نشرت صحيفة “حرييت” التركية، في 18 مارس/آذار الحاليّ، نتائج استطلاع رأي أجرته شركة “آريدا سرفي” للأبحاث على عينة تجاوزت ألفي شخص تركي خلال الفترة بين 26 و28 فبراير/شباط الماضي، كان أبرزها أن 90.8% من المستطلعة آراؤهم أكدوا أن حلف شمال الأطلسي “الناتو” لن يتدخل لمساعدة تركيا في الدفاع عن نفسها حال حصول أي هجوم على البلاد.
لم تكن نتائج استطلاع الرأي هذا هي الأولى من نوعها التي تشير إلى فقدان الشعب التركي الثقة في الحلف الغربي، إذ شهدت السنوات الأخيرة حالة من تراجع المزاجية الشعبية إزاء الناتو لا سيما بعد تصاعد التوترات في الآونة الأخيرة، التي أكدت تغريد التحالف منفردًا عن المصالح القومية التركية رغم العلاقة الممتدة بينهما لأكثر من 70 عامًا.
وكثيرًا ما تعاني الرؤية التركية تجاه عضوية الناتو من ازدواجية نسبية بين الموقفين، الشعبي والرسمي، تصل في بعضها حد التناقض، خاصة أوقات الأزمات التي يتعارض فيها التوجه التركي مع نظيره الغربي، غير أن الأعوام القليلة الماضية، وتحديدًا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، بدأت نغمة الرفض الشعبي وفقدان الثقة في الأطلسي تعلو شيئًا فشيئًا، رافقها تصعيد رسمي من رأس الهرم السلطوي في البلاد بالتلويح بفكرة الانسحاب إذا لم يتلزم الكيان بالدور المنوط به إزاء الدول الأعضاء.
يذكر أن أنقرة وقعت في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1951 على بروتوكول انضمامها للناتو الذي يضم اليوم 30 دولة، لتحصل على العضوية بشكل رسمي في 18 فبراير/شباط 1952، لتصبح على مدار العقود السبع الماضية أحد الأضلاع الأساسية في أقوى تحالف عسكري في العصر الحديث.
تركيا والناتو.. البراغماتية كلمة السر
قامت العلاقة في الأساس بين تركيا والناتو على أساس برغماتي بحت، تلك العلاقة التي علتها أصوات الدبلوماسية الجوفاء فيما كانت الشروخ الأيديولوجية والتاريخية تنخر في جدران بيتها الداخلي، حتى باتت هشة أمام كل أزمة أو تباين في وجهات النظر، فسرعان ما تتهاوى قبل أن يسارع الجميع لترميمها مرة أخرى.
قدم الأتراك أوراق اعتمادهم رسميًا للغرب إبان الحرب الكورية عام 1950 حين أرسلت أنقرة آلاف الجنود لدعم القوات الأمريكية وحلفائها في تلك المعركة
في أعقاب الحرب العالمية الثانية تم تشكيل خطوط تماس جديدة بين المعسكرين الشرقي والغربي، هنا تلاقت المصلحة التركية والغربية في نقطة واحدة، تتمركز حول العداء للاتحاد السوفيتي الذي كان يشكل تهديدًا واضحًا لأمن الأتراك من جانب، ومن ثم الأمن القومي الغربي.
وكانت النخب التركية في عهد حكومة حزب الشعب الجمهوري، تسعى للالتحاق بالحلف منذ تأسيسه عام 1949، لكنها المساعي التي لم تكلل بالنجاح في ظل اعتراض بعض الدول الأوروبية وفي المقدمة منها فرنسا وبريطانيا، خشية نقل أنقرة لمشاكل دول الجوار الشرق أوسطي للناتو.
قدم الأتراك أوراق اعتمادهم رسميًا للغرب إبان الحرب الكورية عام 1950 حين أرسلت أنقرة آلاف الجنود لدعم القوات الأمريكية وحلفائها في تلك المعركة، وكان ذلك إيذانًا بقبول انضمام الدولة التركية للناتو، امتثالًا للمستجدات الإقليمية والدولية التي عززت أهمية تركيا كدولة ذات موقع جيوسياسي متميز يؤهلها لخدمة أهداف هذا الحلف الذي تأسس في الأساس من أجل تعميق التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي بين دول المعسكر الغربي لمواجهة التحديات المحيطة القادمة من المعسكر الشرقي الذي كان يقوده بالأمس الاتحاد السوفيتي، قبل أن ينضم إليه اليوم الصين بجانب روسيا البوتينية.
تماهت تركيا في مواقفها بداية الأمر مع المزاج الغربي الذي تحول في وقت من الأوقات إلى أحد أهم محددات السياسة الخارجية التركية، فسارعت أنقرة للاعتراف بدولة الاحتلال الإسرائيلي، مغازلةً للولايات المتحدة وعواصم أوروبا، كما شاركت في حلف بغداد، واستعدت وقتها حلفائها العرب، هذا بخلاف انتقادها لتأميم قناة السويس تماشيًا مع موقف الغرب، ودعمها لفرنسا في الجزائر، لكن هذا التماهي سرعان ما اصطدم بالاضطرابات الدامية التي شهدتها جزيرة قبرص في فترة 1963-1964.
في تلك الأزمة سعت تركيا لدعم القبارصة الأتراك عبر التدخل عسكريًا لمساعدتهم، معتقدة أن الناتو سيقف إلى جوارها ردًا على ما قدمته لأجل التحالف طيلة الـ13 عامًا منذ انضمامها وحتى تلك الأزمة، لكن المفاجأة أن واشنطن أرسلت خطابًا شديد اللهجة يحذر تركيا من أي تدخل عسكري في قبرص، ملوحًا أن أمريكا لن تقف إلى جانب الأتراك ضد أي غزو سوفيتي محتمل.
وهنا دخلت السياسة الخارجية التركية إزاء الناتو منعطفًا جديدًا أكثر استقلالية وانفتاحًا على تحالفات أخرى، لتشهد العلاقات بين الطرفين موجات متلاطمة من المد والجزر، تم التطرق إليها تفصيلًا في تقرير سابق لـ”نون بوست”.
الشارع التركي والناتو.. الفجوة تتسع
كان للتوتر الكلمة العليا على أجواء العلاقات بين الناتو وتركيا مقارنة بفترات التناغم المؤقتة التي في الغالب جاءت نتيجة تلاقي المصالح لا الأيديولوجيات والتوجهات، ثم جاء الربيع العربي ليلقي بظلاله القاتمة على هذا التوتر، معمقًا سراديبه ومساراته حد الصدام والتناقض في الرؤى والسياسات.
الأمور سرعان ما تبدلت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، حين تخلى الناتو عن دعم حليفه التركي، تاركًا إياه وحيدًا في مواجهة مخطط تآمر لإسقاط نظام الرئيس رجب طيب أردوغان
ومثلت الحالة السورية النموذج الأكثر فضحًا للفجوة الكبيرة بين أنقرة والغرب عمومًا، إذ فضحت الازدواجية التي يتعامل بها الحلف مع أعضائه، وهي السياسة التي تحفظت عليها تركيا بصورة دفعتها أكثر من مرة للتفكير في الانسحاب من هذا التحالف، لولا الحسابات السياسية والإستراتيجية التي تجبر الطرفين على منح المزيد من الفرص لتبريد الأزمات المستعرة بينهما بين الحين والآخر.
منذ 1952 وحتى 2016، ظل النقاش الشعبي عن عضوية تركيا في الناتو أسير الغرف المغلقة، في ظل الخطاب الإعلامي والسياسي الموحد بشأن أهمية تلك العلاقة وتأثيرها في دعم دور البلاد الإقليمي وتوسيع نفوذها السياسي عالميًا بجانب حائط صد وسد أمان أمام أي تهديدات محتملة من المعسكر الشرقي وفي المقدمة منه روسيا وإيران و”إسرائيل”.
غير أن الأمور سرعان ما تبدلت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، حين تخلى الناتو عن دعم حليفه التركي، تاركًا إياه وحيدًا في مواجهة مخطط تآمر لإسقاط نظام الرئيس رجب طيب أردوغان، وعلى النقيض من ذلك بدأ التلويح بتواطؤ غربي في تلك المحاولة الفاشلة.. من هنا بدأ الشارع التركي يفقد الثقة تمامًا في الناتو، معتبرًا إياه معول هدم أكثر منه مقوم بناء.
لماذا لا يثق الأتراك في الناتو؟
لم تكن نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته شركة “آريدا سرفي” للأبحاث، الشهر الحاليّ، مفاجأة بالنسبة للمراقبين للوضع في تركيا، ففقدان الثقة في الناتو إحساس متأصل منذ سنوات في العقلية الشعبية التركية التي ترى أن الغرب بصفة عامة يتعامل مع بلادهم من منطلق برغماتي بحت، ولولا الحاجة الماسة للدور التركي المنطلق من أهميته الجيوسياسية، لما تقارب معها من الأساس، لا سيما أنه رغم هذا الاحتياج هناك العديد من دول الحلف تجاهر بخصومتها السياسية مع أنقرة كفرنسا وألمانيا، فضلًا عن الولايات المتحدة بين الحين والآخر.
يؤمن كثير من الشعب التركي أنه لو تعرضت بلادهم لغزو من أي نوع أو تهديد لاستقرارها وأمنها من أي قوى إقليمية كانت أو دولية، فإن الغرب سيقف مكتوف الأيدي، ولن يفعّل الاتفاقيات الملزمة له بالدفاع عن الدولة العضو في الحلف، مكتفيًا بالدعم الدبلوماسي وربما اللوجستي في بعض الأحيان، مقارنة بما يمكن أن يكون عليه الوضع لو كانت دولة عضو أخرى هي ما تعرضت لاعتداء.
وترتبط الحالة الشعبية من عدم الثقة في المقام الأول بنظرة العداء التركي للولايات المتحدة ودورها في المنطقة عمومًا وتركيا على وجه خاص، هذا بخلاف التشكيك في الأدوار التي تقوم بها واشنطن لخدمة أهدافها ومصالحها دون أي اعتبار لمصالح الدولة التركية حسبما ذهب الكاتب التركي، سيتينر جيتين.
جيتين في مقال له بصحيفة “Habertürk” التركية ألمح إلى سيطرة معتقد (اتهام دول الناتو بالتواطؤ في محاولة انقلاب 2016) على المزاج الشعبي التركي، لافتًا إلى شيوع تلك القناعة التي لاقت ترويجًا صحفيًا لدى الوسط الجماهيري، إن لم تكن مشاركة عملية فعلى الأقل كان الغرب على علم بتلك المحاولة لكنه تجاهل تحذير حليفه التركي بها.
واستند الكاتب التركي في مقاله إلى السجل الأسود للغرب مع تركيا، وهي الأرضية التي مهدت لتعزيز فقدان الثقة في الناتو وأعضائه، مضيفًا “لن يكون من المبالغة الادعاء بأن الانقلابات العسكرية في تركيا في 1960 و1971 و1980 تمت بإدارة ومشاركة الولايات المتحدة”.
الكاتب الصحفي التركي أحمد كيكيتش، يرى في مقال له أن فقدان الثقة في الناتو يأتي من نظرة الحلف لتركيا كدولة محورية قائمة داخل الكيان الغربي، لافتًا أن دوافع قبول الغرب لأنقرة داخل الناتو في أعقاب الحرب العالمية الثانية لم تعد موجودة اليوم بالشكل التقليدي، إذ انتهت الحرب الباردة ولم يعد هناك تهديدات يمكنها أن تقلق الدول الغربية، ومن ثم تراجعت نظرة الغرب للدور التركي، وإن كانت تلك الرؤية تتعارض نسبيًا مع التطورات الأخيرة التي أعادت التهديدات مرة أخرى وفرضت أنقرة كلاعب أساسي، وعليه ربما يكون لها تأثيرها في إعادة ترتيبات وتموضعات العلاقة بين الطرفين مستقبلًا، كما سيتم التطرق إليه لاحقًا.
انتقلت عدوى فقدان الثقة في الناتو من المزاج الشعبي إلى أروقة النخب السياسية
ويعتقد كاتب الزاوية الشهير في صحيفة “ستار” التركية، أن الناتو لم يعد الحلف المقنع للأتراك، حتى لو قبل على مضض بعض التوجهات السياسية التركية إزاء عدد من الملفات، متهمًا حلفاء تركيا الغربيين بالوقوف خلف أي محاولة في الداخل والخارج تستهدف استقلال بلاده، مضيفًا “وهذا لا يدهشنا في الحقيقة”.
واستعرض كيكيتش أبرز التحفظات الشعبية إزاء حلف الأطلسي، وعلى رأسها عدم تلبية الاحتياجات الدفاعية لتركيا رغم الأزمات التي تواجهها التي تتطلب دعمًا عسكريًا جماعيًا بحسب لائحة الحلف التأسيسية، لكن على النقيض من ذلك تعلن بلدان الناتو بين الحين والآخر تعليقها لصفقات الأسلحة إلى تركيا، في وقت تواجه فيه أنقرة تنظيمات إرهابية ومسلحة، بعضها مسجل في سجلات الحلف، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات دون إجابة لدى رجل الشارع التركي، مطالبًا بلاده بتوفير احتياجاتها الدفاعية، إما بنفسها أو عبر حلفاء جدد، دون الحاجة للتحالف الغربي.
وانتقلت عدوى فقدان الثقة في الناتو من المزاج الشعبي إلى أروقة النخب السياسية، فبعيدًا عن تصريحات الرئيس ووزير خارجيته، التي يمكن قراءتها في إطار تصريحات الضغط الدبلوماسية للخروج بأكبر قدر من المكاسب، جاءت تصريحات الساسة والبرلمانيين الأتراك لتتناغم هي الأخرى مع التوجه الشعبي.
عضو البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، إسماعيل كايا، في مداخلة تليفزيونية على قناة “روسيا اليوم” في ديسمبر/كانون الأول 2020، تساءل عن المسؤول عن تراجع الثقة بين بلاده والناتو، محملًا الغرب المسؤولية الكاملة إزاء هذا التراجع بسبب العديد من القرارات والتوجهات التي هددت الأمن القومي التركي.
من أبرز تلك الأسباب – من وجهة نظر كايا – الاحتضان الأمريكي لزعيم تنظيم غولن المتهم بتنفيذ محاولة الانقلاب التي أسفرت عن مقتل 251 مدنيًا تركيًا، كذلك دعم أمريكا وأوروبا لتنظيم PKK الإرهابي الذي قتل عشرات آلاف على مدى عقود، بجانب تضييق الخناق التسليحي على أنقرة من خلال رفض بيعها منظومة باتريوت، ما دفعها للحصول على صواريخ S400.
الحرب الروسية.. إعادة تموضع
ربما تمثل الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة حاليًّا نقطةً مفصليةً في تاريخ العلاقة بين تركيا والغرب، لا سيما بعدما قدمت أنقرة نفسها كلاعب سياسي ووسيط يتمتع بالثقة لدى طرفي الأزمة، ما دفع الغرب عمومًا لاتخاذ حزمة من الإجراءات التقاربية مع الجانب التركي بعد فترة طويلة من الجفاء وبرودة الأجواء.
واشنطن والعواصم الأوروبية أعربوا عن ترحيبهم الكبير بالدور التركي لحلحلة الأزمة وتبريد الأجواء بين موسكو وكييف، إذ احتضنت أنقرة أول لقاء يجمع بين وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا، إلى جانب نظيرهما التركي، وعليه سارع الغرب مجددًا للحديث عن تركيا كحليف لا يمكن الاستغناء عن خدماته، في لغة خطاب غابت طويلًا عن مسار الدبلوماسية الباردة بين الطرفين.
هناك شبه تناغم بين المزاج الشعبي والرسمي التركي بشأن منسوب الثقة في الناتو الذي يتناقص عامًا تلو الآخر، وهو الدرس الذي يبدو أن السلطات الحاكمة تعلمته جيدًا، بعيدًا عن حساباتها التي تتعارض في كثير من الأحيان مع التوجه الجماهيري
فها هو الرئيس الأمريكي جو بايدن يجري اتصالًا مع نظيره التركي، استغرق ساعة كاملة وفق تصريح المتحدثة باسم البيت الأبيض، فيما عادت اللجنة البرلمانية الأوروبية التركية المشتركة سلسلة اجتماعاتها مرة أخرى بعد انقطاع استمر لمدة ثلاث سنوات كاملة، في خطوات اعتبرها البعض فرصةً لترميم الشروخات في العلاقات بين الجانبين خلال المرحلة القادمة التي يتوقع أن يظل فيها الغرب في حاجة ماسة للدور التركي في المنطقة.
تعلم تركيا جيدًا إن إلقاء البيض كله في سلة الغرب فقط مغامرة محفوفة بالمخاطر، لا سيما أن التاريخ أثبت أن أوروبا وأمريكا مجتمعات ميكافيللية من الطراز الأول وغير موثوق فيها، رسميًا أو شعبيًا، وعليه من المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة انفتاحًا تركيًا أكثر في دائرة التحالفات، وهو ما يمكن قراءته في المواقف التركية الأخيرة التي تسعى للحفاظ على العلاقات مع المعسكر الشرقي رغم الضغوط الغربية.
في ضوء المعطيات السابقة، يمكن القول إن هناك شبه تناغم بين المزاج الشعبي والرسمي التركي بشأن منسوب الثقة في الناتو الذي يتناقص عامًا تلو الآخر، وهو الدرس الذي يبدو أن السلطات الحاكمة تعلمته جيدًا، بعيدًا عن حساباتها التي تتعارض في كثير من الأحيان مع التوجه الجماهيري، بما يعزز حضورها الدولي والإقليمي ويوسع خريطة حلفائها، وهو الملف الذي من المتوقع سيكون له أثره المباشر في الماراثون الانتخابي القادم.