في كتابه الشهير “بيت الحكمة، كيف أسس العرب لحضارة الغرب؟” يقول الباحث المتخصص في علم الاجتماع التاريخي، وأحد أبرز مستشرقي العصر الحديث، جوناثان ليون: “لقد تمتع العلماء العرب عمليًا باحتكار عالميّ للمعرفة في أقاصي الأرض لم ينازعهم فيه أحد حتّى عصر الاكتشافات الأوروبي”، مستعرضًا بالبحث والدليل مآثر العرب في الحضارة الإنسانية على المستوى العلمي والثقافي والمعرفي.
ويمتلك العرب سجلًا حافلًا من الإسهامات العلمية، استطاعوا من خلالها حجز مكانة بارزة في خريطة الحضارة العالمية، ساعدهم في ذلك أسبقيتهم في معرفة الكتابة وطرق التعبير عما يمتلكونه من علم ومعرفة، فكانوا من أوائل الحضارات التي عرفت طرق الكتابة ووضعت منظومة متكاملة من الحروف والصياغات والأشكال المتنوعة لرسوم الحرف والكلمات وتشكيلها.
الكتابة الأولى
اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ معرفة الإنسانية للكتابة بصفة عامة، خاصة أنها شهدت العديد من التحولات والتجارب الأولية حتى وصلت إلى صورتها الحاليّة، لكن المؤكد أن الحضارات القديمة بشتى أنواعها عرفت الكتابة بصورة أو بأخرى، أو بأكثر دقة “عرفت كيف تعبر عن ثقافتها ومكنونها المعرفي” بصرف النظر عن أدوات هذا التعبير ومدى ملاءمتها لمفهوم الكتابة بالشكل الحديث.
كانت تتميز تلك المرحلة بالنقش فوق ألواح الطين والمعادن والشمع والحجر، وكانت متداولة بشكل كبير لدى شعوب جنوب غرب آسيا
وانسحب الاختلاف بشأن تحديد تاريخ الكتابة إلى هوية الدولة أو المجتمع صاحب الأسبقية والريادة في هذا المجال، فانقسم المؤرخون في ذلك إلى عدة مسارات، إلا أن الباحثة التاريخية هانم عبد الرحيم في كتابها “تاريخ الكتابة والمكتبات وأوعية المعلومات” ذكرت أن بدايات الكتابة الحقيقية كانت في بلاد الرافدين ثم انتقلت إلى مصر، قائلة: “الكتابة بدأت في العراق، وهي الكتابة المسمارية، وكانوا يؤكدون على ذلك من خلال تاريخ بعض الألواح الطينية التي وجدت في الحفريات القديمة التي تمَّ العثور عليها بجنوب العراق، وأكدوا أنها ترجع لعهد السومريين”.
المراحل التي مرت بها الكتابة تاريخيًا تثبت بشكل كبير دقة هذا الرأي، حيث ترجع جذور أول ألواح مكتوبة عثر عليها إلى عهد السومريين جنوب العراق، عام 3600 ق. م، ومن هنا جاءت “الكتابة المسمارية” والبعض يطلق عليها “الكتابة التصويرية” كأول مرحلة عرفها التاريخ في مسار الكتابة.
كانت تتميز تلك المرحلة بالنقش فوق ألواح الطين والمعادن والشمع والحجر، وكانت متداولة بشكل كبير لدى شعوب جنوب غرب آسيا، لكنها ظهرت أول الأمر في بلاد الرافدين لدى السومريين، حيث التعبير عن اللغة السومرية، كما كانت ملائمة بشكل كبير للغة التي كان يتكلم بها البابليون والأشوريون المعروفة باسم “الأكادية”.
وبعد مئتي عام تقريبًا من الكتابة المسمارية ظهرت في مصر “اللغة الهيروغليفية” وكان ذلك عام 3400 ق. م، فكانت تعتمد تلك اللغة التي تعني بالإغريقية “نقش مقدس” على التعبير عن الثقافة عبر صور الحيوانات والإنسان والبيئة والأشجار وغيرها من الوسائل ذات الانتشار في البيئة المصرية في ذلك الوقت.
واختتمت الكتابة مراحلها الأساسية بـ”الأبجدية” التي ظهرت رسميًا عام 1500 ق. م، في إحدى بقاع منطقة الشرق الأدنى القديم، وتعرف حاليًّا بـ”لبنان”، حيث أطلق عليها الأبجدية الابتدائية وكانت تعتمد على التمييز في الأصوات عبر الحروف، فشكلت 22 حرفًا، كل حرف يمثل حركة صوتية محددة، وباستخدام أكثر من حرف يتم تكوين كلمات ثم جُمل.
أدوات الكتابة
تنوعت الأدوات التي استخدمها العرب في الكتابة منذ مئات القرون، ما بين اللخاف (حجارة) وأكتاف الإبل والكرب والمهارق (قماش) مرورًا بعسب النخل (الجريد) وجلود الحيوانات (الرقوق) وصولًا إلى أوراق البردي (القراطيس) وذلك قبل أن تصل بعد إلى مرحلة الورق المعروفة حاليًّا التي هي الأخرى مرت بمحطات جزئية.
الرقوق، تمثل الجلود واحدة من أكثر الأدوات التي استخدمها العرب في الكتابة على مر التاريخ، فقد كانت منتشرة قبل الإسلام وتعززت أكثر في عصر النبوة والخلافة، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يكتبون عليها القرآن ويدونون أحاديث النبي وسيرته العطرة.
ومن أشهر أنواع الجلود المستخدمة في الكتابة، ما أطلق عليه “الرقوق” وهي المأخوذة من الماعز والغنم والحمير والظباء، فكانت تتميز بصبغة ودباغة متميزة، تجعل منها أدوات مؤهلة تمامًا للكتابة عليها بشكل واضح ودقيق، ومن أشهر ما كتب عليها العقود والمواثيق إبان دولة الإسلام الأولى، كما نسخت عليها المصحف الذي جمع في عهد أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان.
الانتشار الواسع لتلك الجلود في هذا الوقت حولها إلى سوق كبير له رواده ويدر الربح على أصحابه، فظهرت مدن بأكملها تقوم على تلك الصناعة كنجران والطائف وصعدة وصنعاء، ثم انتقلت بعد أن شهدت تطورات كبيرة في الشكل والأحجام والألوان إلى الكوفة، ومنها انتشرت إلى بقية مدن المسلمين.
البردي، وبينما كانت الكوفة تزدهر بالرقوق كانت أوراق البردي أو ما سميت بـ”القراطيس” تخيم على الأجواء في مصر التي عرفت هذا النوع من الورق منذ عهودها القديمة، إبان عصور الفراعنة الذين كانوا يصنعونها من نبات البردي “نبات طويل من جنس السُعد تمتد سيقانه إلى أعلى وهي ذات مقطع مثلث الشكل، وأزهاره خيمية الشكل ويرتفع نبات البردي من خمسة إلى تسعة أمتار”، لذا سمي باسمها.
رغم الكلفة الكبيرة للورق الذي كان يُصنع من مواد غالية الثمن ونادرة الانتشار كالحرير والكتان بداية الأمر، فإن ذلك لم يؤثر على ديمومة التأليف، فيما لجأ البعض إلى استخدام مواد بديلة، أقل سعرًا وأكثر توافرًا
البداية المصرية للبردي جعلتها تحتل مرتبة الريادة في هذه الصناعة كما ذكر السيوطي في أكثر من موضع، لكن ذلك لم يمنع من انتقالها إلى بقية المدن العربية، فظهرت في العراق وشبه الجزيرة العربية، كما استخدمت في كثير من الأحيان في الكتابات الرسمية لدولة الخلافة الإسلامية.
الكاغد، مع اتساع حركة التأليف والترجمة، زاد الإقبال على أدوات الكتابة التي كانت في ذلك الوقت محصورة في الرقوق وقراطيس البردي، هذا بجانب بعض الأدوات الأخرى لكنها لم تكن على ذات الدرجة من الدقة والجودة التي تؤهلها لحفظ المكتوب عليها ومن ثم إقبال الناس عليها.
غير أن ارتفاع أسعار تلك المواد وكلفتها العالية، صناعة ونقل، كان بمثابة القيد الذي كبل الكثير من رواد التأليف، فبات البحث عن البديل الأرخص مع الحفاظ على مستوى معقول من الجودة، أمرًا غاية في الأهمية، وهنا جاء استخدام نوع من الورق عُرف باسم “الكاغد” وهو أرخص سعرًا من البردي والرقروق، وبدأ انتشاره في النصف الثاني من القرن الأول الهجري (النصف الثاني من القرن السابع الميلادي).
بعض الروايات كالتي نقلها العلامة حسن عبد الوهاب، تشير إلى أن أول ظهور للكاغد كان في سمرقند، على أيدي أسارى من الصين، وكان يصنع من خرق الكتان والقنب، ثم انتقل إلى بلاد الإسلام الأخرى، وهناك من يقول إن كواغد سمرقند سحبت البساط نسبيًا من تحت أقدام البردي والجلود كونهما الأكثر تربعًا على عرش الكتابة حينها.
الورق، في أوائل العصر العباسي، منتصف القرن الثاني الهجري، بدأ يظهر “الورق” كأداة متطورة للكتابة، ويقال إنه جُلب من سمرقند إلى بغداد التي كانت في ذلك الوقت مركز الحضارة الإسلامية ونقطة الانطلاق نحو صناعة الورق فيما بعد، حيث بنى فيها هارون الرشيد أول مصنع للورق، لترتفع أعداد تلك المصانع التي يطلق عليها “حوانيت” إلى أكثر من مئة في أقل من نصف قرن، حتى عرف أهل بغداد بـ”الوراقين”.
ساعد هذا التطور في الإسراع بعجلة الترجمة والتأليف حتى باتت بغداد ومعها فيما بعد القاهرة ودمشق مراكز رئيسية للإشعاع المعرفي في العالم، وبلغت حركة التأليف والإبداع في تلك الفترة ما لم تبلغه طيلة عقود الحضارة الإسلامية الممتدة لأكثر من 14 قرنًا.
ورغم الكلفة الكبيرة للورق الذي كان يُصنع من مواد غالية الثمن ونادرة الانتشار كالحرير والكتان بداية الأمر، فإن ذلك لم يؤثر على ديمومة التأليف، فيما لجأ البعض إلى استخدام مواد بديلة، أقل سعرًا وأكثر توافرًا، كالألياف والقطن والقنب، التي كانت تستخدم في صناعة ورق ذي جودة أقل نسبيًا لكنه كان يفي بالغرض.
وتتنوع أشكال ومسميات الورق المستخدم عند العرب، فكان يُنسب كل نوع إلى أول مكان استخدم فيه وأول من استخدمه، ورغم تعدد تلك الأنواع فإن أشهرهم خمسة فقط، أبرزهم الورق “السليماني” الذي ينسب إلى سليمان بن راشد والي خراسان في ولاية هارون الرشيد، وهناك الورق “الطلحي” المنسوب للطولة الطاهرية في خراسان أيضًا نسبة إلى طلحة بن طاهر ثاني أمراء بني طاهر.
هناك كذلك الورق “الجعفري” نسبة إلى جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، وزير هارون الرشيد وحامل ختم السلطة في بغداد، والورق “النوحي” المنسوب إلى أحد أمراء الدولة السامانية التي حكمت تركستان وفارس خلال الفترة من 819 حتى 999م، ويدعى الأمير “نوح الأول”.
ومن أشهر أنواع الأوراق التي استخدمها العرب “الورق الفرعوني” الذي اشتهرت به مصر ودون عليه أقدم النصوص العربية، وكان يتميز هذا النوع بالجودة العالية والعمر الافتراضي الكبير، وهو ما ساعده على أن يظل النوع الأكثر استخدامًا لسنوات طويلة.
هذا التاريخ الطويل من علاقة العرب بالكتابة كان له ثماره اليانعة على حجم ومستوى الإسهامات التي قدمها العرب للحضارة الإنسانية، وهو ما يمكن الوقوف عليه عبر مسارات عدة، لعل أشهرها شهادات المستشرقين عن هذا الدور الذي لعبته العقول العربية صاحبة الريادة (قديمًا) في مجال التأليف والإبداع.
ففي كتابه “تكوين الإنسانية” يقول الباحث المستشرق برينولت: “العلم هو أجلّ خدمة قدمتها الحضارة العربية إلى العالم الحديث عامة، والجدير بالذكر أنه لا يوجد ناحية من نواحي النمو الحضاري إلا ويظهر للإنسان أثر الحضارة والثقافة العربية، وأن أعظم مؤثر هو الدين الإسلامي الذي كان المحرك للتطبيق العملي على الحياة”، ويضيف “الادعاء بأن أوروبا هي التي اكتشفت المنهج التجريبي ادعاء باطل وخال من الصحة جملة وتفصيلًا، فالفكر الإسلامي هو الذي قال: انظر وفكر، واعمل، وجرب حتى تصل إلى اليقين العلمي”.