في الداخل المحتل، تشكّل منطقتا النقب في جنوب فلسطين التاريخية والجليل في شمالها معضلة لدى الاحتلال الإسرائيلي، لما تضمّه من ثلثَي السكان الفلسطينيين، وتشكّل قوى عربية وكثافة للوجود العربي فيهما، الأمر الذي تحاول سلطات الاحتلال تغييره بسياسات كسر هذا الوجود، وزعزعة تماسكه، ومحاولة فصل تقاربه.
ومن سبيل ذلك، أصدرت حكومات الاحتلال المتعاقبة عددًا من الخطط الحكومية لإحلال المستوطنين، خاصة في النقب المحتل، إلّا أنها باءت بالفشل، نظرًا إلى كثافة الحضور الفلسطيني فيها، وعدم تشكُّل “بيئة آمنة” للمستوطنين للعيش وسط العرب في مدن مختلطة، خاصة بعد ما أفرزته التجربة من مشاكل المدن المختلطة، و”الخطر” على حياة المستوطنين، ما دفع الكثيرين منهم للعزوف عن القبول بأن يكون في خطة استيطانية قد تودي بحياته.
تقع المشكلة الكبرى في النقب مع مساحات كبيرة من الأرض تقارب نصف فلسطين التاريخية، ففي عام 2005 أقرّت الحكومة ما سُمّي بـ”الخطة القومية الاستراتيجية لتطوير النقب”، والتي تهدف إلى زيادة عدد اليهود في النقب ليصل إلى مليون نسمة، في الوقت الذي لا تزيد أعداد العرب عن 200 ألف نسمة، ورغم ذلك ما زال الصمود العربي فيها يثير مخاوف الاحتلال من تشكُّل قوة عربية معارضة، وعليه تسعى حكومة الاحتلال جاهدة لشرذمة هذه القوة.
محاولات التشجير مستمرة
بعد فشل الاحتلال في إقناع مستوطنيه في العيش في النقب المحتل، رغم جميع التسهيلات والإغراءات التي قدّمها لهم في محاولات سلب الأرض الفلسطينية، بدأ يلجأ إلى خيار إحلال الشجر وتوطين الغابات بدلًا من المستوطنين، والهدف واحد: مصادرة الأرض الفلسطينية.
الحقيقة أن استهواء فكرة تحويل النقب إلى أراضٍ زراعية في العقل الصهيوني ليست بجديدة، ففي القرن الماضي شكّل الاحتلال وحدة “الدوريات الخضراء” للتضييق على البدو الفلسطينيين في النقب، بحجّة اعتدائهم على أراضٍ زراعية تملكها الدولة.
لاحقًا، في عام 2011، رصدت حكومة الاحتلال ميزانية قيمتها 25 مليون دولار للشروع في تنفيذ مخطط يقضي بإقامة 100 مزرعة جديدة، إضافة إلى 41 مزرعة فردية أقامها اليهود بشكل غير قانوني على أراضي الفلسطينيين في النقب، وستخصَّص مساحة مقدارها 80 دونمًا مجّانًا لكل عائلة يهودية توافق على الاستيطان بالمنطقة.
في عام 2020، كشفت صحيفة “هآرتس” أن الصندوق القومي اليهودي أطلق عمليات لتشجير نحو 40 ألف دونم من أراضي النقب، بهدف إبعاد أصحاب هذه الأراضي من قريتَي شقيب السلام وأبو تلول عنها، ومنعهم من استخدامها لأغراض الرعي والزراعة، وأقرّت الصحيفة، نقلًا عن مصادر مختلفة، أن عملية التشجير تحت “ذريعة منع البدو العرب من السيطرة على هذه الأراضي بادّعاء أنها أراضٍ للدولة”.
ومع بداية عام 2022، كشّر الاحتلال مزيدًا عن أنيابه في مخططاته الاستعمارية في النقب، وتوسّعَ في عمليات التشجير من خلال “كيرن كييمت ليسرائيل” (الصندوق الدائم لـ”إسرائيل” – “كاكال”)، وذلك في قرية سعوة الأطرش التي انتفض حينها، وما زال ينتفض حتى اللحظة، أهلها رفضًا لمحاولات تهجيرهم، وتأكيدًا على فلسطينية أرضهم.
وفي خضمّ ذلك، تبرِّر سلطة أراضي الاحتلال مخططات التهجير هذه بأنها “ذات طابع زراعي ومؤقت، وتهدف لمنع الاستيلاء على أراضي الدولة”، وبذلك تؤكّد على أن سياسة التشجير هذه معتمدة منذ ما يقارب 30 سنة، وتتمّ وفقًا لمخططات تصادق عليها لجنة تنسيق بين المكاتب الحكومية.
التشجير: لا قانونية، ورؤية صهيونية
في حديثه لقناة “كان” العبرية، منتصف شهر يناير/ كانون الثاني 2022، لم يخجل رئيس مجلس إدارة الصندوق القومي اليهودي، أفراهام دوفديفاني، من القول إن الصندوق “سيواصل الزراعة في النقب بأكمله، وهذا جزء من الرؤية الصهيونية”.
وأتبع تبريره المليء بالحقد الاستعماري والرؤية الاحتلالية لأرض فلسطين كغنيمة: “لقد زرعنا الأشجار في النقب منذ 15 عامًا كما هو الحال الآن، ولم يكن هناك شيء مختلف عمّا كنا نفعله كل هذه السنوات، ليس لدينا أي فكرة عمّا هو مختلف الآن، كانت التعليمات بوقف الزراعة متقطعة واستأنفنا العمل بكامل الطاقة بعد أيام قليلة”.
وبينما يناقض الاحتلال ذاته كدولة تقوم على المجازر وتسعى بمحض البراءة إلى إحلال اللون الأخضر في العالم، يناقض نفسه في عمليات التشجير أيضًا، إذ يقتلع “الصندوق الدائم لـ”إسرائيل” أشجار الزيتون والأشجار المحلية التي يزرعها عرب النقب، كما حدث خلال اقتلاع أكثر من 4000 شجرة في قرية العراقيب وتحريش مكانها.
إذ تحرث جرّافات الاحتلال المحاصيل وتدمرها، ومن ثم ينتقل إلى مرحلة التحريش وبناء الغابات الأوروبية على أرض النقب، وحينها تستهلك الأشجار الصنوبرية المياه الجوفية في النقب مع شحّ الأمطار، وتدمَّر الأوضاع الزراعية في القرى مسلوبة الاعتراف.
بحسب مختصين في الشأن الإسرائيلي، فإن مشروع التشجير هو مرحلة أولى، يليها لاحقًا إعلان الاحتلال عن الأراضي كغابات ومحميات طبيعية، وذلك لشرعنة مصادرة الأراضي.
مؤخرًا، أكّد مركز “عدالة” في الداخل المحتل لا قانونية التشجير، وشدد على أن التشجير يتمّ دون أي صلاحية أو سلطة قانونية، بل حتى أنه يتجاوز الإجراءات التي تنصّ عليها قوانين الأراضي، كما أن محاولة السلطات الادّعاء أن عمليات التحريش هي بمثابة “أشجار زراعية”، ليست سوى ذريعة هدفها استغلال إطار قانوني يتيح الالتفاف على قانون التخطيط والبناء، لتتمَّ المصادقة على التشجير بالخفاء دون خرائط تفصيلية أو تصاريح.
وإضافة إلى ذلك، إنّ أعمال التحريش تشمل أحيانًا أراضي لا تزال قيد إجراءات التسوية، وعليه إنّ عمليات التشجير لا تتسبّب فقط في الضرر المباشر من حيث قلع المحاصيل وهدم المباني والتضييق على السكان وعلى إمكانات الاعتراف بالقرى أو توسيعها، بل أنها أيضًا قد تحمل تداعيات قد تؤثر على الوضعية القانونية للأرض وحقوق ملكيتها أو استعمالها.
أخيرًا.. وبحسب مختصين في الشأن الإسرائيلي، فإن مشروع التشجير هو مرحلة أولى، يليها لاحقًا إعلان الاحتلال عن الأراضي كغابات ومحميات طبيعية، وذلك لشرعنة مصادرة الأراضي التي يعيش عليها قرابة 300 ألف فلسطيني على مساحة لا تزيد عن 3%، سعيًا لإثبات أن ملكية هذه الأرض تعود للدولة.
وعندما يتمُّ تشجير الأراضي بالأشجار، فإن الاحتلال سيتعامل معها على أنها ملك للدولة رغم الملكية الفلسطينية لها، وقد تنبّهَ البدو في النقب لهذه الخطوات، وانتفضَ وجمع معه الفلسطينيين من مختلف مناطق الداخل المحتل في انتفاضته على كل محاولات الصهيونية، لمنع نكبة أخرى تحلُّ بفلسطين.