مع انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا بدأت الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا والاتحاد الأوروبي تطبيق عقوبات اعتبرت الأكبر على موسكو، هذه العقوبات أثرت بشكل كبير على الاقتصاد الروسي الذي يعاني من صعوبات في الأصل، وطالت هذه العقوبات كبريات الشركات الروسية بالإضافة إلى المصارف وصولًا إلى رجال الأعمال الروس المحيطين بالرئيس فلاديمير بوتين، ومنذ اليوم الأول ركزت العقوبات على طبقة رجال الأعمال لما لها من تأثير على بوتين والاقتصاد بشكل عام.
وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات حظر كاملة على شخصيات مالية تتربع على رأس كبرى المؤسسات المالية فى روسيا ومسؤولة عن توفير الموارد اللازمة لدعم غزو بوتين لأوكرانيا كما قالت، وكذا فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على رجال أعمال روس، ومثله فعلت بريطانيا وسويسرا واليابان وعدة دول أخرى.
العقوبات المفروضة ضربت حصارًا على آلية التعامل المالي لروسيا بالعموم ولرجال أعمالها بالخصوص، لتبدأ هذه الطبقة البحث عن طرق مختلفة لتحويل أرصدتهم وثرواتهم من روسيا وأوروبا إلى مكان يحميها ويبعدها عن خطر العقوبات والقيود المفروضة عليها، لتجد هذه النخبة موئلًا آمنًا في الإمارات التي تقف إلى جانب روسيا هذه الأيام.
ملاذ آمن
منذ الأمس ركزت الصحافة الغربية على أن الإمارات وخاصة إمارة دبي تشكل ملاذًا آمنًا للأثرياء الروس الذين يريدون تهريب أموالهم من أوروبا، وفي هذا السياق نقلت وكالة رويترز أن “الأثرياء الروس يحاولون تحويل بعض ثرواتهم من أوروبا إلى دبي لحماية أصولهم من موجة تشديد العقوبات الغربية على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا”، وبحسب الوكالة قال مصرفي كبير في أحد البنوك السويسرية: “أثرياء روسيا يسعون في كثير من الحالات إلى تحويل أموالهم المودعة الآن في سويسرا ولندن إلى دبي”.
بدورها قالت صحيفة فايننشيال تايمز: “رجال الأعمال الروس توافدوا على تأسيس شركات وشراء عقارات في الإمارات العربية المتحدة في محاولة لتأمين أصول الإقامة والمتنزهات في الخليج بعد تشديد العقوبات على روسيا من واشنطن والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وعلى الرغم من أن بعض الروس موجدون في أوروبا للعمل خارج سيطرة الرئيس بوتين، فإن ذلك لم يشفع لهم أمام العقوبات التي شملت البنوك، حتى إن البنوك الأوروبية باتت تخشى التعامل مع رجال الأعمال والمواطنين الروس بسبب العقوبات والتحقيقات التي قد تجري بحقهم”.
إذن زاد إقبال الأثرياء الروس على التوجه إلى دبي للاستقرار ومباشرة الأعمال، وقالت صحيفة “نيويورك تايمز” إن نحو 38 رجل أعمال روسيًا يملكون أصولًا عقارية واستثمارية في دبي، بما يبلغ قدره 314 مليون دولار، وبعد العقوبات الأخيرة التي أصبحت تهدّد من هم على شاكلتهم في الدول الغربية، زادت هذه الأعداد، وتقول: “الإقبال على العقارات في دبي أصبح خياليًا”، تذكر الصحيفة أن من بين هؤلاء الملاك الروس ست شخصيات فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات عليهم، لكنهم الآن في مأمن بعيدًا عن روسيا وأوروبا.
يذكر أن مجموعة العمل المالي التي تتولى مراقبة الجرائم المالية على المستوى العالمي وضعت الإمارات على “قائمة رمادية” للولايات القضائية الخاضعة لمراقبة أشد، ويقول محامون: “ربما كان على الإمارات أن تتوخى قدرًا من الحذر أكبر من المعتاد لوضعها على القائمة الرمادية، فآخر شيء تريده الآن هو أن تستخدم أوروبا ذلك سببًا آخر لإبقائها على تلك القائمة”.
ليس بعيدًا عن العقوبات، فقد صنف الاتحاد الأوروبي الإمارات ضمن القائمة السوداء للملاذات الضريبية، أي أنه من الشائع الحصول على إقامة في الإمارات، وإنشاء شركة هناك واستخدام ضريبة المقيم التي تأتي معها لمنع تدفق المعلومات إلى السلطات الضريبية، ومن أجل ذلك يرى فيها الأثرياء الروس اليوم مكانًا آمنًا لهم ولأموالهم ليس فقط من التهرب الضريبي، إنما أيضًا التهرب من العقوبات وتجميد الأرصدة، لتصبح بذلك القبلة الأولى لنخبة الأعمال الروسية، ولربما تكون منقذ بوتين الاقتصادي من التضييق الخانق عليه.
الإمارات وجهة الروس
حتى قبل الحرب والعقوبات تذكر التقارير أن الأوليغارشيين المقربين من بوتين يملكون ما لا يقل عن 76 من الأملاك في دولة الإمارات، يديرونها سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، وأبرز هذه الشخصيات ألكسندر بوروداي عضو مجلس الدوما وباكخان غاييف عضو مجلس الدوما المالك لشركة بترولية روسية، وألكسي أليكسين أحد كبار موردي التبغ في بيلاروسيا، هؤلاء الثلاث فقط يملكون عقارات في الإمارات بقيمة 75 مليون دولار.
لكن الأثرياء الروس كان لديهم سبب آخر غير القضايا الجيوسياسية للاستثمار في الإمارات، فقادة البلد جذبوا المال الأجنبي من خلال السماح بدرجة عالية من السرية حول الأرصدة وبمعلومات قليلة للجهات المختصة كما تقول ماريا مارتيني الباحثة في منظمة الشفافية الدولية حيث قالت: “كانت دبي لاعبًا مهمًا في السنوات الأخيرة بخطط فساد وغسيل أموال كبيرة”، مشيرة إلى رجال أعمال روس وابنة رئيس أنغولي سابق وتاجر أسماك ناميبي والأخوين غوبتا من جنوب إفريقيا.
وترتبط الإمارات وروسيا بعلاقات واسعة، كما تضاعف حجم التبادل التجاري بينهما منذ عام 1997 إلى نحو 10 أضعاف ليصل إلى 5 مليارات دولار سنويًا عام 2021، وتحتضن أسواق الإمارات أكثر من 4 آلاف شركة روسية تعمل في قطاعات العقارات والصناعة والغذاء والبنية التحتية والموانئ والطيران والبتروكيماويات.
وتستحوذ الإمارات على 55% من تجارة روسيا الخليجية، وتعد الوجهة الأولى عربيًا للاستثمارات الروسية، وتستحوذ على 90% من استثمارات روسيا بالدول العربية، وفي المقابل فالإمارات أكبر مستثمر عربي في روسيا، وتساهم بـ80% من الاستثمارات العربية فيها.
كما تعتبر دبي وجهةً مميزةً للروس، ليس فقط في إطار العقوبات وإنما في العديد من الأمور الاقتصادية، فقد كانت دبي من أبرز الوجهات للسياح الروس، وتذكر التقارير أن السياحة الروسية في طريقها لتجاوز حاجز المليار دولار أمريكي للإمارات في غضون السنوات الأربعة المقبلة، وكانت دبي قد استقبلت 296 ألف سائح روسي في 2020 ، فيما استقبلت نفس العدد في الربع الأول من 2021 فقط.
تخفيف العقوبات
لا يبدو أن الموقف الإماراتي هذه الأيام يتسق مع الموقف الدولي إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا، كما أن أبو ظبي لم تظهر أنها ستكون متعاونة مع العقوبات الدولية المفروضة على موسكو، ويرجع ذلك إلى العلاقة بين البلدين التي باتت قوية في الآونة الأخيرة، وكان مجلس الأمن الدولي قد شهد في جلسته لإقرار إدانة للحرب الروسية ضد أوكرانيا امتناع الإمارات عن التصويت ضد روسيا، هذا الامتناع أثار غضب أمريكا التي ترى أن أبو ظبي آثرت الحلفاء النفطيين على الحلفاء العسكريين.
وكانت روسيا على غير العادة قد صوتت بالقبول على قرار يوسع الحظر على إيصال الأسلحة إلى اليمن، ليشمل جميع المتمردين الحوثيين، وذلك لمغازلة الإمارات واستمالتها بوجه الغرب، وفسر دبلوماسيون تصويت روسيا، لصالح القرار على أنه ثمرة اتفاق بين موسكو وأبو ظبي هدفت روسيا من خلاله إلى ضمان امتناع الإمارات عن التصويت في مجلس الأمن ضد غزو أوكرانيا.
يذكر أن اتصالًا حصل بين ابن زايد وبوتين، أكدا فيه ضرورة “المحافظة على استقرار سوق الطاقة”، وأكد ابن زايد على حق روسيا في ضمان أمنها القومي، وأبدى ولي عهد أبو ظبي تأييده “الحل السلمي للأزمة بما يضمن مصالح الأطراف كافة وأمنهما القومي”، مؤكدًا أن الإمارات ستبقى على تواصلها مع الأطراف المعنية للمساعدة في إيجاد حلول سياسية.
أخيرًا.. وكما تذكر صحيفة نيويورك تايمز، فإن دبي “قاومت حملة أمريكية سابقة للعقوبات ضد إيران عام 2006، فرغم الخلافات السياسية، فإن إيران تقع على الجانب الآخر من مضيق هرمز وتتمتع بصلات تجارية وعائلية تعود إلى قرون مع الإمارات”.. فهل سيحدث مثل هذا مع المال الروسي؟