كانت المرحلة الأولى هي مرحلة الصدمة التي انتصر فيها المسلمون انتصارا كاسحا على الغرب، حتى امتد سلطانهم المستقر إلى مشارف آسيا الصغرى وكل الشمال الإفريقي والأندلس.
وكانت المرحلة الثانية هي مرحلة الحروب المقدسة التي كانت خلاصتها قدرة المسلمين على امتصاص الضربة الرومية واستطاعتهم استنقاذ البلاد كلها، فيما عدا الأندلس التي لم يبق منها إلا الجزء الجنوبي.
أما هذه المرحلة الثالثة فنستطيع أن نقول إنها تنتهي بالتعادل، إذ اختلف فيها الجانبان ضربتين كانت كل منهما قاصمة للآخر، فأما المسلمون فقد استطاعوا فتح القسطنطينية وإزالة الإمبراطورية البيزنطية العتيقة من الوجود، فسقطت أمامهم عاصمة الأرثوذكسية بعد تسعة قرون من الصراع المستمر، وانساحوا في شرق أوروبا حتى دكوا أسوار القسطنطينية وكانوا على وشك إسقاط روما عاصمة الكاثوليكية أيضا. وأما الغربيون فقد استطاعوا الاستيلاء على الأندلس كلها وهددوا السواحل المغربية وشمال إفريقيا والتفوا حول العالم الإسلامي باكتشافهم طريق رأس الرجاء الصالح واحتلوا السواحل الغربية لإفريقيا ومناطق واسعة فيها، ووصلوا حتى الهند واحتلوا أجزاء جنوبية في اليمن وبحر العرب والهند والشرق الأقصى، وكل هذه مناطق إسلامية، ودارت حروب بين الجانبين تعد الأقوى والأكثر شراسة والأوسع أرضا. وكان لكل هذا التغير -فضلا عن اكتشاف الغربيين وسيطرتهم على العالم الجديد: الأمريكتين- آثار بعيدة.
ونبدأ بضربة العثمانيين:
لقد مهدت دولة السلاجقة وتوسعاتها في آسيا الصغرى الطريق لظهور الدولة العثمانية، فلكم اقترب سلاجقة الروم من القسطنطينية ذاتها، بل إن عاصمتهم كانت نيقية إلى الجنوب من القسطنطينية، ثم إنهم حتى لما هُزِموا تراجعوا إلى قونية وما هي ببعيدة عن القسطنطينية، ثم ساهمت عوامل كثيرة في ضعف البيزنطيين منها نزاعاتهم الداخلية ومنها الحملة الصليبية الرابعة، وقد أدى كل هذا إلى قوة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى.
استقر أمر الأتراك العثمانيين في الحدود الغربية لسلاجقة الروم، على خط التماس مع الدولة البيزنطية، وكان أصلهم من أقصى المشرق وبالتحديد من التركستان ولكن رحلتهم في النزوح بدأت منذ الاجتياح المغولي للشرق، وقد ظهروا على مسرح الأحداث في آسيا الصغرى بجهاد جدهم عثمان الذي استولى على بعض القلاع البيزنطية فكافأه السلطان علاء الدين الثالث السلجوقي بأن رفعه لمرتبة الأمراء، وبهذا احتضن السلاجقة من سيرثون أرضهم وجهادهم عند شيخوختهم وضعفهم.
ويعد عثمان -مؤسس الدولة- أول عشرة سلاطين عِظَامٍ أقاموا مجد الدولة العثمانية العريقة، لكن أهمهم على الإطلاق ثلاثة:
1. السلطان محمد الثاني بن مراد الثاني الذي لقب بالفاتح للفتح العظيم الذي أنجزه بفتح القسطنطينية وإسقاط عاصمة الأرثوذكسية التي كانت أخطر عدو للإسلام على مر تاريخه، وهو الحلم الذي راود الفاتحين قبله وعجزوا عن تحقيقه، ويعد فتح القسطنطينية حدثا عالميا يؤرخ به الغرب لانتهاء العصور الوسيطة وبداية عصور النهضة لديهم، كما يعد أعظم إنجازات الدولة العثمانية عبر تاريخها بل هو الإنجاز الذي يُعرفون به. وللفاتح توسعات أخرى كبيرة في شرق أوروبا وبلاد الصرب والبوسنة واليونان والسواحل الشمالية للبحر الأسود.
2. السلطان سليم الأول، وهو حفيد محمد الفاتح، وهو صاحب التوسعات الكبرى في الدولة العثمانية، فلقد ضم إليها الشام ومصر وأجزاء من العراق، وأوقف التهديد الصفوي بهزيمة تاريخية (تشالديران)، وأنهى دولة المماليك بهزيمتين في مرج دابق (على أطراف آسيا الصغرى) ثم الريدانية (على أبواب القاهرة) وأخذ الخليفة العباسي منها إلى اسطنبول، وهناك أجبره على خلع نفسه والتنازل له عن الخلافة. وبهذا أضيفت للعثمانيين موارد وخزائن مصر والشام مما ضاعف من قوتها الاقتصادية، ثم كان انتقال الخلافة إليها مما جعل كثيرا من البلاد تدخل في طاعتها وإن بعدت عنها جغرافيا.
3. السلطان سليمان القانوني وهو ابن سليم، وقد أعاد التوجه نحو الغرب، وهو صاحب أكبر التوسعات الغربية فقد استطاع فتح بلجراد، وحاصر فيينا مرتين، وكان من القوة والمهابة وعلو الهمة بحيث كان عصره هو ذروة الدولة العثمانية.
وقد خاضت الدولة العثمانية حروبا واسعة في البحر، ضد أساطيل البندقية والبابوية والإسبان والبرتغال، وامتدت هذه الحروب في أربعة بحار: المتوسط بامتداده حتى أقصى الشمال الإفريقي، وقد كان وقتئذ يعاني نتائج سقوط الأندلس وتهجير المسلمين ومحاولات الإسبان غزو المغرب والجزائر، والبحر الأحمر والخليج العربي وبحر الهند، وكان هذا مجهودا رهيبا وباسلا تواجه به الدولة وحدها أوروبا كلها، فنحسب أن لو كانت للمسلمين دولة قوية أخرى حملت بعض هذا العبء لكنا نكتب تاريخا آخر، ولكن لم يكن سوى العثمانيين وقد قاموا بواجب كبير لكن لم يكن بالإمكان أن يستمر طويلا.
دخلت الدولة العثمانية في مرحلة جمود كبيرة ثم أصابها الضعف الذي هو سُنة الدول، ولم يفرز العالم الإسلامي بديلا لها على عكس الحال في أوروبا التي أسعفها القدر بإمكانيات واسعة متجددة ثم بدول تحمل الراية كلما ضعف خط المواجهة، فاستمرت في القوة فمالت الكفة نحوها، فكان أن جاءت ضربة الغربيين.
لئن انهزمت أوروبا هزائم قبيحة في الشرق فلقد كانت تسترد عافيتها في الغرب، فقد استطاع الإسبان طرد المسلمين من الأندلس نهائيا، وقاموا بإبادة كاملة ومطاردة وحشية لكل شيء إسلامي، ثم انفتحت لهم كنوز الدنيا حين وصلوا إلى العالم الجديد (الأمريكتين) الغني بالذهب والفضة، وحين وصلوا إلى الهند ومناطق الشرق بالالتفاف حول إفريقيا من طريق رأس الرجاء الصالح فانفتحت أمامهم تلك البلاد التي كانت في عمومها ضعيفة من طريق لا يواجهون فيها القوى الإسلامية الكبرى في مصر والشام وآسيا الصغرى، فاستولوا على مناطق واسعة من سواحل إفريقيا الغربية والجنوبية والشرقية وكذلك السواحل الجنوبية الغربية والجنوبية من آسيا، ولم يجدوا مدافعا قويا يمكنه وقف زحفهم.
وهنا تلقى العالم الإسلامي ضربتين: عسكرية باحتلال هذه البلاد، واقتصادية باكتشاف طريق لا يقع في نفوذه بين الشرق والغرب، فزاد ضعف المماليك في مصر، ولم يستطع الأسطول العثماني رغم كل محاولاته تغيير الواقع في هذه البحار البعيدة عنه.
ولما ضعف الإسبان والبرتغاليون والهولنديون برز الإنجليز والفرنسيون وحملوا الراية وأكملوا المسيرة، وفي ذلك الوقت ولدت أوروبا -التي تعيش مخاض نهضتها منذ قرون- مولودها الأثير: الثورة الصناعية، تلك التي غيرت موازين القوى وأهم من ذلك غيرت معايير القوى.
لقد صنعت الثورة الصناعية فارقا واسعا في التقدم، وكان مرور الزمن يضيف فوارق أخرى، فالزمن يمضي والفارق يتسع، والعين ترى والحروب تصدق ذلك ولا تكذبه، وبينما يستهلك هذا التقدم طاقة أوروبا في العموم كان العالم الإسلامي وعلى رأسه دولة آل عثمان تستنزف طاقتها في الخلافات الداخلية وتتراجع عسكريا وحضاريا، خصوصا وقد برز من خلفها عدو شرس جديد هو روسيا التي عدت نفسها وريثة الأرثوذكسية وصارت تضغط على الدولة العثمانية التي أضيف لها بهذا واجب جهادي جديد في الشرق والشمال، ومن ثم أخذت الدولة العثمانية تتحول من الرجل القوي المرهوب إلى طرف عادي أمكن هزيمته غير مرة، وصار يدخل في تحالفات لتوزيع المجهود وتحييد الأعداء من بعد ما كان يقهر الأحلاف ولا يبالي!
وإذن فقد تراكمت في أوروبا الثروات الاقتصادية الأمريكية -وهي في غاية الوفرة- والإفريقية والآسيوية، ومعها الثروات البشرية -إذ قامت أوروبا بثاني أبشع حركاتها التاريخية (1) وهي حركة استعباد الأفارقة والهنود، والتهجير الجماعي القسري للخدمة، وهي الجريمة التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين منهم- ومعها عصر الثورة الصناعية وما أنتجته من تنظيمات إدارية وعلوم وثروات جديدة. وكل هذا عاد بالقوة على التفوق العسكري الغربي.
وكان التفوق العسكري، ومن ورائه التفوق العلمي والإداري والاقتصادي، مغريا للضعفاء كما هي السنة الجارية التي تشهد بأن المغلوب مولع بتقليد الغالب، فبدأت حركة التطلع إلى ما عند الغرب تسري في الدولة العثمانية التي تعاني سوء أحوالها العسكرية والإدارية والعلمية والاقتصادية.
لقد ظلت القوة العسكرية العثمانية تسند الدولة وتؤخر انهيارها، ولم يشعر العثمانيون في آسيا الصغرى ولا المسلمون في قلب العالم الإسلامي في مصر والشام بمدى التحول التاريخي الذي يجري، بل إن مؤرخ العثمانيين ابن إياس وفي لقطة تاريخية معبرة عن الغفلة لم يهتدِ كيف توصل النصارى إلى الشرق عبر رأس الرجاء الصالح رغم أن الجغرافيين المسلمين هم أول من رسموا خرائط الطريق (2)، وذلك أن غالب السواحل التي استولى عليها الغربيون كانت بعيدة واستيلاءهم عليها غير مؤثر كثيرا في الظاهر. حتى جاءت الواقعة:
لقد استطاع نابليون الفرنسي النزول بمصر واحتلال القاهرة وتوغل فيها ثم مضى نحو الشام، وأخذت المسلمين الصدمة الكبرى من انتصار النصارى، ومن عجز الخلافة العثمانية عن دفع هذه النازلة.
وهنا بدأ العصر الجديد: عصر الهيمنة الغربية..
(1) باعتبار أن الجريمة الأولى هي: محاكم التفتيش وإبادة أقوام بعد التنقيب ومطاردة ما في صدورهم.
(2) قال ابن إياس في تفسير وصول الفرنج إلى بلاد الهند: “وسبب هذه الحادثة أن الفرنج تحيلوا حتى فتحوا السدّ الذي صنعه الإسكندر بن فلبس الرومي، وكان هذا نقبا في جبل بين بحر الصين وبحر الروم فلا زالوا الفرنج يعبثون في ذلك النقب مدة سنين حتى انفتح وصارت تدخل منه المراكب إلى بحر الحجاز”. ابن إياس: بدائع الزهور 4/109.