمين بذلك كل آماله في “حرب الاسترداد”، غير أنهم عجزوا عن استرداد طليطلة – في وسط شبه الجزيرة الإيبرية – واحتفظت سرقسطة – في الشمال الشرقي – بنوع من الاستقلال الذاتي عن دولة المرابطين، ثم لم يستقم أمر الأندلس تحت ظل ملوك الطوائف؛ فضم المرابطون الأندلس إليهم، وعاد التوحد بين الأندلس والمغرب مرة أخرى، ثم لما ضعف المرابطون ورثهم الموحدون في المغرب والأندلس، وكانت لهم معركة أخرى جليلة مع الإسبان هي معركة الأرك (591هـ) انتصروا فيها نصرًا تاريخيًا يشبه الزلاقة، إلا أنه لم تمر نحو عشرين سنة إلا ونزلت بهم هزيمة تاريخية أقسى في معركة العقاب كانت نذير نهاية دولة الموحدين، والتي كان سقوطها سببًا مباشرًا في سقوط حواضر الأندلس الزاهرة مثل قرطبة وأشبيلية وما حولهما شرقًا وغربًا حتى لم يبق للمسلمين في شبه الجزيرة إلا غرناطة في الجزء الجنوبي، وقد عمل انقسام الغربيين إلى ثلاث ممالك على إطالة عمر غرناطة لثلاثة قرون أخرى؛ وبهذا فقد الإسلام قطعة غالية من أرضه وواحدة من أزهي وأنضر درر حضارته.
وأما في الجهة الجنوبية فقد أدى سقوط صقلية بأيدي النورمان مع ضعف العبيديين (الفاطميين) في الشمال الأفريقي إلى محاولات نورمانية متكررة لاحتلال ساحل إفريقية (تونس)، نجحت خلال نصف القرن السادس الهجري الأول في الاستيلاء على مدينة “المهدية” من بني زيري والسيطرة على الساحل الممتد من طرابلس إلى تونس وبعض موانئ برقة وتهديد القيروان، لكن توقف هذا التوسع مع وفاة روجر الثاني، ثم جاءت دولة الموحدين فاستردت هذه المدن وطهرت الساحل الشمالي من النورمان، فعاد البحر ليكون حدًّا بين المسلمين والروم.
ونعود إلى الجبهة الأكثر اشتعالاً والتهابًا والأشرس قتالاً واشتباكًا، إلى الشام حيث الحملات الصليبية، فلقد أشعل البابا أوربان الثاني من فرنسا شرارة حملة صليبية لكنها لم تقتصر على واحدة بل وصلت إلى ثماني حملات كبرى هاجمت المشرق إلا واحدة هاجمت إفريقية (تونس) وأدرجناها ضمن الحملات الصليبية على المشرق للارتباط بها.
زعم أوربان أن المسلمين يقتلون الحجاج النصارى إلى القدس ويعتدون على المقدسات المسيحية في الشرق، وكان نداؤه بتجهيز جيش كبير لغزو الشرق أمرًا اجتمعت له عدد من العوامل فبلغ غايته، من هذه العوامل ما حققه الإسبان من انتصارات على الأندلسيين والنورمان على المسلمين، وكذلك استغاثة البيزنطيين بالبابوية – رغم الخلافات العميقة – أمام انتصارات السلاجقة، واستيلاء سلاجقة الروم على نصف أسيا الصغرى، كذلك فإن حالة الفقر في أوروبا والأوضاع الاجتماعية أفرزت طبقات ساخطة وتسعى لتحسين وضعها، فكان كل ذلك مما وفَّر للدعوة الصليبية رجالاً وأوضاعًا تلبي حاجتها.
انطلقت إلى الشرق ثماني حملات: الأولى والثانية والثالثة والسادسة إلى الشام، والرابعة إلى بيزنطة، والخامسة والسابعة إلى مصر، والثامنة إلى إفريقية.
استطاعت الحملة الأولى تغيير أوضاع الشرق وتلقى المسلمون هزيمة تاريخية قاسية فقدوا فيها كل الساحل الشرقي بالإضافة إلى فقدانهم بيت المقدس، وهو أول مُقدَّس يفقده المسلمون في تاريخهم، وأنشأت الحملة الأولى أربع ممالك صليبية في الشرق هي: الرها، أنطاكية، طرابلس، بيت المقدس. وكان المسلمون في ذلك الوقت من الضعف والتفرق في حال مزرية، فالشام منقسم على نفسه، وقد ضعفت الخلافة في بغداد، وسلاجقة الروم في الشمال، والعبيديون في مصر، واستغرق وقت إخراج حركة جهادية قوية نحو أربعين عامًا، حتى ظهر “عماد الدين زنكي” الذي وحد الموصل وحلب وكاد أن يوحد معهم دمشق، والأهم من هذا أنه استطاع تحرير إمارة الرها.
على إثر هذا النصر تحركت حملة صليبية ثانية إلى الشام، وأرادت أن تسيطر على دمشق – التي كانت في علاقة تحالف ومهادنة مع الصليبيين – فتكسب بذلك أكثر من مكسب: تضرب الحركة الجهادية الزنكية وتسبقها إلى دمشق، ثم تأخذ لملوكها وأمرائها إمارات وممالك جديدة، وتستأثر بخيرات هذه الأرض دون من سبقوهم من الصليبيين، وبسبب هذا الطمع والاختلاف بين الأمراء هُزِمت الحملة بمقاومة عسكرية من دمشق – التي اضطرت للتحول من موقع الخيانة إلى موقع الجهاد – ومعها حلب وبإسناد من مقاومة شعبية باسلة حتى فشلت وعادت خائبة.
وفيما حاول الصليبيون في المشرق – من بعدها – الاعتماد على أنفسهم أو حتى الدخول في حلف مع بيزنطة للسيطرة على مصر التي وصل العبيديون فيها إلى حال شديد من الضعف، استطاع “نور الدين بن عماد الدين زنكي” من خلال قواده العسكريين من أسرة أيوب أن يسبقهم إلى مصر، وكان المصريون عاملاً حاسما في الانحياز نحو نور الدين، حتى استطاع قائده “صلاح الدين الأيوبي الكردي” توحيد مصر مع الشام وإلغاء الخلافة العبيدية (الفاطمية) والاندراج تحت الخلافة العباسية التي لم تكن أكثر من اسم وشرعية في ذلك الوقت؛ وبهذا أنجز نور الدين إنجازيْن كبيريْن: توحيد الشام، ثم توحيد الشام ومصر، مما أثخن في الصليبيين وأوقع بهم من انتصارات مؤثرة وإن لم تكن فاصلة.
وفيما مات نور الدين قبل استكمال أحلامه في التحرير فقد استكمل قائده صلاح الدين هذا الطريق، واستطاع أن يستدرك الاضطرابات التي وقعت في الشام بعد موت نور الدين وأن يبني على ما سبق من إنجازات ثم يأتي بالنصر الحاسم في موقعة “حطين” التي استرد المسلمون على إثرها درة مقدساتهم: بيت المقدس.
كان لسقوط بيت المقدس دوي هائل في أوروبا جاءت على إثره الحملة الصليبية الثالثة التي حملت زعماء أوروبا الكبار: ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وفيليب أغسطس ملك فرنسا، وفريدريك بربروسا ملك ألمانيا، فأما جيش ألمانيا فلم يصل إلى الشرق إلا وهو في أضعف حالاته بسبب ما مرَّ به من مآسٍ على يد البيزنطيين وما نزل به من أمراض وأوبئة وكروب، وأما جيشا فرنسا وإنجلترا فقد استطاعا استعادة ما استرده صلاح الدين من الساحل، وعجزا عن استعادة بيت المقدس، وانتهى الأمر بصلح الرملة الذي يعد تراجعًا عن انتصارات صلاح الدين، لكنه يعد هزيمة بالنسبة لحملة صليبية بهذه الضخامة.
توفي صلاح الدين بعد بضعة أشهر من صلح الرملة، ودخل الأيوبيون بعده في نزاعات داخلية أتاحت فرصة ثمينة للصليبيين في البقاء وتحسين أوضاعهم، كما أنعم الله على المسلمين بأن تنحرف الحملة الصليبية الرابعة عن هدفها، فبدلاً من توجهها نحو القدس اتجهت – لأسباب أهمها مالية – نحو أملاك الدولة البيزنطية، فانتهى الحال أن توجهت نحو القسطنطينية ودخلتها وأنشأت فيها حكمًا لاتينيًا، وكفى الله المسلمين القتال وهم في هذه الحال القبيحة، وإلا لتوقعنا أن تكتسح هذه الحملة الشام بكل سهولة، كيف وهي التي لم تصمد أمامها القسطنطينية ذاتها!
انتقلت القوة السياسية في عهد الأيوبيين من الشام إلى مصر، فكان أن فكرت الحملة الصليبية السادسة في غزو مصر لإنهاء القوة السياسية والاستفادة من القوة الاقتصادية؛ فمصر بطبيعة الحال أثرى وأغنى بكثير من الشام، فتوجهت الحملة إلى دمياط وهناك وجدت مقاومة شديدة فضربت حصارًا طويلاً استمر عامًا ونصف حتى اقتحمتها، ثم توجهت إلى المنصورة، وهناك استطاع المصريون إنزال هزيمة فادحة بالحملة الصليبية التي عادت مدحورة وانتهى أمرها بالفشل الذريع.
ثم كانت الحملة الصليبية السادسة هي أغرب الحملات، وهي وحدها دليل على أن السياسة الفاسدة أضر على المسلمين من أعدائهم، فهذا الملك “الكامل الأيوبي” كان قد عرض التنازل عن بيت المقدس للصليبيين في الحملة الخامسة مقابل جلائهم عن دمياط، لكن قائد الحملة رفض ذلك وظن أنه قادر على احتلال القاهرة، والحمد لله أنه رفض فانتهى حاله إلى الهزيمة، إلا أن هذا الكامل ظل على سياسته القبيحة هذه، حتى فعل هذه الفضيحة: لقد استعان الكامل بالملك فريدريك الثاني -الألماني المحب للعلوم العربية، الذي اتخذ صقلية عاصمة حكمه – على خصمه الملك “المعظم الأيوبي”، وأعطاه وعدًا بأن يسلمه القدس في مقابل ذلك، ثم ما لبث الحال أن تغير بموت المعظم ولم يعد الكامل في حاجة لحلف فريدريك، إلا أنه وَفَّى له بالوعد وأعطاه القدس بغير مقابل إلا ما بينهما من صحبة ومودة، هذا برغم أن فريدريك كان منبوذًا من الكنيسة وفي أضعف حالاته بل وعرض الصليبيون على الكامل أن يحاربوا فريدريك فرفض! واستطاع فريدريك بجيش هزيل بلغ في بعض المصادر 600 جنديًا فقط أن يحقق ما عجز عنه ريتشارد قلب الأسد بجيوش أوروبا، وما ذلك إلا لفساد السياسة (1)، ثم استعاد الملك “الصالح الأيوبي” – بعد أن انقلب على ابن الكامل – القدس مرة أخرى مستعينًا بالخوارزميين الفارين من وجه الزحف المغولي.
وقد حاول ملك فرنسا “لويس التاسع” أن يستفيد من ظروف الحملتين السابقتين، فوضع خطته بحيث يهاجم دمياط مستغلاً النزاع الأيوبي الداخلي ثم يستبدل بها بيت المقدس من خلال التفاوض مع الصالح الأيوبي، واستطاع بعد قتال عنيف أن يستولي على دمياط ثم تقدم إلى المنصورة، ولكن المقاومة الشعبية المصرية أنهكت جيشه الصليبي في حروب عصابات استنزافية مؤثرة، حتى استطاع جيش الصالح الأيوبي بقيادة ابنه “توران شاه” (وكان الصالح قد مات وكتمت امرأته شجر الدر خبر الوفاة) أن يستعيد دمياط ويأسر لويس التاسع في هزيمة تاريخية قاسية.
حاول لويس التاسع أن يعيد الكرة لكن هذه المرة في تونس التي ظن سهولة أخذها، فَدَشَّن إليها الحملة الصليبية الثامنة، وإذ به يفاجأ هناك بمقاومة باسلة من دولة الحفصيين بقيادة سلطانهم “المستنصر بالله”، ثم لم يلبث غير شهر حتى مات وعاد جنوده برفاته إلى فرنسا.
ثم صُفِّي الوجود الصليبي في الشام والمشرق تدريجيًا في عهود المماليك ثم العثمانيين الذين كانوا أصحاب الضربة القاصمة.
(1) جدير بالذكر هنا أن فريدريك هذا هو الذي أباد من بقي من المسلمين في صقلية بلا رحمة، ولم تُجدِ معه نفعا رسائل الكامل التي حاول بها إيقاف هذه المذبحة بين المسلمين (ابن نظيف الحموي: التاريخ المنصوري ص194)، وجدير بالذكر أيضا أن الكامل كان قد عهد إلى المؤذنين في القدس ألا يصعدوا المنابر ولا يؤذنوا في الحرم مراعاة لصديقه فريدريك. (المقريزي: السلوك 1/354).