لا يزال القرار الذي أصدرته “قسد” منتصف شهر يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، يلقي بظلاله المأساوية على السكّان العرب المقيمين في المناطق الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية شمال شرق سوريا.
ووفق بيان هيئة الداخلية لشمال شرق سوريا، التابعة للإدارة الذاتية “قسد”، فقد اُستحدث نظام بطاقة الوافد على الأهالي والسكّان العرب القاطنين شمال شرق سوريا، ليتمكّنوا من الإقامة في مناطق الحسكة والرقة والتنقُّل بين أريافها بسهولة، وبالتالي منع أي شخص من الدخول لمحافظة الحسكة والرقة إلا بموجب هذه البطاقة.
وقد شملَ القرار القاطنين في محافظة الحسكة منذ عشرات السنين، أو الذين ما زالت قيود نفوسهم في دير الزور أو الرقة أو أي محافظة سورية أخرى، إضافة إلى العوائل التي تعود أصولها إلى قيود دير الزور والمستقرة في الحسكة أو الرقة منذ عام 2011، نتيجة ظروف العمليات العسكرية متعددة الأطراف.
وتملك كثير من العائلات عقودًا لمنازل سكنية ومحال تجارية وأراضٍ زراعية، إلا أن ذلك لم يشفع لها، ما يعني إجبارها على التهجير وترك أرزاقها إن لم تقم بتأمين بطاقة الوافد.
وعلّلت هيئة الداخلية في بيانها أن الهدف من استحداث بطاقة وافد هو ضمان أمن المنطقة من خلايا تابعة لتنظيم “داعش”، كانوا يستخدمون بطاقات شخصية سورية مزوَّرة للتنقل بين المناطق، أو من خلايا تابعة للسلطات التركية المعادية لقوات “قسد”، خاصة بعد ازدياد استهداف قيادات من الصف الأول والثاني تابعة لـ”قسد”.
والشروط الواجب توفُّرها لاستخراج بطاقة وافد:
– وجود كفيل يعيش في الرقة أو الحسكة وضمن المدينة حصرًا، وهذا الكفيل لا يحقّ له كفالة أكثر من 7 أشخاص.
– تصريح من مختار الحي.
– براءة ذمة من الأمن العام (الأشايس).
– تجديد البطاقة كل 6 أشهر، وفي حال المخالفة يتعرّض صاحبها للنفي من المنطقة والطرد.
ردّ الهيئة السياسية الثورية
وكردٍّ على بيان هيئة الداخلية، كانت الهيئة السياسية الثورية لمحافظة دير الزور قد أدانت، عبر بيانٍ نشرته على صفحتها على موقع فيسبوك، قرار “قسد” الأخير، واصفةً إياه بـ”القرار الاستفزازي” للمكوّن الاجتماعي العربي في أماكن سيطرتها.
واعتبرت الهيئة السياسية في بيانها فرض ما يُسمّى بطاقة الوافد على أهالي المنطقة أو القادمين إليها ممّن لا يحملون نفوس محافظة الحسكة، أنه إجراء لا يقوم به إلا من يحمل فكرًا إقصائيًّا تمييزيًّا شوفينيًّا وحقدًا على مكونات المجتمع الأصيلة، مشيرةً أن من العائلات التي فُرضت عليها البطاقة هي تاريخيًّا أقدم من وجود مكونات “قسد” في المنطقة، وتعيش في المحافظات منذ عشرات السنين.
ولفت بيان الهيئة السياسية أن إجراء “قسد” خطير ويعمل على تفتيت البنية الاجتماعية للمحافظة من جهة، وزرع الأحقاد بين مكونات المجتمع من جهة أخرى، ما يؤدّي إلى انفجار الأوضاع وتطورها إلى ما لا يحمد عقباه، والخاسر الوحيد هم أبناء المنطقة الذين سيتمّ تهميشهم وإقصاؤهم.
ودعا بيان الهيئة السياسية الثورية لمحافظة دير الزور، الدول الداعمة لـ”قسد” إلى إعادة النظر في دعم كيان يتبنّى أفكارًا عنصرية، يقوم على التمييز وفقًا للعرق أو الانتماء، بحقِّ مكون أصيل من مكونات المجتمع.
واقع اجتماعي متدهور
يقول مسعود أبو الخير (46 عامًا)، أحد النازحين إلى مدينة الحسكة، لـ”نون بوست”: “أعيش في الحسكة منذ العام 2013 بعد أن دمّر نظام الأسد منزلي ومزرعتي في البوكمال، أبناء المنطقة هنا وجيراني يعرفون عني كل شيء وعن سمعتي، رغم ذلك حاولت إيجاد كفيل، إلا أن ذلك صعب جدًّا في ظل عدد المهجّرين الكبير هنا”.
مضيفًا: “هناك كل يوم تضييق جديد.. الناس منهكة جدًّا من الوضع المعيشي وارتفاع الأسعار ثم يأتيك هذا القرار المجحف”، متسائلًا عن الوجهة المجهولة التي سيلجأ إليها في حال عدم توفر كفيل له.
ولفت أبو الخير إلى تدهور صحّته، قائلًا: “أعاني من ضعف في القلب وأتعالج في مشافي الحسكة، وهذا يتطلب بطاقة الوافد، خلال توجُّهي للمراجعة الطبية أوقفني حاجز تابع لقوات “الأشايس”، وسحبَ بطاقتي الشخصية السورية مطالبًا باستخراج بطاقة الوافد”.
أما سعيد العوض (57 عامًا)، سائق تاكسي، يقول أيضًا لـ”نون بوست”: “استخرجتُ بطاقة وافد، أنا من مواليد مدينة دير الزور لكنني أعيش في الحسكة منذ أكثر من 30 عامًا، لم يعد بإمكاني التنقل بين المدن إلا بإبراز بطاقة الوافد وإلا فأنني سأتوقف عن العمل”.
مضيفًا: “أعرف أشخاصًا عالقين يريدون العودة الى دير الزور، لكن الحواجز سحبت منهم بطاقاتهم الشخصية لإجبارهم على إخراج بطاقة الوافد”، مشيرًا أنهم وقعوا بين أمرَّين، فلا هم يستطيعون التنقل بين المدن التابعة لـ”قسد”، ولا هم بقادرين على العودة إلى بيوتهم في مكان إقامتهم الأصلية.
وأكّد العوض وجود عراقيل كبيرة في استخراج بطاقة الوافد، وشللية كبيرة في الحصول عليها، و”كأنهم يجبرونك على العودة إلى مكان إقامتك الأصلي”، حسب تعبيره.
وجهة نظر القانون بمشروعية القرار
وللوقوف حول قانونية القرار وشرعية تطبيقه، تواصل “نون بوست” مع مدير جمعية المحامين السوريين في تركيا والناشط الحقوقي غزوان قرنفل، الذي أوضح أنه “لا يمكن أن يُعتبر أي شخص قابع في المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد” وافدًا، لأنه من سكان منطقة واقعة ككُلّ وبالأصل تحت سيطرتهم”، مضيفًا أن “مصطلح الوافد يُطلق على من جاء من مناطق خارج سيطرتهم كريف دمشق مثلًا”.
وفيما يتعلق بالمقيمين منذ عشرات السنين ولديهم عقود ملكية، أجاب قرنفل أن “المقيمين هم سكان أصليين في هذه المناطق حتى لو كانت نفوسهم خارج مناطق إقامتهم الحالية، فلا يُعتبرون وافدين ويحقّ لهم البقاء في المناطق دون قيد أو شرط”.
مضيفًا أن “القرار طالما استهدف فئة محددة من المدنيين وهم المكوّن العربي، فهو إجراء غير قانوني ومخالف للقوانين الوطنية والدولية، وهدفه تهجير السكان الأصليين وتشتيتهم في المناطق، بهدف تغيير التركيبة الديموغرافية”.
وتابع قرنفل أنه “لا يجوز إكراه الأشخاص قانونيًّا على مغادرة أماكن سكنهم وتهجيرهم قسريًّا ونقلهم لمناطق أخرى بالتضييق، أو عبر إجراءات تضييقية تستهدف سُبُل عيشهم”، مشيرًا أن “كل سلطات الأمر الواقع وفي مقدمتها “قسد” لا تقيم وزنًا لكل القوانين الدولية، بل تشرِّع قوانينها المناسبة، كتجنيد الأطفال والقاصرين أو التجنيد الإجباري المخالف للقوانين والأعراف الدولية”.
وحول نتائج هذا القرار على المستوى الجغرافي، قال قرنفل إن “هذا الإجراء يساهم بتغيير التركيبة السكانية، خاصة إذا امتدَّ زمن الصراع، ولم يُقدَّم أي حلٍّ سياسي أو عسكري، فعلى المدى البعيد من المؤكد أنه سيكون هناك تغيير ديموغرافي وأثره خطير على المجتمع السوري والجغرافيا السورية”.
وعن كيفية مواجهة هذا القرار بالطرق القانونية الشرعية، استبعدَ قرنفل اللجوء لمؤسسات قضائية تتمتّع بالاستقلالية وقادرة على إصدار وتنفيذ أي قرار يعالج هذه المواضيع، مشيرًا أنه “ربما يكون هناك ضغط حقوقي عبر تقارير حقوقية بالتواصل مع منظمات دولية للضغط على سلطات الأمر الواقع كـ”قسد” أو غيرها، لتكفَّ عن مثل هذه الانتهاكات في المناطق الخاضعة تحت سيطرتها”.
أوراق ضغط لإخراج البطاقة
في المقابل، يرى الناشط الصحفي صهيب اليعربي، المقيم شمال شرق سوريا، أن “بطاقة الوافد هي بطاقة تعريفية للأشخاص الذين لا ينتمون إلى نفوس الحسكة أو الرقة”، مشيرًا إلى “وجود عائلات عربية مقيمة منذ عشرات السنوات في الحسكة أو الرقة وينتمون إلى محافظات أخرى، كحي غويران بالحسكة الذي ينتمي غالبية أهله إلى نفوس دير الزور”.
مضيفًا أن “الحواجز العسكرية التابعة للأمن العام (الأشايس) بدأت باتّباع أسلوب ممنهَج، عبر مصادرة البطاقات السورية بهدف إجبار المدنيين على استخراج بطاقة وافد، التي تحتاج إلى تجهيز عقد منزل وكفيل وصور شخصية وبراءة ذمة، ثم تقديمها للمجلس المحلي الخاص بكل منطقة”.
وحول ردود فعل المدنيين هناك، لفتَ اليعربي إلى أن “القرار لاقى استياءً واسعًا من الأهالي العرب، وهو قرار عنصري يهدف إلى إفراغ المحافظة من المكوّن العربي بحجّة تسويق فكرة المحافظة على أمن المنطقة”.
وأردف اليعربي أن “الهدف الحقيقي لـ”قسد” هو أن يصبح العربي السوري لاجئًا في بلاده تحت بند البطاقة المؤقتة، عكس المكوّن الكردي الذي لم يطبَّق بحقهم القرار أبدًا، رغم وجود أكراد من عفرين وغيرها في المنطقة”.
ادّعاءات واهية وترسيخ نظام مشابه لكردستان العراق
خلال اتصال هاتفي مع الباحث في مركز جسور للدراسات أنس الشواخ، وصفَ بطاقة الكفيل بأنها جزء من تغيير ديموغرافي تتبعه “قسد”، فهي مطبَّقة على المكوّن العربي فقط في المنطقة دون غيره من المكونات الأخرى، كما يمنع أبناء المحافظات الثلاثة (الرقة، دير الزور، الحسكة) من التنقل والدخول فيما بينها.
مضيفًا في مداخلته مع “نون بوست” أن “هذا الأمر له آثاره السلبية، أولها اجتماعية من تقييد الروابط الاجتماعية وتفكيكها، خاصة أن المناطق عشائرية ومتداخلة جدًّا، إضافة إلى آثار اقتصادية كتقييد عمل الأشخاص والعمل التجاري وصعوبة دخول المنظمات، ومنع المدنيين من الحصول على فرص عملهم، فضلًا عن اعتبار عدد كبير من سكّان الرقة من مواليد محافظة أخرى خاصة كحلب، وبالتالي تهجير عدد كبير منهم”.
يجب على منظمات المجتمع المدني المدعومة من التحالف الدولي، والتي تشكّل صلة وصل بين سلطات “قسد” والمجتمع المحلي، أن تأخذ دورها في ممارسة الضغط على سلطات الأمر الواقع لإيصال صوت الناس.
وتابع الشواخ: “تذرّعت “قسد” أن القرار جاء لدواعٍ أمنية، وهذا يناقض ما حصل مؤخرًا في سجن غويران عندما زعمت أن أكثر من 200 شخص دخلوا من خارج مناطق “قسد”، فهذا الخرق الأمني بالضرورة يناقض الغاية من القرار بأنه لأسباب أمنية”.
وحول الطرق البديلة، رأى الشواخ أن هناك طرقًا بديلةً موجودةً لضبط الأمن ومراقبة حركة الدخول والخروج، مثل وجود قوائم للمطلوبين وزيادة الحواجز والتدقيق، وإنشاء قواعد بيانات للمطلوبين مثل النموذج الحاصل في المناطق الخاضعة لقوات النظام أو الجيش الوطني أو تحرير الشام في إدلب.
وأكّد الشواخ أن “بطاقة الوافد هي تعزيز لفكرة الفدرالية والعزل، كما في إقليم كردستان الذي يتّبع النظام نفسه في تطبيق بطاقة الوافد على الموجودين ضمن أراضيه، وبالتالي إن القرار يدحض ادّعاءات “قسد” بوحدة الأراضي السورية ورفضهم فكرة الانفصال”.
ولفت إلى أنه “حتى نظام الأسد رغم ملاحقته الأمنية وممارسته للاعتقال التعسفي بحقّ المدنيين، إلا أنه لم يمنع بقرار رسمي دخول بقية المواطنين السوريين من خارج مناطق سيطرته”.
أخيرًا.. وكما يرى الشواخ، يجب على منظمات المجتمع المدني المدعومة من التحالف الدولي، والتي تشكّل صلة وصل بين سلطات “قسد” والمجتمع المحلي، أن تقوم بدورها في ممارسة الضغط على سلطات الأمر الواقع لإيصال صوت الناس، إضافة إلى الضغط على قوات التحالف عبر منظمات حقوقية لمراجعة هذا الأمر وتعديله أو إلغائه، والضغط أيضًا عبر احتجاجات ومظاهرات شعبية، رغم أنها محكومة بالإجراءات القمعية الأمنية المتّبعة من “قسد”.