بدأ حياته ميكانيكيًا بعد تركه للمدرسة وهو في سن السادسة عشر، قبل أن يتحول إلى بيع اللعب البلاستيكية رفقة زوجته، ليصبح اليوم أحد أباطرة المال والأعمال، محتلًا المرتبة 142 على قائمة “فوربس” لأغنياء العالم، بثروة تقدر بنحو 12.4 مليار دولار.
رومان أبراموفيتش.. الملياردير الروسي اليهودي الذي فرضت الحرب الأوكرانية اسمه على ساحة الأضواء مجددًا، بعدما وقع تحت مقصلة الإقصاء وتجميد أمواله وعزله من منصبه كرئيس نادي “تشيلسي” الإنجليزي، بصفته أحد المقربين الأوليغارشية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أحد الشخصيات التي تستوجب الوقوف عندها طويلًا، علاقته ببوتين كانت مثار جدل تاريخي، فكان بمثابة ذراعه الطولى داخل قلب أوروبا، دعمه للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية كان جواز سفره نحو الشهرة والعالمية، ملاحق بعشرات تهم الفساد وغسيل الأموال والعلاقات المشبوهة.. فماذا نعرف عن الملياردير المعزول؟
صعود بسرعة الصاروخ
كانت بدايات أبراموفيتش الأسرية غاية في الصعوبة، فقد ولد هذا الطفل لأسرة يهودية فقيرة في ساراتوف بروسيا، في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1966م، فقد والديه قبل أن يتم الرابعة من عمره، لينتقل إلى بيت عمه ليب أبراموفيتش، غير أنه لم يكمل تعليمه، إذ غادر المدرسة مبكرًا ليلتحق بالجيش الأحمر السوفيتي.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كان رومان لم يكمل بعد الرابعة والعشرين من عمره، لكنه كان أحد أبرز الأسماء التي بدأت تبرز في سماء الأعمال في البلاد، إذ ساعدته تجارة الألعاب البلاستيكية على تكوين شبكة علاقات قوية مع رجال الأعمال واستطاع بعد ذلك أن يكون واحدًا منهم.
وفي اجتماع حضره نخبة من رجال الأعمال بعد سقوط الاتحاد، لرسم مستقبل روسيا الجديدة واقتسام تورتة الثروات خاصة النفط والمعادن، التقى رومان برجل الأعمال الشهير وقتها بوريس بيريزوفسكي الذي أصبح شريكًا له فيما بعد في مجال الاستثمار النفطي، إذ استحوذا معًا على شركة “سيبنيفت” مقابل 100 مليون دولار رغم أنها كانت تقدر وقتها بـ3 مليارات دولار، وهو الأمر الذي أثار الشكوك عن تفاصيل عملية الاستحواذ وما شابهها من علاقات مشبوهة.
ومع ظهور نجم بوتين السياسي بعد سقوط بوريس يلتسين، كانت العقبة الأبرز أمامه نخبة رجال الأعمال التي كانت تهيمن على المشهد وقتها التي تسمى “الأوليغارشية” إذ كانوا يتمتعون بنفوذ وقوة تهدد رئيس الدولة والحكومة معًا، فكان لا بد من التخلص من تلك الطبقة وتقليم أظافرها نسبيًا.
لم يكتف رومان بدوره كساعد بوتين الأيمن للتخلص من النخبة الأوليغارشية وتحويل رساميلهم إلى خزانة الدولة الروسية فقط، بل وصل إلى مرحلة من الثقة لأن يكون عين الرئيس الروسي في الغرب
وجد رومان الفرصة سانحة لضرب عصفورين بحجر واحد، التخلص من منافسيه والظفر بالنصيب الأكبر من الكعكة بجانب تقديم أوراق اعتماده للقائد الجديد، وبالفعل نجح الرجل في إزاحة النخبة واحدًا تلو الآخر والسيطرة على رؤوس أموالهم لصالح الدولة.
وكان من أبرز المطاح بهم على أيدي صديق بوتين الجديد، شريكه السابق بيريزوفسكي، الذي أُجبر على بيع حصته في الشركة ثم نفيه إلى لندن عام 2000، حيث رفع قضية ضد رومان عام 2012 مطالبًا بالتعويض ومتهمًا شريكه بالتواطؤ مع بوتين لتجريده من ثروته، لكن المعركة القضائية حسمت في النهاية لصالح رومان الذي اعترف صراحةً خلال المحاكمة أن جريرة بيريزوفسكي الوحيدة أنه كان معارضًا لبوتين بما يهدد مستقبل الاقتصاد والأعمال في روسيا.. اللافت للنظر أنه توفي في لندن في ظروف غامضة في 22 مارس/آذار 2013، أي بعد عام واحد فقط من رفع القضية وهو الأمر الذي أثار الكثير من الشكوك.
وفي عهد بوتين تمدد رومان بشكل جنوني، فمن بائع للعب البلاستيكية صار واحدًا من أباطرة المال في العالم، تُقدَّر ثروته بما يعادل 12.4 مليار دولار، ويمتلك ثاني أكبر يخت بالعالم يبلغ طوله 533 قدمًا، ثمنه 400 مليون دولار، وصاحب شركة الصلب العملاقة Evraz، كما أنه يملك الحصة الكبرى في نادي “تشيلسي” الإنجليزي.
رجل بوتين في أوروبا
لم يكتف رومان بدوره كساعد بوتين الأيمن للتخلص من النخبة الأوليغارشية وتحويل رساميلهم إلى خزانة الدولة الروسية فقط، بل وصل إلى مرحلة من الثقة لأن يكون عين الرئيس الروسي في الغرب، مستغلًا نفوذه المالي الذي عززه بعد ذلك بشرائه لنادي تشيلسي الإنجليزي عام 2003 مقابل 188 مليون دولار، ونجاحه في إدارة النادي ودفع ديونه.
كان شراء النادي الإنجليزي العريق نقطة تحول كبيرة في مسيرة رومان وبوتين معًا، إذ بدأ اسم الرئيس الروسي وبلاده يتردد كثيرًا على مسامع الإنجليز، واستطاع مالك النادي الجديد أن يقدم نفسه في ثوب جديد أبهر الشارع الإنجليزي بصورة عززت من شعبيته بمستويات لم يتمتع بها رئيس نادي آخر.
ومع الخزائن المفتوحة أمام النادي المتعثر، استطاع تحقيق العديد من الألقاب والإنجازات التي نسبت في النهاية إلى الملياردير الروسي، فقد فاز النادي تحت ملكية أبراموفيتش بـ19 لقبًا منهم لقبان في دوري أبطال أوروبا وخمسة ألقاب في الدوري الإنجليزي الممتاز، ليوصف من أباطرة الكرة في بريطانيا بأنه “أفضل رئيس ناد في العالم”.
في كتابها “ناس بوتين: كيف استعاد KGB روسيا ثم استولى على الغرب” تستعرض الصحفية البريطانية كاثرين بيلتون مسيرة صعود بوتين إلى سدة الحكم وكيف نجح في خلافة يلتسين بعدما كان شخصًا مجهول الهوية ليس إلا عميل لجهاز “كي جي بي السابق” المخابراتي.
الكتاب تناول كذلك قصص صعود أصدقاء بوتين وحلفائه ممن ساعدوه على ترسيخ أركانه في السلطة، من بينهم أبراموفيتش، الذي ترى الصحفية أن شراءه لتشيلسي كان بهدف الترويج لاسم روسيا والكرملين في الأوساط الأوروبية، وأن الملياردير كان أحد أدوات القوى الناعمة البوتينية لتجميل صورة القائد الروسي عالميًا.
وبحسب بيلتون فإن رومان عمل كـ”مندوب” لبوتين لتقريب وجهات النظر مع واشنطن، فقد أرسله – كممثل غير رسمي عن موسكو – إلى عائلة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لإحداث حالة من التناغم والتوافق مع الجمهوريين، وتحسين العلاقات بين البلدين، ورغم نفي الملياردير لتلك الاتهامات لكن الصحفية البريطانية أكدتها في كتابها وأصرت على ما جاء فيه من معلومات.
سخي في دعم الاستيطان الإسرائيلي
لم يخف أبراموفيتش هويته اليهودية ودعمه المستمر للكيان الإسرائيلي المغتصب، وظلت تلك العلاقة بعيدًا عن الأضواء حتى مايو/أيار 2018، حين فوجئ الملياردير الروسي بالمنع من دخول بريطانيا لحضور نهائي الكأس، كان السبب المعلن وقتها انتهاء تأشيرة الدخول، فيما ربطت تقارير أخرى هذه الخطوة بالتوترات السائدة تلك الفترة بين بريطانيا وروسيا، بسبب تسميم روسيا الجاسوس سكريبال في سالزبوري الإنجليزية.
في تلك الأثناء توجه رومان إلى تل أبيب للحصول على الجنسية الإسرائيلية بموجب قانون العودة الذي يسمح لليهود بالحصول على المواطنة، وهي الخطوة التي تبعتها مسيرة طويلة من الدعم المالي للنشاطات الاستيطانية داخل الأراضي الفلسطينية وسط دعم كبير من نخبة المال اليهود داخل دولة الاحتلال.
في سبتمبر/أيلول 2020 كشفت قناة “بي بي سي عربي” عبر تحقيق أجرته أن أبراموفيتش يسيطر على 4 شركات تبرعت بـ100 مليون دولار لجمعية “إلعاد” الاستيطانية التي تعمل في القدس الشرقية المحتلة، فيما جاءت نصف تلك التبرعات بين عامي 2005 و2018 من شركات مسجلة في الجزر العذراء، بحسب التحقيق.
وقد ساعد هذا التمويل الجمعية الإسرائيلية على توسعة نشاطها داخل القدس بصورة كبيرة، وذلك من خلال مسارين، الأول شراء منازل الفلسطينين الفقراء بأثمان مغرية، والثاني طرد وتهجير من يرفض البيع إلى مناطق أخرى والاستيلاء على منازله قهرًا ومن يعترض يتم قتله أو اعتقاله.
وعن دعم أبراموفيتش للصهيونية الإسرائيلية يقول المتحدث باسمه: “السيد أبراموفيتش ملتزم وسخي في دعم “إسرائيل” والمجتمع المدني اليهودي، وخلال السنوات العشرين الماضية تبرع بأكثر من خمسمئة مليون دولار لدعم الرعاية الصحية والعلوم والتعليم والجاليات اليهودية في “إسرائيل” وحول العالم” حسبما نقلت القناة الإنجليزية عنه.
المكانة التي يحظاها الرجل لدى بوتين دفعت الجالية اليهودية في أوكرانيا لدعوته للوساطة بين موسكو وكييف لإنهاء حالة الحرب وتبريد الأجواء الساخنة
فساد وغسيل أموال.. اتهامات بالجملة
يعد رومان واحدًا من أبرز رموز طبقة الأثرياء الروس التي ظهرت عقب تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وأحد أضلاع “الأوليغارشية” التي استفادت من هذا السقوط لبناء إمبراطورية مالية غير مسبوقة، الأمر الذي وضعه دومًا في مرمى الاتهامات والشكوك في مصادر تلك الإمبراطورية.
وعلى مدار 20 عامًا تقريبًا واجه الملياردير المقرب من بوتين عشرات الدعاوى القضائية بحقه، أبرزها تتعلق بتهم النصب والاحتيال والرشوة والابتزاز السياسي، لكنها التهم التي بُرئ منها جميعًا بفضل علاقته القوية بالرئيس ودوائر صنع القرار في روسيا.
العديد من التقارير الإعلامية تطرقت إلى قدرة رومان الفائقة على توظيف نفوذه المالي في تحقيق الكثير من مكاسبه السياسية والاقتصادية، مستغلًا مكانته الكبيرة لدى بوتين في حمايته من أي ملاحقات قضائية، إذ اعترف بنفسه أنه دفع المليارات مقابل خدمات سياسية منذ عام 2005 حين أصبح حاكمًا لمنطقة تشوكوتكا ( شمال شرق )، إذ تبرع وقتها بأكثر من مليار دولار لمشاريع البنية التحتية في تلك المنطقة النائية، لكن في المقابل حصل على إعفاءات ضريبية كبيرة بمئات الملايين.
المكانة التي يحظاها الرجل لدى بوتين دفعت الجالية اليهودية في أوكرانيا لدعوته للوساطة بين موسكو وكييف لإنهاء حالة الحرب وتبريد الأجواء الساخنة، لكن حتى ذلك الحين وبعد تجميد بريطانيا لأصول صديق الرئيس ضمن سبعة أباطرة أعمال “أوليغارشية” فرضت عليهم عقوبات للضغط على موسكو، بات مصير الملياردير اليهودي مجهولًا.. فهل انتهى عصر أبراموفيتش في بريطانيا للأبد أم أن الأجواء ربما تعود لما كانت عليه بعد أن تسدل الحرب أستارها؟