في أبريل 2012، وضّب الفرع السوري لمركز البحوث الزراعية الدولي “إيكاردا”، ومقره في ريف حلب الجنوبي في بلدة باتت تُعرف شعبيًا باسمه، معداته الثمينة وعينات من بذور القمح وبذور أخرى وجيناتها، وانطلق بها خارج البلد التي تشهد حربًا ضروسًا، قال حينها إنه يريد “تأمين البذور في مكان آمن، بعيدًا عن الحرب”.
أرسل “إيكاردا” نسخًا من كافة بيانات التسجيل الخاصة ببنك الجينات الزراعية السوري إلى عدة بنوك جينية حول العالم، على رأسها بنك جينات “سفالبارد” العالمي للبذور في النرويج، والذي يعرف بأنه “قبو يوم القيامة” ويقع في منطقة نائية في القطب الشمالي، فيما استقر المقرّ الرئيسي لإيكاردا في مدينة الرباط المغربية.
عملية الإنقاذ تلك والتي تبرهن على جودة القمح السوري “الذي لا يقدّر بثمن”، تبعها محاولات لعلماء أمريكيين للعثور على حل يُنقذ المحاصيل الزراعية في بلادهم، وخاصة القمح، من التأثيرات الجوية وتغير المناخ، وظلوا عاجزين عن إيجاد حل حتى وجدوا ضالتهم في بذور أحد أنواع القمح السوري لتحقيق أهدافهم.
فقد اكتشف الباحثون أن البذور السورية هي الوحيدة التي لم تصبها الآفات والحشرات من بين آلاف الأنواع من النباتات التي دمّرتها الآفات خلال تجارب حصلت في حقل بولاية كنساس الأمريكية، ويشير الخبراء الأمريكيون إلى أن ميزة البذور السورية هي قدرتها على التطور جينيًّا والحفاظ على خصائصها التي تمكّنها من مكافحة الآفات والحشرات مع تغير الطبيعة المناخية للمكان.
وبالصورة العامة، لا بدَّ من ذكر سوريا إذا ما ذُكر القمح، فزراعة هذا المنتج في البلاد مرّت بأطوار متعددة منذ البذرة الأولى، حيث كانت البلاد تأكل وتطعم غيرها، إذ تروي الدراسات التاريخية أن الإمبراطورية الرومانية كانت تتزود من سهول حوران من القمح والمنتجات الزراعية، حتى وُصفت بأنها “أهراء روما” أي “مستودعات الغذاء”، وبسبب اعتماد الرومان على المنتجات الزراعية وخاصة القمح، حرصوا على استغلال الأراضي وأولوها اهتمامًا كبيرًا لتطوير أنظمة الري، فحفروا القنوات والآبار تحت إشراف مهندسين مختصين.
وحديثًا، لم ير السوريون خيرًا قط من حافظ الأسد، ولم تكن له حسنة واحدة يمكن أن تترك ذكرى طيبة له في ذاكرة السوريين، اللهم إلا نجاحه في وضع سوريا على خارطة الدول القليلة في العالم المكتفية ذاتيًا بالقمح، وذلك في محاولة منه لكبح آثار العقوبات الأمريكية على نظامه، إلا أن وريثه بشار أفسد كل شيء.
من الاكتفاء الذاتي إلى الاستيراد
على مدار 20 عامًا، كانت سوريا الدولة العربية الوحيدة المكتفية ذاتيًّا من القمح ويوجد لديها فائض تصدّره، عدا عن ذلك فلديها أفضل البذور عالميًّا. وفي هذا التكثيف السريع نستعرض مسيرة القمح السورية خلال العقود الماضية، وكيف انتقلت سوريا من الاكتفاء الذاتي إلى دولة تستورد قمحها.
ظلت سوريا حتى عام 2011 دولة مكتفية ذاتيًّا ومصدرة للقمح، وبلغت الأراضي المزروعة بالقمح عام 2007 قرابة 1.7 مليون هكتار، بمعدّل إنتاجي يزيد عن 4 ملايين طن.
وكانت سوريا تعتمد سياسة دعم مركّزة لمحصول القمح، فضلًا عن محاصيل أخرى مثل القطن والزيتون والحمضيات، هذه المحاصيل وصل إنتاجها إلى حد جيد، حيث باتت تنتج البلاد ما يفوق المليون طن.
حافظت سوريا منذ عام 1990 حتى عام 2011 على المساحة المزروعة بالقمح والتي بلغت نحو 1.6 مليون هكتار، وأبقت الإنتاج أعلى من الحاجة محتفظة بمخزون استراتيجي يكفي لعامَين.
ومن مساحة القمح المزروعة تشكّل المساحة المروية 43%، والمساحة البعلية التي تعتمد على الأمطار 57%، والجدير بالذكر أن هذه النِّسَب تعطي مؤشرًا لاتّساع الرقعة المروية بعد أن كان السوريون يعتمدون في هذه الزراعة على الأمطار، ولكن مع دخول الألفية الجديدة وتطوير الأدوات الزراعية، بات المزارعون يعتمدون أكثر على الآلة في محاصيلهم، ما وفّر الجهد المبذول وحسّن من الإنتاج.
بلغ متوسط إنتاج البلاد من القمح خلال فترة 1995-2009 نحو 4 ملايين طن، وكان أعلى إنتاج عام 2006 بمقدار 4.9 ملايين طن.
انتهجت الحكومة السورية ساسية شراء كل محاصيل القمح من المزارعين، حيث كانت تشتري قبل عام 2011 ما كميته 2.5 مليون طن لمدّ الأفران به وتعزيز الاحتياطات، فيما يتمّ تصدير ما يقارب الـ 1.5 مليون طن إلى دول أخرى مثل مصر واليمن والأردن وغيرها.
بدأت سوريا تشهد تراجعًا في زراعة القمح، حيث شهدت السنوات الثلاث التي سبقت الثورة السورية 2011 إنتاجًا أقل من المطلوب بسبب سوء المناخ والجفاف الذي ضرب المنطقة، وبسبب ذلك هاجر آلاف الفلاحين بعض المناطق التي كانت تشكّل أراض لزراعة القمح في منطقة الجزيرة السورية، ولم يكن الجفاف هو السبب الرئيسي لهذا التراجع، فقد رفعت الحكومة أسعار الوقود والأسمدة وأصبحت كلفة الإنتاج لا تتناسب مع سعر السوق.
عطفًا على ما سبق، بدأت سوريا استيراد القمح عام 2008، وانخفض متوسط الإنتاج حيث تستلم الحكومة من الفلاحين 2.4 مليون طن من القمح عام 2010 مقارنة مع 2.8 مليون طن عام 2009، وهو العام الذي استقبلت فيه موانئ سوريا 1.2 مليون طن من القمح بعد سنوات الاكتفاء.
القمح بعد الحرب
مع انطلاقة الثورة السورية وبدء النظام السوري حربه على السوريين، تدهور إنتاج القمح في سوريا بشكل كبير، واضطرت سوريا خلال عام 2012 إلى استيراد الطحين لأول مرة، وخرجت أكثر من نصف المناطق المنتجة للقمح في شمال وجنوب البلاد من الإنتاج، كما تراجعت المساحة المزروعة بالقمح، حيث كانت الأقل منذ الستينيات.
وقد أنتجت سوريا عام 2012 قرابة مليوني طن من القمح رغم تأثُّر مناطق الإنتاج الرئيسية بالحرب والأحوال الجوية السيئة، لا سيما محافظتي حلب والحسكة، وتراوحت نسبة التراجع ما بين 30% و40%.
أما عن موسم عام 2013 فكان الأسوأ منذ 30 عامًا، وشهد طفرة باستيراد القمح إلى البلاد، حيث زادت كمية القمح المستورد إلى 2.4 مليون طن، وفي عام 2014 حصدت سوريا أسوأ محصول قمح حيث انخفض لأقل من مليون طن نتيجة الجفاف الشديد الذي شهدته البلاد، بالإضافة إلى ظروف الحرب.
أمّا في عام 2015، قالت مصادر النظام إن حصيلة مشتريات الدولة من المزارعين بلغت 454 ألف طن بالمقارنة مع 523 ألف طن في العام 2014، ونتيجة توزُّع قوى السيطرة في سوريا لا توجد إحصاءات لكامل الإنتاج في البلاد، حيث قام كثير من الفلاحين ببيع محاصيلهم بأسعار أرخص لوسطاء يصدّرونها إلى العراق وتركيا.
عام 2016 بلغ إنتاج سوريا من موسم القمح 1.7 مليون طن، تمَّ تسويق 425 ألف طن منها لمصلحة المؤسسة العامة للحبوب، والكميات الأكبر من الحبوب التي تمَّ استلامها كانت من الحسكة، في حين أن بقية المحافظات لعب عامل الجفاف دورًا سلبيًّا فيها، إضافة إلى احتفاظ بعض الفلاحين بإنتاجهم، والبعض الآخر باعه للتجّار في مناطق السيطرة المختلفة.
في عام 2017 وصل إنتاج سوريا من القمح إلى مليون و850 ألف طن، في الوقت الذي كان إجمالي إنتاج القمح عام 2013 على سبيل المثال نحو 3 ملايين طن، بينما لم يتجاوز إنتاج القمح لعام 2018 المليون و200 ألف طن، بحسب منظمة “الفاو” للأغذية.
توقّعَ النظام السوري أن يتجاوز موسم القمح لعام 2019 حدود الـ 2.5 مليون طن، خاصة بعد عودة العديد من المناطق لسيطرته حيث بات يسيطر على المساحة الأكبر، ما يؤمّن الطلب المحلي، ويحقق الاكتفاء الذاتي.
كاد أن يكون عام 2019 عام خير على القمح السوري لو لم تأتِ الحرائق على 10% منه، حيث اشتعلت النيران في حقول القمح والشعير، وأكّدت المعارضة السورية حينها أن الحرائق طالت كافة محاصيل القمح في البلاد، وقدّرت المساحات المحترقة بأكثر من 80 ألف دونم في عموم سوريا، ما يشكّل نحو 10% من كامل محصول القمح، والذي كان من المتوقع أن يتراوح بين 2.7 و3 ملايين طن، وهو الموسم الأضخم منذ أكثر من 10 سنوات.
وتقاذفت الأطراف كافة الاتهامات بافتعال الحرائق، حيث حمّل كثيرون “قسد”، المسؤولة عن أمن منطقة الجزيرة السورية، المسؤولية عن الحرائق، في حين قالت “الإدارة الذاتية” في بيان إن الحرائق مفتعلة من قبل أيادٍ مخربة، تهدف ضرب اقتصاد المنطقة ومحاربة الناس في أرزاقهم وممتلكاتهم بعد الفشل في زعزعة الاستقرار، وقد تبنّى تنظيم “داعش” بعض الحرائق، معتبرًا أن عملياته هي ضد من وصفهم بـ”المرتدين” في مناطق الرقة والحسكة وريف حلب.
أما بالنسبة إلى الحرائق التي طالت محصول القمح في مناطق المعارضة، فكان واضحًا أن النظام هو من افتعلها بغارات جوية أو قذائف مدفعية، وبعد سيطرة النظام على الكثير من الأراضي التي كانت بحوزة المعارضة، تقلصت المساحة الصالحة لزراعة القمح، ما أدّى إلى أزمة كبيرة.
من أين تستورد المناطق السورية قمحها؟
كما أسلفنا، كانت سوريا هي التي تصدّر القمح للعديد من الدول، إلا أنها باتت اليوم بحاجة لاستيراد هذه السلعة بكميات مليونية، حيث نقلت وكالة “إنترفاكس” الروسية عن وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية السوري، محمد سامر الخليل، قوله إن “سوريا بحاجة إلى استيراد أكثر من 1.5 مليون طن من القمح سنويًّا، معظمها من روسيا”، والحديث هنا في منتصف الشهر الأول من العام الحالي، لكن مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا وظهور أزمة غذاء عالمية أوقفت روسيا تصديرها للقمح إلى سوريا.
هذا بالنسبة إلى مناطق النظام، أما ما يخص مناطق سيطرة المعارضة الواقعة تحت الإدارة التركية، فإنها تحاول الاكتفاء ذاتيًّا من محصول القمح المزروع، ولكنها تغطّي النقص بالاستيراد من تركيا التي تعتبر المنفذ الوحيد لها.
وفي حديث لرئيس الحكومة السورية المؤقتة، عبد الرحمن مصطفى، قال إن المناطق الخاضعة لسيطرتهم تمتلك مخزون قمح يكفي حتى نهاية سبتمبر/ أيلول 2022، أي بداية الموسم الجديد للمحصول.
وأكّد مصطفى أن “حكومته لا تتلقّى الدعم بمادة القمح من أي دولة”، موضّحًا أن “تركيا هي فقط من تدعمنا”، وأشار إلى أن “حوالي 4 ملايين سوري متواجدون في مناطق المعارضة، ونحن بحاجة للدعم في القطاع الصحي والتعليمي، خاصة في ظل أزمة كورونا التي ضربت كل دول العالم”.
في إدلب التي تتواجد فيها حكومة الإنقاذ، فإن الحال يعتبر سيّئًا بالنسبة إلى القمح، وتضطر الإنقاذ أيضًا إلى الاستيراد من تركيا، ويدخل بعض الطحين إلى المحافظة على شكل مساعدات إنسانية من برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، أما بالنسبة إلى القمح فيدخل 90% منه عن طريق تركيا، قادمًا من أوكرانيا.
أما بالنسبة إلى مناطق سيطرة “قسد”، فتعتزم الأخيرة استيراد القمح من روسيا، بهدف تغطية العجز وأزمة نقص الخبز التي ضربت شمال شرقي سوريا، وقد بدأت تجري مشاورات قبل الغزو الروسي لأوكرانيا بين الجانب الروسي و”قسد” لتوريد نحو 100 ألف طن كأول دفعة وقد تتبعها دفعات أخرى بحسب الحاجة، ويذكر أن المنطقة التي تسيطر عليها “قسد” هي أغنى المناطق السورية بالقمح، لكن حالة عدم الاستقرار أدّت إلى تراجع الإنتاج وسوء المنتَج.
بالعموم، شهدت سوريا العام الماضي أخفض نسبة لإنتاج القمح منذ 50 عامًا، ويرجع ذلك للقحط وارتفاع أسعار المواد والظروف الاقتصادية السيّئة وفقًا لما نشرته منظمة “الفاو”.
ويأتي انخفاض الإنتاج الزراعي في وقت تعاني فيه سوريا من ظروف أقرب للمجاعة في بعض أنحاء البلاد، حيث أصبح أكثر من 90% من السكان يعيشون في فقر، وأكثر من 12.4 مليون نسمة يعانون من حالة انعدام الأمن الغذائي بحسب المنظمة.
الموقف الآن
مناطق سيطرة النظام: فشل “عام القمح”
أثّرت الحرب الروسية الأوكرانية على النظام السوري في مجالات عدّة وأهمها مادة القمح، حيث كان النظام يعتمد خلال السنوات الأخيرة على القمح الروسي بشكل كبير، وبات يستورد ما يقارب المليون ونصف المليون طن سنويًّا.
وباتت الحكومة التابعة للنظام في مأزق بعد الإعلان الروسي عن وقف تصدير القمح حتى نهاية يونيو/ حزيران المقبل، وبدوره قال المدير العام للمؤسسة السورية للحبوب عبد اللطيف الأمين: “يوجد مخزون كافٍ من مادة القمح يكفي الاحتياجات الطحينية لغاية الشهر السابع، حيث لا تزال عملية توريد الأقماح مستمرة عبر تنفيذ العقد مع الجانب الروسي المتضمن استيراد مليون طن تمَّ تنفيذ أكثر من 600 ألف طن منها”.
وبعد الإعلان الروسي سارعت حكومة النظام إلى البحث عن جهات لتستورد منها القمح، حيث أعلن عبد اللطيف الأمين أن المؤسسة تنوي التعاقد على توريد 200 ألف طن قمح من الهند، كما أنها تبحث عن خيارات بديلة لاستيراد القمح.
الجدير بالذكر أن نظام الأسد أعلن عن “خطة للتوسع في زراعة محصول القمح لموسم 2020-2021 وإعلانه عام القمح”، إلا أن هذه الخطة ورغم الترويج لها كثيرًا باءت بالفشل الذريع، حيث باتت البلاد تحت تهديد أزمة خبز أكبر خلال العام الجاري، بعد انخفاض في معدل هطول الأمطار محدثًا فجوة في الواردات تبلغ 1.5 مليون طن على الأقل.
وقال عضو المكتب التنفيذي لقطاع الزراعة التابع للنظام في حماة، فاضل درويش، إن “حكومة الأسد أخطأت بتسمية الموسم الحالي بعام القمح، فقد فشلت الخطة ولم تحقق أهدافها”، مضيفًا أن “وزارة الزراعة فشلت في زراعة مناطق المحافظة الشرقية بالقمح بدلًا من الشعير، حيث خسرنا المحصولين معًا، فمن منطقة محردة باتجاه الشرق كان محصول القمح سيّئًا نتيجة العوامل الجوية”.
وتحتاج مناطق النظام إلى مليوني طن من القمح سنويًّا لتأمين حاجتها من الخبز، إضافة إلى 360 ألف طن من البذور، ونحو 800 ألف طن للاستخدامات الأخرى من صناعة البرغل والمعكرونة والفريكة والسميد وغيرها، بحسب إحصاءات وزارة الزراعة، ومجموعها يزيد على 3 ملايين طن، لكن وفي كل عام تبرز أزمة طوابير على أفران الخبز في مناطق سيطرة النظام نتيجة أزمة القمح المستمرة.
المناطق المحرَّرة
تعاني اليوم الأراضي الزراعية وخاصة تلك المنتِجة للقمح في المناطق المحررة من مشاكل متعددة، مرجوعها للعوامل الجوية والاقتصادية والأزمات العالمية وفشل إدارة السلطات التي تحكم هذه المناطق.
ويجدر الذكر هنا أن منطقة إدلب غير مرتبطة بشكل مباشر بريف حلب الشمالي، وذلك لوجود حكومتَين منفصلتَين لإدارة هاتين المنطقتين، فمنطقة إدلب وبعض مناطق الريف الغربي لحلب تقع تحت إدارة حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، وكذا المنطقة الأخرى التي تقع في ريف حلب الشمالي وعفرين تُدار مدنيًّا من قبل الحكومة المؤقتة المدعومة تركيًّا، لكن هاتين الحكومتين لا تملكان التصرف بحرّية بحُكم وجود الفصائل العسكرية التي تفرض المكوس والضرائب على الفلاحين.
عانى محصول القمح خلال السنوات الماضية من الضعف بحكم الحرب القائمة، خاصة في هذه المناطق التي لم تهدأ فيها الحرب حتى عام 2020، وعندما خبت نيران المعارك عاد المزارعون ليواجهوا أزمات اقتصادية عالمية بدأت من انتشار وباء كورونا ويبدو أنها لن تنتهي بالغزو الروسي لأوكرانيا، ولعلّ للحرب الأخيرة العامل الأبرز بخلق أزمة جديدة حول العالم سيتأثر بها الشمال السوري تأثرًا بالغًا.
في ظل هذه الأزمات المتلاحقة، برزت الحرب الأوكرانية الروسية لتزيد الأعباء على حياة الناس، وكما ذكرنا أن مناطق المعارضة التي تعيش حربًا طويلة تخشى من نفاد مخزون القمح بحكم الحصار المطبق عليها من قبل النظام من جهة ومن قبل “قسد” من جهة أخرى، ولا منفذ إلا إلى تركيا التي أعلنت بدورها منع توريد بعض أنواع الحبوب من بينها القمح إلى الشمال السوري بسبب الأزمة الحالية.
واتخذت الحكومة التركية إجراءات جديدة منعت بموجبها تصدير بعض السلع الغذائية والمواد الأساسية، وأبلغت السلطات التركية الجهات المعنية في مناطق إدلب وشمال حلب بقرارها، مع استمرار فتح المجال أمامها لاستيراد تلك المواد من خارج تركيا، عبر الخط الإنساني وخطوط الترانزيت غير الخاضعة للرسوم الجمركية التركية والضرائب.
سبق الإعلان التركي حديث لرئيس الحكومة السورية المؤقتة عبد الرحمن مصطفى، قال فيه -كما أشرنا- إن المناطق الخاضعة لسيطرتهم تمتلك مخزون قمح يكفي حتى نهاية سبتمبر/ أيلول المقبل.
من جهته قال عبد الحكيم المصري، وزير الاقتصاد في الحكومة المؤقتة، إن “الحكومة أصدرت قرارًا يمنع تصدير القمح إلى أي جهة كانت تحت طائلة المحاسبة مهما كانت الكمية ومهما كانت الظروف والأسباب”.
ويشير المصري خلال حديثه لـ”نون بوست” أنهم اتخذوا عدّة إجراءات لمنع تهريب القمح في ظل هذه الأزمة العالمية، والتي يتأثر بها الشمال السوري عمومًا، ومن الإجراءات رفع سعر القمح إلى 430 دولارًا للطن الواحد بعد أن كانت تشتري الحكومة الطن الواحد بـ 320 دولارًا.
لا يستطيع الوزير أن يقدّر الإنتاج في المناطق التي تخضع لإدارة حكومته، ولكنه يشير إلى أن “كميات جيدة من القمح قد زُرعت هذا العام، سواء في مناطق غرب أو شرق الفرات”، وأوضح أنهم حاليًّا ينقلون كميات من مناطق رأس العين وتل أبيض إلى مناطق ريف حلب الشمالي، كما أنهم يعملون على شراء الكميات الفائضة عن حاجة التجار والمزارعين.
وأشار المصري إلى أن مخزون القمح يكفي المطاحن لمدة 5 إلى 6 أشهر تقريبًا، وتعمل المطاحن الموجودة على إنتاج ما معدله 125 طنًّا من الطحين يوميًا، وهذا إلى حين إنتاج الموسم الجديد، ويقلل المصري من إمكانية حدوث أزمة قمح خانقة في مناطقهم، خاصة أنه يتحدث عن وجود اكتفاء ذاتي ودعم من مؤسسة “آفاد” التركية بمادة الطحين لأفران المجالس المحلية.
ويشير المصري إلى أن الصعوبات التي واجهت المنطقة العام الماضي كانت نتيجة للجفاف، أما هذا العام يتمنى أن يكون أجود إنتاجيًّا، ويرى أنه في حال كان الإنتاج جيدًا في منطقة تل أبيض لوحدها، يمكن أن يكفي هذه المناطق لموسم كامل.
إدلب تعاني
أما في إدلب التي تديرها حكومة الإنقاذ، فقد بدأت تأثيرات أزمة القمح تظهر، حيث خفّضت “الإنقاذ” وزن ربطة الخبز ليصبح 575 غرامًا، بسعر 5 ليرات تركية، بعدد 7 أرغفة، بعد أن كان 750 غرامًا، ويشمل تخفيض الوزن جميع الأفران الحكومية والخاصة.
وعن الأسباب، نقلت صحيفة “عنب بلدي” أن “السبب في تخفيض وزن ربطة الخبز هو قلة المواد الأولية ولا سيما الطحين، إذ كان يبلغ سعر الطن الواحد من الطحين من 380 إلى 390 دولارًا، وارتفع ليصل إلى حوالي 530-540 دولارًا للطن الواحد”.
الجدير بالذكر أن 90% من القمح الذي تستورده حكومة الإنقاذ هو أوكراني يأتي عن طريق تركيا، وبسبب ذلك تزداد الأزمة التي تضرب الأسواق في هذه المنطقة، ويذكر أن الحكومة حاولت منذ أكتوبر/ تشرين الأول تنفيذ عدة خطط لدعم مادة الخبز عبر دعم الأفران الحكومية، وتمَّ تحديد سعر ربطة الخبز حينها بـ 2.5 ليرة تركية بوزن 600 غرام.
كما أعلنت الحكومة عن منحها “قرضًا عينيًّا حسنًا” للمزارعين في إدلب، وذلك لتحقيق ما قالت إنه “متطلبات الأمن الغذائي”، وقالت وزارة الزراعة والري في حكومة الإنقاذ إن “القرض يهدف إلى دعم محصول القمح لموسم 2021-2022”.
وفقًا لإحصاءات حكومة الإنقاذ، فإن إنتاج القمح تراجع عام 2021 إلى 33 ألف طن، في حين أن الإنتاج عام 2020 تجاوز 70 ألف طن، بما يقدَّر بأكثر من ضعف الإنتاج الإجمالي، وذلك بعد تراجع مساحة الأراضي المزروعة من أكثر من 19 ألف هكتار إلى 9 آلاف و800 هكتار فقط، إثر سيطرة النظام وحلفائه على مناطق واسعة من ريف حماة وصولًا إلى ريف إدلب.
ووفقًا للإنقاذ، فإن منطقة إدلب غير مكتفية ذاتيًّا من مادة القمح، وذلك بسبب قلة الإنتاج وكثرة الطلب والكثافة السكانية العالية، كما تقول إنها تعمل على تحقيق هذا الاكتفاء بالإجراءات التي تقوم بها وذكرناها آنفًا، حيث يُذكر أن القمح المنتج محليًّا لا يكفي احتياجات السوق المحلية، ومخزون إدلب من القمح لا يكفيها حتى لشهر واحد.
الحسكة: سلة سوريا القمحية خاوية
كانت محافظة الحسكة الواقعة شرقي سوريا، والتي تسيطر عليها حاليًّا “قسد”، المصدر الأساسي للقمح في سوريا، حيث كان يشكّل إنتاجها نحو 60% من حاجة سوريا للمحصول الاستراتيجي، إلا أن تراجعًا ضرب إنتاج المحافظة ومرجوع ذلك لسوء إدارة القطاع الزراعي وغياب الدعم للمزارعين، عدا عن ذلك فإن المحاصيل التي تنتجها تلك المناطق اليوم يتمّ التلاعب بها وتهريبها، في الوقت الذي يعاني فيه المواطنون من رداءة الخبز وقلّته.
عام 2020 تسلمت “قسد” من الفلاحين أكثر من 600 ألف طن من القمح خلال محصول العام 2020، وأكثر من 900 ألف طن خلال محصول العام 2019، وباعت أكثر من 200 ألف طن من القمح للنظام خلال العامَين 2019-2020 من مخزونها، ووفقًا لـ”تلفزيون سوريا” فقد صدّرت “الإدارة الذاتية عبر تجّار أكثر من 300 ألف طن من القمح إلى العراق والخارج عبر إقليم كردستان في عامي 2019 و2020”.
وقد ضربت العام 2021 موجة جفاف في مناطق شرقي سوريا، الأمر الذي أدّى إلى تلف معظم مساحات الأراضي البعلية، وتسلّمت سلطات “قسد” من المزارعين قرابة 180 ألف طن من القمح مقارنة مع 600 ألف طن العام الذي سبقه، وتتراوح حاجة منطقة الإدارة الذاتية سنويًّا بين 550 و600 ألف طن لتأمين الطحين للأفران المدعومة في المنطقة.
مشاريع خيرية لدعم القمح
أحمد شهاب، مدير برنامج الأمن الغذائي وسبل العيش في منظمة بنفسج، يقول في حديثه لـ”نون بوست” إن الخطط موجودة لدى المنظمات في إدلب، وذلك من أجل مواجهة أزمة القمح العالمية التي تمتدّ إلى إدلب يومًا بعد آخر، وأشار إلى وجود مشاريع لدعم المزارعين ماليًّا ولوجستيًّا، لكن هذا الدعم لا يكفي جميع المزارعين، كما يشير شهاب إلى وجود توجُّه لدعم سلسلة القمح في المواسم القادمة.
بدورها تستكمل منظمة قطر الخيرية مشروع “دعم سلسلة القيمة لمحصول القمح” في الشمال السوري، وذلك بالشراكة مع مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، وبدعم من صندوق التمويل الإنساني الخاص بسوريا، بهدف تعزيز الأمن الغذائي وسبل المعيشة لسكان الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة السورية.
ويدعم مشروع المنظمة محصول القمح من البذرة إلى أن تصبح رغيف خبز، قبل توزيعه على المستفيدين، إضافة إلى كل ما يتعلق بهذا المحصول الاستراتيجي من مراحل تخزين وطحن وإنتاج مادة الطحين، ومن ثم الخبز.
وفقًا لقناة “الجزيرة“، فإن المشروع “يتكوّن من سلسلة متكاملة تشمل زراعات محطات إكثار بذور القمح، لدعم إنتاج واستعادة النقاوة الصنفية لبذور القمح السورية، ودعم زراعة القمح بتزويد المزارعين بالمدخلات الزراعية، لزراعة هكتار لكل منهم. كما يقوم فريق المشروع بترميم كل من منشآت صوامع تخزين حبوب القمح وأبنية المطاحن القديمة في المنطقة، فضلًا عن تقديم مطاحن جديدة لطحن القمح بقدرة إنتاجية تبلغ 50 طنًّا يوميًّا، وإنشاء مستودعات طحين”.
إضافة إلى ذلك، أطلقت الهيئة العالمية للإغاثة والتنمية “أنصر” مشروعًا لدعم زراعة القمح في إدلب، بهدف دعم مخزون الشمال السوري من محصول القمح الاستراتيجي، ويستهدف المشروع 600 مزارع قمح ربّ أسرة، في قرى وبلدات تفتناز، زردنا، المشهد، طعوم، سرمين، بنش، كتيان وشلخ.
بدورها تتوقع منظمة عطاء الحصول على 400 طن من الطحين في نهاية مشروع نفّذته لدعم 5500 مزارع في 6 قرى في منطقة معرة مصرين، ليصار إلى تحويله إلى خبز يوزَّع مجانًا على المخيمات لمدة شهرَين، حيث ستشتري المنظمة طنًّا واحدًا من القمح من كل مزارع بسعر مناسب.
وعودًا على بدء، وعلى الرغم من أن “إيكاردا” قد أخلت مقراتها بحيث لا يمكن الاستفادة منه، إلا أن عددًا من المهندسين والخبراء الزراعيين أسسسوا عام 2019 “تجمع التنسيق الزراعي في منطقة إيكاردا”، في محاولة لتفعيل القطاع الزراعي في المنطقة، لتكون نواة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، كما تنشط في الشمال السوري المحرر مؤسسة إكثار البذار التابعة للحكومة المؤقتة.
وبالمحصلة، فإنّ السوريين في مختلف مناطقهم أمام تحد حقيقي خلال السنوات المقبلة، يتعلق بالمنتج الزراعي الأكثر استراتيجية والذي تعتمد عليه الأسر السورية بصورة لا يمكن الاستغناء عنها في كل مائدة تقريبًا، وكما أثبتوا أنهم يمكنهم الاكتفاء الذاتي طوال 20 عامًا من قبل، رغم العقوبات الأمريكية، فيمكنهم كذلك حشد طاقاتهم والعودة إلى الدول المصدرة للقمح رغم ظروف الحرب.