في المنتصف، بين المدينة المقدسة ومهد المسيح عليه السلام في بيت لحم، تتربّع قرية صغيرة كثيرة العيون والينابيع، وتربتها في ريعان شبابها لا تنضب عن خصوبتها، شهدت تاريخ فلسطين بماضيه وحاضره، وسُجِّلت كإحدى أقدم القرى الفلسطينية وجودًا على الأرض المحتلة، ومنها مرت سكة حديد القدس-يافا التي بناها العثمانيون مطلع القرن العشرين، فكانت طبيعة تكوينها وحسن موقعها الذي اتخذته سببَين في أن تكشّر الصهيونية عن أنيابها مرارًا وتكرارًا، محاولةً الاستيلاء على كامل القرية التاريخية: قرية الولجة.
بعدما كانت القرية تتربّع على مساحة 17.8 ألف دونم قبل النكبة، ضاق الحيّز الفلسطيني فيها حتى وصل الآن إلى 4 آلاف دونم فحسب، وتنقسم هذه الدونمات القليلة بين الضفة الغربية والقدس، وما زالت حتى اللحظة تواجه هذه القرية الصغيرة الخطط الاستيطانية ومحاولة طمس كلّ معلَمٍ وإنسانٍ فلسطيني فيها.
قبل نكبة 1948، كان يعيش في قرية الولجة أكثر من 1600 فلسطيني، وقد هُجِّر معظمهم خلال الحرب إلى مخيمَي “شعفاط” في مدينة القدس المحتلة، ومخيم “الدهيشة” في مدينة بيت لحم، إضافة إلى دُول الشتات، وقد استولت مخالب العصابات الصهيونية حينها على 70% من مساحة القرية، فيما بقيَ حينها ما يقارب 100 فلسطيني على حيّز صغير من القرية، أم الآن يبلغ عدد سكانها 2700 تقريبًا، بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني.
في خمسينيات القرن الماضي، بعدما أسدلت نكبة الفلسطينيين ستارها على الواقع الاستعماري الصهيوني، أنشأ الاحتلال على أنقاض الولجة تجمعَي “أورا” و”أميناداف” الاستعماريَّين، وبعد هزيمة العرب في حزيران/ يونيو 1967، حين احتلت “إسرائيل” القدس واستولت عليها، وبسطت خلالها يدها على نصف الأراضي المتبقية من القرية، وضمّتها إلى بلدية القدس؛ أضحى البناء ممنوعًا إلا بإذن وتصريح من سلطات الاحتلال، والتي ترى في هذه الخطوة فرصة لمنع الأهالي من الحصول على الترخيص والتضييق عليهم.
الاستيطان يفترس
بالتزامن مع محاولات منع البناء وحمل السكّان على الرحيل، باشرت جرّافات الاحتلال في فترة السبعينيات هدم منازل المواطنين التي تقع ضمن حدود بلدية القدس بذريعة “عدم الترخيص”، وفي الوقت ذاته كانت آليات الاحتلال تمهّد الطريق وتدكّ الأرض لأساسات مستوطنة “جيلو”، المقامة على حساب أراضٍ للقرية المحتلة.
وتحيط بالقرية وفوق جزءٍ من أراضيها مستوطنة “هار جيلو” التي يقطنها أكثر من 15 ألف مستوطن، حيث تقوم سلطات الاحتلال ببناء وحدات سكنية جديدة لتوسيع المستوطنة، وإنشاء شبكة من الطرق الالتفافية والأنفاق لربطها مع مستوطنة “جيلو”، وخلق تواصل جغرافي بين المستوطنات الواقعة شمال مدينة القدس وجنوبها، وذلك على حساب قرية الولجة.
مع توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، صُنِّف 2.6% من مساحة القرية كأراضي “ب” التي تقع فيها المسؤولية عن النظام العام على عاتق السلطة الوطنية الفلسطينية، وتبقى لحكومة الاحتلال السيطرة الكاملة على الأمور الأمنية، فيما أُدرجت الـ 97.4% المتبقية من مساحة القرية تحت التصنيف “ج”، وهي المنطقة التي تقع بالكامل تحت سيطرة سلطات الاحتلال، حيث يُمنع البناء الفلسطيني فيها أو الاستفادة منها بأي شكل من الأشكال إلا بتصريح صادر عن الإدارة المدنية الإسرائيلية.
في مطلع القرن الـ 21، إبّان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، توسّعت الهجمة الاحتلالية على الولجة، وبدأ الاحتلال مخططاته في عزل القرية عن محيطها من خلال بناء جدار الضمّ والتوسُّع العنصري، وقد كان جزء من قرية الولجة يقع داخل نفوذ بلدية الاحتلال في القدس، إلّا أن الجدار العازل قد فصلَ بينهما تمامًا.
التضييق مستمر
على شكل متعرِّج، استقرَّ مسار الجدار العنصري الفاصل أخيرًا، واحتوى بين طياته جميع المساحات المبنية في القرية، لتصبح أشبه بسجن كبير و”كنتونات” معزولة، يصعب فيها التواصل الجغرافي بين المنطقة والأخرى، وكحال أساليب الاحتلال في مختلف الأراضي الفلسطينية، فإنه يحاول بشتى وسائله استفزاز الفلسطيني في قرية الولجة لدفعه على الرحيل.
مع بناء الجدار العنصري، فصلَ الاحتلال الأراضي الزراعية عن القرية، ونصبت سلطاته بوابات زراعية في الجدار الفاصل تتحكّم بدخول الفلسطينيين إلى أراضيهم، ليكرِّس من جديد محاولات السيطرة على الأرض من خلال تضييق الخناق، حيث شهدت تجربة البوابات الزراعية التي وضعها الاحتلال في مناطق مختلفة من الضفة الغربية تقليص السماح لأصحاب الأراضي بدخولها، ليُصار إلى المنع النهائي لاحقًا بحجّة “أمنية”.
في أواخر عام 2017، أعلنت سلطات الاحتلال عزمها نقل الحاجز العسكري المسمّى “عين ياهل”، والمعروف باسم حاجز “عين يالو” أيضًا، والواقع على الطريق بين مدينة القدس ومستوطنة “جيلو” مسافة 3 كيلومترات باتجاه قرية الولجة، الأمر الذي يؤدّي الى مصادرة نحو 3000 دونم من الأراضي الزراعية التابعة للقرية، بما فيها المنطقة التي تضمّ عين الحنية، أكبر الينابيع غرب القدس، وعين الماء الوحيدة التي تبقّت لقرية الولجة، حيث تواصل سلطات الاحتلال العمل على الحاجز العسكري الجديد ليصبح أحد المعابر المؤدية الى مدينة القدس.
ومنذ النكبة عام 1948، لم تخضع قرية الولجة لأي تطوير أو عملية تنموية تساعد الفلسطينيين على تعزيز صمودهم، بل تخلّت عنهم السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو، تزامنًا مع استمرار سلطات الاحتلال بمخططاته الاستيطانية على هذه القرية بالغة الأهمية الجغرافية له، وشريان الحياة بين مستوطناته في القدس وبيت لحم.
في الوقت ذاته، تفتقر الولجة إلى وحدات صفّية كافية لعدد الطلاب، إذ إن القرية لا تضمّ إلا مدرستَين، واحدة أنشأتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) عام 1964، ولا تضمّ إلا عدة صفوف بمناطق متفرقة في القرية، وأخرى بُنيت بجهود أهالي القرية.
لكن كلتا المدرستين لا تستوعبان إلا 400 طالب من أصل ما يقارب 600، فيضطر باقي الطلاب، وخاصة ممّن هم في المرحلة الثانوية، التوجُّه إلى مدارس محافظة بيت لحم القريبة للدراسة، كما لا يتوجّه طلاب القرية للدراسة في مدارس القدس رغم أن ثلثَي سكانها يحملون الهويات المقدسية، بسبب جدار العزل الذي أُقيم حول القرية، حيث أصبح مدخلها إلى القدس عبارة عن حاجز عسكري يتجنّب العديد من الطلاب الاقتراب منه.
وحتى اللحظة، وفي العقد الثالث من القرن الحالي، ما زالت مطامع الاحتلال تغزو غزوها في قرية الولجة، وقبل أشهر معدودة عام 2021 دخل 50 منزلًا في القرية نطاق تهديد الهدم من قبل سلطات الاحتلال، 38 منها تقع في منطقة عين الجويزة المصنَّفة ضمن نطاق صلاحيات بلدية الاحتلال في القدس.
لا يفرِّق الاحتلال في عملية الهدم أو قرارات منع البناء بين أراضي القرية الواقعة ضمن حدود بلدية الاحتلال في القدس، والأراضي المصنَّفة “ج” التي تخضع للإدارة المدنية، اللتين تتقاسمان أراضي الولجة، فهدف الاحتلال وقف الامتداد الفلسطيني في المنطقة، مستغلًّا التقاعس الرسمي الفلسطيني الكامل الذي تخلّى عنها مسبقًا في اتفاقياته مع الاحتلال.