أجبرت حرب نظام الأسد التي شنّها ضد الشعب السوري، بعد انطلاق ثورته عام 2011، الكثير من السوريين على النزوح الداخلي أو اللجوء إلى البلدان المجاورة بحثًا عن الأمان على شكل موجات متلاحقة مستمرة، واستقبلت تركيا مجموعات كبيرة من اللاجئين السوريين مقدِّمة تسهيلات ضمن سياسة “الباب المفتوح” التي اتّبعتها الحكومة آنذاك، لتصبح أكبر محتضن للوجود السوري اللاجئ.
ولأن عجلة الحياة يجب أن تستمرَّ، في ظل تعقُّد القضية السورية وتحولها إلى ساحة لتنفيس الاحتقان والاستقطاب والصراع الإقليمي والدولي مع انسداد مسار الحلّ السياسي، توجّه السوريون نحو تشكيل مجتمع مصغّر له خصوصيته الثقافية واحتياجاته الصحية والتعليمية والاجتماعية، وانخرطوا بطبيعة الحال في مجالات متعددة اقتصادية واجتماعية وثقافية، بحسب ما تسمح به شروط وجودهم على الأراضي التركية.
هذا الوجود السوري بأطيافه الواسعة وانتشاره، أحدث بعض الحساسيات لدى فئات من المجتمع التركي، ليصبح مع مرور الوقت من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام التركي على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، وبات الوجود السوري في تركيا قضية سياسية تستخدمها مختلف الأحزاب التركية كورقة من الأوراق السياسية عند كلِّ استحقاق سياسي، الأمر الذي فرض على السوريين تحديات عديدة وضبابية حيال مستقبلهم في تركيا.
ولذا يأتي هذا التقرير كمحاولة للوقوف على واقع الجالية السورية في تركيا، من حيث توزُّعهم الجغرافي والديموغرافي وتمركزهم في الولايات التركية، بالإضافة إلى تسليط بعض الضوء على واقعهم الاقتصادي والتعليمي، فضلًا عن العلاقة مع المجتمع التركي ومصاعب الاندماج.
أولًا: الإطار القانوني للوجود السوري
مع بدء مسلسل الهجرة السورية إلى تركيا بعد تصاعُد أعمال العنف والقمع من قبل النظام، قدّمت تركيا آنذاك تسهيلات كبيرة للمهاجرين السوريين دون أن تقوم بإقرار وضع أو صفة قانونية لهم، إذ بقيَ اللاجئون السوريون يُعامَلون بمنطق “الضيوف”، وكانت هذه لغة الخاطب الشائعة حينها في المجتمع التركي والخطاب الرسمي.
وتميّزت تلك الفترة بتقبُّل شعبي تركي للوجود السوري، نظرًا فيما يبدو إلى غلبة الظنّ بأن حالة اللجوء السوري مؤقتة ولن تدوم طويلًا، فضلًا عن أن تركيا استقبلت عبر عقودها الطويلة موجات لجوء فردية وجماعية من بلدان مختلفة، بعضهم استقرَّ فيها وانخرط ضمن نسيجها الاجتماعي والثقافي.
وبسبب تزايد أعداد السوريين اللاجئين، أصدرت تركيا عام 2012 أول تنظيم قانوني لأوضاعهم، منحتهم عبره صفة “الحماية المؤقتة” التي تعني منحهم الحماية بشكل مؤقت في تركيا، ومنع عودتهم قسريًّا إلى سوريا، مع تقديم خدمات متعلقة بالصحة والتعليم والوصول إلى سوق العمل.
بالإضافة إلى التمتُّع بحقوقهم واحتياجاتهم الأساسية، وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان والقوانين الدولية، دون أن يحملوا الصفة القانونية المتعلقة باللاجئين، وهو ما ينسجم فعليًّا مع الوضع القانوني العام للجوء في تركيا، الذي يشترط شروطًا معيّنة للقبول بإطلاق صفة “اللجوء” على المهاجرين إليها، حيث يعود ذلك إلى اتفاقية جنيف للأمم المتحدة عام 1951 التي حدّدت الأُسُس القانونية لوضع اللجوء في تركيا، فقد حصرت الاتفاقية حقَّ اللجوء للمهاجرين القادمين من أوروبا فقط وتسميتهم بـ”لاجئين”.
ورغم تعديل الاتفاقية ببروتوكول عام 1967 الذي أسقط بند القيد الجغرافي ليشمل جميع اللاجئين، إلا أن تركيا لم توقّع على البروتوكول مبقيةً حقّ اللجوء فقط للاجئين الأوروبيين، بينما تطلق صفة “الحماية المؤقتة” على اللاجئين القادمين من خارج أوروبا وتسميتهم بـ”اللاجئين المشروطين”، حيث تقوم تركيا بتأمين حماية مؤقتة لهم حتى تتمّ إعادة توطينهم في بلد ثالث آمن أو عودتهم طوعيًّا إلى بلدهم الأم، وهو ما ينطبق تمامًا على حالة اللجوء السوري في تركيا.
وبالتالي، إن خضوع معظم السوريين لهذا التوصيف القانوني (وضع الحماية المؤقتة)، قد فرضَ عليهم جملة من الصعوبات والعوائق، خاصة فيما يتعلق بشكل الإقامة والسكن (قلق النزوح المستمر)، والعمل والسفر والعلاقة مع المجتمع التركي (الاندماج)، فضلًا عن غياب الإحساس بالاستقرار المجتمعي والمعيشي.
ثانيًا: التوزُّع الجغرافي والديموغرافي
ينقسم السوريون في تركيا إلى قسمَين من حيث السكن ومكان الإقامة: بين أولئك الذين يقطنون داخل المخيمات التي أنشأتها الحكومة التركية لاستيعاب الأعداد الهائلة من اللاجئين، والتي تُدار من قبل “المديرية العامة لإدارة الهجرة” التي تنظِّم حياة السوريين داخل المخيمات؛ وبين من هم تحت الحماية المؤقتة ويقيمون خارج المخيمات (وهم الأغلبية) في المدن الكبرى كإسطنبول والمناطق الحدودية مع سوريا.
ووفق تقرير صدرَ عن المفوضية العليا للاجئين عام 2016، فإنَّ تعداد السوريين اللاجئين المقيمين في المخيمات ومراكز الإيواء المؤقت يقدَّر بنحو 217 ألف لاجئ، يتوزّعون على 22 مخيمًا أنشأتها الحكومة التركية في المحافظات الجنوبية، لينخفض هذا العدد تدريجيًّا خلال الأعوام اللاحقة.
فقد أصدرت المديرية العامة للهجرة التركية عام 2020 إحصائية ذكرت فيها أن عدد اللاجئين السوريين المقيمين في المخيمات يقدَّر بنحو 59.785 لاجئًا، ليصل هذا العدد إلى 53.611 في العام الماضي بحسب آخر إحصائية نشرتها جمعية اللاجئين التركية (محدَّثة من قبل وزارة الداخلية التركية والمديرية العامة لإدارة الهجرة)، مقدِّرة أعداد السوريين القاطنين في المخيمات بنسبة 1.4% من إجمالي السوريين في البلاد.
ويعود هذا الانخفاض في أعداد اللاجئين السوريين القاطنين في المخيمات إلى سياسة الحكومة التركية الهادفة إلى تخفيض أعداد مخيمات اللاجئين السوريين، وإغلاقها على مراحل، وتحويل بعضها إلى مراكز صحية ومراكز إيواء للمسنين والمرضى وكبار السن والأرامل، ربما بهدف دمج اللاجئين السوريين مع المجتمع المحلي التركي، والاستفادة أيضًا من قدراتهم وتحويلهم إلى يد عاملة مساهمة في الاقتصاد التركي، بدلًا من اعتمادهم المطلق على المساعدات الإغاثية والإنسانية.
فمع بداية عام 2018 بدأت تركيا بتفكيك بعض تلك المخيمات، كمرعش ونزيب وسليمان شاه وماردين وسروج وجيلان بينار في أورفا التركية، وتوزيعهم على مخيمات أخرى أو الانتقال للعيش في منزل مستأجَر، في خطّة متكاملة فيما يبدو لإنهاء تواجد كافة المخيمات السورية في تركيا، والإبقاء على بعض منها وتخصيصها لغير القادرين على العمل بسبب ظروفهم الصحية.
وبحسب الإحصائية السابقة لجمعية اللاجئين التركية، فإنَّ عدد اللاجئين السوريين بلغ نحو 3.701.584 لاجئًا مسجّلًا في قيود دائرة الهجرة وشعبة الأجانب، حيث شكّل الرجال السوريون 52.8% من إجمالي عدد السوريين، في حين تبلغ نسبة النساء السوريات 46.2%، وذهبت الإحصائية إلى أنَّ عدد السوريين من هم دون سنّ العاشرة بلغ 1.720.000، في حين بلغ أعداد الشباب نحو 755.790 شخصًا تراوحت أعمارهم بين 15 و24 عامًا.
وتصدّرت إسطنبول قائمة الولايات التركية من حيث عدد السوريين بـ 511.498، تلتها غازي عنتاب بـ 452.420، ثم هاتاي بـ 436.384، وأورفا بـ 422.054، ثم ولاية أضنة بـ 249.477، ومرسين بـ 218.737، ثم بورصة بـ 177.436، وولاية إزمير بـ 147.047، وقونيا بـ 116.450، وكلس بـ 109.117 لاجئًا سوريًّا، بحسب آخر تحديث لبيانات المديرية العامة للهجرة في تركيا.
ثالثًا: الوضع التعليمي والنشاط الاقتصادي التجاري
أسهمت حركة اللجوء السوري إلى تركيا بانتقال شرائح مجتمعية واسعة، تباينت حياتهم بطبيعة الحال واختلفت مواقعهم واتجاهاتهم الاجتماعية والعلمية، وفقًا للظروف التي فرضها عليهم وجودهم في تركيا، ووفقًا لطبيعة توجهاتهم وطموحاتهم وفئاتهم العمرية، منتشرين في مجالات العمل المتنوعة، وضمن مراحل التعليم باختلاف مستوياتها.
القطاع الاقتصادي
حمل اللاجئون السوريين معهم خبرات ومهارات مهنية وحرفية، استطاعوا من خلالها الدخول في سوق العمل التركي الرسمي وغير الرسمي (سوق العمل الذي لا يخضع لرقابة الدولة ولا يحصل العاملون فيه على أي حقوق أو ضمان اجتماعي أو تأمين قانوني أو نظام التعويضات)، وكان لهم دور مؤثِّر في الاقتصاد التركي، حيث شكّلت العمالة السورية 2.9% من إجمالي حجم العمالة في سوق العمل التركي الرسمي وغير الرسمي، وفقًا لإحصاءات منظمة العمل الدولية التي صدرت بداية عام 2020.
وفي دراسة استطلاعية أجراها مركز الحوار السوري عام 2021، من خلال دراسة إحدى شرائح العمالة السورية، وهي شريحة القاطنين في المساكن الشبابية، تمَّ التوصُّل إلى أن “الشريحة المدروسة تركّز عملها في سوق العمل غير الرسمي، خاصة في قطاعات الورشات الصناعية والملابس والأحذية يليها قطاع الإنشاءات، ثم قطاع الشركات والمحلات التجارية، ثم قطاع الأعمال الحرة، ثم قطاع المطاعم والمخابز السورية، ويتوزّع البقية في قطاعات عمل متفرِّقة كصيانة السيارات، والعمل في نقل وبيع الفحم، والزراعة والإعلام والتعليم وغيرها بنِسَب بسيطة”.
وحول الأوضاع القانونية للعمالة السورية في تركيا، ذهبت الدراسة نفسها إلى “أن 90% من العاملين السوريين لا يملكون تراخيص عمل رسمية (إذن عمل)، بسبب تهاون أصحاب العمل ورغبتهم في التهرُّب من دفع التأمينات الاجتماعية، في محاولة لتخفيض تكلفة الإنتاج”.
وقد أكّد هذا رئيس اتحاد النقابات العمالية التركية “Türk İş”، حيث قال إن “العمال السوريين يعملون قرابة 14 ساعة يوميًّا دون تأمين، ويتقاضون رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور”، معتبرًا أن “هذه المشكلة تهمّ الجميع بمن فيهم العمال وأصحاب العمل”.
عمومًا، يعاني معظم العمال السوريين في تركيا من مشكلات كثيرة لا تقتصر على تدنّي رواتبهم دون الحدّ الأدنى للأجور، بل تتعدّى ذلك لتشمل تواجدهم ضمن ظروف عمل قاسية وطويلة وأقلّ استقرارًا، ومختلفة نوعًا ما عن نمط العمل الذي اعتادوه في بلادهم.
كما أنهم يعملون في كثير من الأحيان في مهن تتطلّب مهارات منخفضة وبشروط مجحفة، حيث اضطرَّ الكثير من حملة الشهادات الجامعية إلى الانخراط في سوق العمل التركي والعمل في مجالات أخرى غير تخصصاتهم، بسبب الحاجة الماسّة إلى العمل لإعالة عائلاتهم، كما يشتكي بعض العمّال السوريين تعرُّضهم للاستغلال من قبل أصحاب العمل، سوريين كانوا أم أتراكًا، مع عدم تمكُّنهم من تحصيل حقوقهم لعدم حصولهم على تراخيص عمل رسمية.
ويبدو أن المضايقات والاستفزازات والحملات التحريضية التي تقوم بها بعض جهات المعارضة التركية، وتحميل السوريين مسؤولية ارتفاع معدلات البطالة وتدهور الوضع الاقتصادي العام في تركيا، تعتبر أهم مشكلة تعاني منها اليد العاملة السورية وحتى رواد الأعمال وأصحاب الشركات والمصانع السوريين، ما شكّل عامل ضغطٍ نفسي/ مادي عليهم، وجعلهم عرضة للاستهداف، وزادَ من العوائق أمام حدوث اندماج مع المجتمع التركي.
من جهة أخرى، أشارت العديد من الدراسات التركية إلى أنَّ عدد الشركات التي أسّسها السوريون في تركيا خلال سنوات إقامتهم فيها تجاوزت 10 آلاف شركة في قطاعات اقتصادية مختلفة، حيث أكّدت وزيرة التجارة التركية، روحصار بك جان، على أن عدد الشركات التي يملكها السوريون بلغت 13.880 شركة بنسبة 29% من مجموع الشركات المملوكة لأجانب في البلاد.
وساهمت الاستثمارات السورية الخاصة المنتشرة في أنحاء البلاد في تخفيف قسوة اللجوء، واستوعبت أعدادًا كبيرة من العمالة السورية، ونشأ على إثرها منظمات وتجمّعات استثمارية اقتصادية سورية سعت إلى تمثيل الاقتصاديين ورجال الأعمال السوريين، وتحقيق نوع من الترابط والعمل الجماعي بينهم، ومدِّ جسر بينهم وبين الحكومة التركية في سبيل تحقيق مصالح قطاع الأعمال السوريين في تركيا.
ولعلَّ أهم تلك الجمعيات جمعية الأعمال السورية (SIBA TURK)، التي تعرِّف نفسها بأنها “منظمة مستقلة غير ربحية وغير سياسية تجمع بين أصحاب المال والأعمال السوريين والمهتمين بالشأن الاقتصادي السوري من أفراد وهيئات، بهدف تعزيز التعاون بينهم وتحقيق مصالحهم”.
وأيضًا جمعية رجال الأعمال السوريين في تركيا (سورياد)، التي تعرِّف نفسها بأنها “منظمة غير ربحية تهدف إلى تأسيس منصة تواصل وتعاون بين الصناعيين ورجال الأعمال السوريين في تركيا لتقديم أفضل الخدمات لأعضاء الجمعية، وتعزيز التعاون والتنمية الاقتصادية في البلدَين سوريا وتركيا”.
القطاع التعليمي
شهدت الجامعات التركية إقبالًا كبيرًا من قبل الطلاب السوريين بدأ مع العام 2012، حيث أشارت وكالة “المراقبة والمتابعة لوسائل الإعلام” (PRNet) في تركيا أنَّ “عدد الطلاب السوريين في تركيا تجاوز الـ 20 ألف طالب سوري حتى عام 2019، كما بلغ عدد الطلاب السوريين الذين استقبلتهم وزارة التعليم العالي بين عامَي 2011 و2019 أكثر من 15 ألف طالب سوري في مختلف الاختصاصات الأدبية والعلمية ضمن الجامعات التركية الخاصة والحكومية”.
ووفقًا لدراسة أعدّها مركز حرمون مؤخرًا، واعتمادًا على بيانات واردة من مؤسسات حكومية تركية، فقد بلغ عدد الأطفال السوريين الذين هم في سنّ الدراسة عام 2019 الـ 1.047.536 طفلًا، حيث وصلت نسبة السوريين الملتحقين بمقاعد الدراسة في العام 2018-2019 الـ 61.41%، بنحو 648.058 طفلًا.
وبحسب الدراسة السابقة، وعدد من الدراسات الأخرى العربية والتركية، فإنَّ تجربة الدراسة في المدارس والجامعات التركية قد تخلّلها صعوبات عديدة واجهت الطلاب السوريين، كمشاكل اللغة والصعوبات الدراسية، ومشاكل اقتصادية، ومشاكل متعلقة بالاندماج واختلاف الثقافات والقيم، فضلًا عن عوائق نفسية واجتماعية وسلوكية.
رابعًا: العلاقة مع المجتمع التركي؛ إشكالات الاندماج والانسجام المجتمعي
عملت الحكومة التركية خلال مدة إقامة اللاجئين السوريين على تأمين الخدمات الصحية والتعليمية، وتنظيم وجودهم القانوني، وإدارة عملية تعزيز الاندماج الاجتماعي بين اللاجئين السوريين والمجتمع التركي المضيف، وتميّزت العلاقة المجتمعية بين المجتمع التركي واللاجئين السوريين في بداية الأمر بالقبول المجتمعي الواسع، وذلك بناءً على منطق “الضيافة” ومساعدة المحتاجين الموجود أصلًا لدى شرائح واسعة من المجتمع التركي.
رغم التقارب الكبير بين المجتمعَين التركي والسوري من الناحية الدينية والفكرية والثقافية واللغوية والعرقية وفي العادات والتقاليد، إلا أن ذلك لم يمنع ظهور تحديات جمّة متعلقة بالانسجام الاجتماعي، خاصة مع تزايد أعداد اللاجئين السوريين وطول مدة إقامتهم، وتغيُّر الأوضاع السياسية والاقتصادية في تركيا، ليتغيّر شكل العلاقة الناظم لتفاعل المجتمع المضيف مع اللاجئين السوريين باتجاه سلبي، ما لبثَ أن تحول إلى مواقف كراهية للسوريين ومن ثم إلى حالات استهداف مباشر.
وتشكّل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تركيا، والتي أدّت بطبيعة الحال إلى ارتفاع الأسعار وتراجع سعر صرف الليرة التركية أمام العملات الأجنبية وارتفاع معدلات البطالة، أهم الأسباب التي أدّت إلى حدوث تغييرات في شكل العلاقة بين المجتمع التركي واللاجئين السوريين، حيث حمّل الكثير من الأتراك (بتحريض من أحزاب سياسية معارضة) السوريين مسؤولية تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد.
وتعززت هذه الصورة مع التصريحات الحكومية المتكرِّرة حول حجم الإنفاق الحكومي على اللاجئين السوريين، دون الإشارة إلى مصادر هذه الأموال (الاتحاد الأوروبي)، ما انعكس سلبًا على السوريين بسبب تشكُّل قناعة لدى جمهور واسع لدى الأتراك بأن الإنفاق الحكومي يُصرف من خزينة الدولة التركية على السوريين، بدلًا من صرفه للتنمية الاقتصادية وتحسين الواقع المعيشي للمواطن التركي.
كما أنَّ تحوُّل قضية الوجود السوري في تركيا إلى ورقة للتوظيف والتجاذب والصراع السياسي الدائر بين الحكومة التركية والمعارضة، قد شكّل عائقًا أساسيًّا أمام تحقيق اندماج مجتمعي بين الأتراك والسوريين، حيث تستغلُّ بعض أحزاب المعارضة حالة الانزعاج والقلق لدى الشارع التركي في خدمة مصالحها واستحقاقاتها الانتخابية ضد الحكومة التركية، عبر تصعيد خطابها ضد السوريين وإيهام الشارع التركي وإقناعه بأن “السوريين هم المشكلة، وأن الحزب الحاكم قد فشل في إدارة ملف اللاجئين الذي تحول إلى عبء على تركيا”.
وقد أدّى هذا الأمر إلى تصاعد حالة الكراهية والعنصرية والغضب تجاه السوريين، ورسّخ صورة ذهنية سلبية لدى الأتراك عنهم، ما هدّد استقرار السوريين ومستقبلهم في تركيا، وعمّق المخاوف الاجتماعية لدى فئات المجتمع التركي من وجود السوريين.
خامسًا: آثار غياب تنظيم اللاجئين السوريين كجالية في تركيا
خلال حديثه لموقع “نون بوست”، أكّد نائب رئيس منبر الجمعيات السورية، باسل هيلم، على أن “حالة التشظي والتفرُّق التي يعيشها السوريون في تركيا تنعكس سلبًا عليهم وعلى طريقة عيشهم واستقرارهم، حيث إن عدم وجود كيان سوري منظَّم ينظِّم احتياجات الجالية السورية ويرصد المشاكل ويضع الحلول ويرفعها إلى الجهات الحكومية المعنية، يضع السوريين تحت تأثير قوانين وإجراءات حكومية دون قدرتهم على المشاركة في صنعها”.
مشيرًا إلى أنه “في كثير من الأحيان تقرُّ الحكومة التركية بعض القوانين التي قد يتّضح لاحقًا تأثيرها السلبي على اللاجئين السوريين، وهذا بسبب غياب كيان منظَّم سوري يشارك في صنع القرارات التي تهمّ السوريين، ويكون صلة الوصل بين الجهات الرسمية التركية والسوريين المقيمين في تركيا، ويضع الجانب التركي في صورة الاحتياجات من منظور سوري”.
ويرى هيلم أن أسباب غياب كيان موحّد منظَّم للسوريين في تركيا تعود في مجملها إلى “غياب ثقافة العمل الجماعي، ولجوء السوريين للعمل ضمن تكتُّلات وجماعات متفرقة”، معتبرًا أن “السوريين أبدعوا في العمل الفردي ولكن يعانون من ضعف شديد في العمل الجماعي”.
ويكمل بأنَّ “صعوبات العيش في تركيا وانشغال معظم الشرائح المجتمعية السورية في تحصيل سبل العيش، يجعلان من الصعوبة بمكان العمل في الشأن العام الذي يحتاج بعض الاستقرار المادي والمعنوي، فضلًا عن أن التنوع الثقافي للسوريين واختلاف مشاربهم واهتماماتهم يقفان عقبة أيضًا أمام تشكيل كيان موحَّد جامع لمختلف السوريين”.
ويعتقد هيلم أن “إيجاد كيانات سورية موحَّدة للجالية السورية تشارك في عملية صنع القرار الذي يخصُّ السوريين، قد لا يناسب توجهات الدولة التركية المضيفة”.
وفي السياق ذاته، يؤكد هيلم على أهمية تضافر الجهود وتعزيز النشاط لإيجاد مرجعيات تمثّل كافة السوريين بكفاءة وحرفية، وتعمل على تدعيم ثقافة العمل الجماعي، مقدّمًا اقتراحًا عمليًّا حول آلية تنظيم الجالية السورية، عبر “تشكيل تجمعات قائمة على أساس جغرافي بحسب توزُّع السوريين في تركيا، حيث يتمُّ تأسيس مكاتب صغيرة متشعِّبة ضمن المناطق التركية تمثِّل وجود السوريين في تلك المناطق، مع التنسيق الفعّال بين تلك المكاتب والتجمعات الصغيرة، ورصد مبالغ مالية كرسوم اشتراك من السوريين لخلق رابط بينهم وبين ممثليهم، والتعاون مع التجّار ورجال الأعمال السوريين، وتشجيعهم على دعم هكذا تجمعات دون تحزُّب أو أدلجة”.
بالمحصلة.. الأعداد الكبيرة للسوريين في تركيا، وتباين نمط معيشتهم ونوعية إقاماتهم (طبقة متوسطة، طبقة فقيرة، طبقة معدمة، مجتمع المخيمات.. مجنسون، الحماية المؤقتة، إقامة سياحية، إقامة دراسة.. إلخ)، وطبيعة المجتمع التركي وتفاعله مع “الضيف”، والاستقطتاب السياسي الحاد، وغياب الأفق للحل في سوريا، كلها عوامل تفرض – على السلطات التركية ومؤسسات المعارضة السورية – ضرورة استحداث قوانين جديدة ومؤسسات جديدة بل ورؤية جديدة تتسق مع حجم الجالية السورية في تركيا ومستقبلهم هناك، بما ينسجم مع حقوق الإنسان واللاجئين وبما لا يؤجج مشاعر الرفض لدى المجتمع المضيف.