يشكّل المسلمون في فرنسا أحد أبرز أضلاع الدولة، إذ يُعتبر الإسلام الدين الثاني للبلاد، كما تحوّلت الجالية المسلمة في هذا البلد الأوروبي إلى أحد أبرز الملفات التي سحبت الأضواء من الجميع خلال السنوات الأخيرة، لما تعرضت له من استهداف ممنهج بسبب تنامي خطاب الكراهية وحزمة القرارات والإجراءات التي اتخذها الرئيس إيمانويل ماكرون، والتي فسّرها البعض على أنها مغازلة صريحة لليمين المتطرف على حساب المسلمين.
المسلمون في فرنسا
رغم أن الدستور الفرنسي يمنع تعداد السكان وفق انتماءاتهم العرقية أو الدينية، إلا أن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن عدد الأقلية المسلمة هناك يتجاوز 5.5 ملايين مواطن يشكّلون أكثر من 8% من إجمالي عدد السكان، وهي النسبة التي صرّح بها وزير الداخلية عام 2003، نيكولا ساركوزي، والتي لم تتغير حتى اليوم ويتمّ الاستناد إليها كمرجعية شبه رسمية.
وتعدّ فرنسا واحدة من أكثر دول القارة العجوز احتكاكًا مع المجتمعات الإسلامية على مرّ التاريخ، نظرًا إلى مسيرتها الاستعمارية الطويلة التي كان للدول الإسلامية نصيب الأسد منها، ما يجعل الحديث عن العلاقة بين الإسلام وأبنائه من جانب وفرنسا وأنظمتها الحاكمة من جانب آخر، حديثًا ذا شجون لما يترتّب عنه من استدعاء مرير للتاريخ، ومعاناة شبه يومية لواقع قاسٍ وقلق وترقب لمستقبل مجهول.
دخول الإسلام فرنسا
تعود معرفة فرنسا بالإسلام إلى القرن الثامن الميلادي، لذا تعدّ من أقدم دول أوروبا التي دخلها الدين الإسلامي عبر نافذة من نوافذها الممتدة، ويمكن تقسيم استيطان المسلمين الدولة الفرنسية تاريخيًّا إلى مرحلتَين زمنيتَين، شكّلتا فيما بعد ترسيخ أركان الأقلية الإسلامية في البلاد، ووسعتا من دائرة نفوذ الدولة الغربية داخل الأراضي الإسلامية.
المرحلة الأولى هي تلك التي بدأت مع الحملة التي قادها القيادي المسلم طارق بن زياد عام 715م/ 96هـ إلى بعض مدن أوروبا، كطرطوشة وبرشلونة، ووصلت إلى نهر الرادنة (الرون حاليًّا، ينبع من سويسرا ويصبّ في جنوب شرق فرنسا بطول إجمالي 812 كيلومترًا).
ثم جاء التمدد الإسلامي عبر الأندلسيين في القرن الثالث الهجري، حيث استولى البحّارة المسلمون على مدينة نيس وأحكموا كامل سيطرتهم على شواطئ فرنسا الجنوبية، مع بعض المدن في سويسرا وجزيرة كورسيكا.
رغم الصعوبات التي وجدتها السلطة الفرنسية وقتها في إقناع المسلمين بالسفر إلى أراضيها، إلا أن الدولة مارست أبشع أنواع التنكيل باستحداث قوانين ملزمة إجبارية للسفر والتنقل وإلا فالقتل هو ثمن الرفض
المرحلة الثانية هي التي يمكن القول إنها بدأت بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فبعد إحكام فرنسا السيطرة على بعض البلدان الإسلامية، وفي المقدمة منها الجزائر، بدأت في استجلاب الأيدي العاملة من المسلمين وترحيلهم إلى باريس لإعمار مخلفات الحرب وبناء الدولة من جديد.
ورغم الصعوبات التي وجدتها السلطة الفرنسية وقتها في إقناع المسلمين بالسفر إلى أراضيها، إلا أن الدولة مارست أبشع أنواع التنكيل باستحداث قوانين ملزمة إجبارية للسفر والتنقل وإلا فالقتل هو ثمن الرفض، وقد سقط مقابل ذلك المئات من أبناء الشعب الجزائري الذين رفضوا الانصياع للإرادة الفرنسية والعمل لديهم كـ”عبيد وخدم”.
وعامًا تلو الآخر بدأت أفواج من العرب والمسلمين السفر إلى فرنسا وأوروبا بصفة عامة، لا سيما بعدما فتحت تلك البلدان أبوابها للعمالة الأجنبية وتوفير حياة مادية أفضل هناك، ما شجّع الكثير من أبناء المسلمين على مغادرة بلدانهم الفقيرة والتوجُّه إلى بلاد الغرب بحثًا عن مستوى دخول أفضل.
وشيئًا فشيئًا تحولت زيارات العمل إلى إقامة شبه دائمة ثم دائمة، وبدأ التفكير في الحصول على الجنسية الفرنسية ثم بناء حياة متكاملة تمامًا، قابلها انفصال وانسلاخ نسبيّان عن حياتهم القديمة في بلدانهم العربية والإسلامية، حتى باتت فرنسا البلد الأول لكثير من الأجيال اللاحقة، لا سيما الجيلَين الثالث والرابع.
أزمة التعداد الفعلي
من أكبر التحديات التي تواجه المسلمين في فرنسا والمهتمين بشأن الأقليات عمومًا غياب الإحصاء الرسمي للأعداد الحقيقية لهم، إذ تنصّ المادة الأولى من الدستور الفرنسي الصادر عام 1958 والمعدَّل عام 2008، على أن “الجمهورية الفرنسية جمهورية غير قابلة للتجزئة، علمانية، ديمقراطية واشتراكية. تكفل المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز في الأصل أو العرق أو الدين. وتحترم جميع المعتقدات. تنظم الجمهورية على أساس لا مركزي”، وبناء عليه لا تعتمد الدولة أي إحصاءات على أساس ديني أو عرقي.
ومن هنا فإن كافة التقديرات الواردة بشأن أعداد المسلمين لا تعدو كونها اجتهادات بناءً على عدد من المؤشرات، وتتباين بين جهة وأخرى، فبينما ذهب نيكولا ساركوزي إلى أن العدد 5 ملايين عام 2005، قدّر مركز بيو للأبحاث الأعداد بنحو 5.7 ملايين عام 2016، بما نسبته 8.8% من عدد السكان.
شكّكت بعض النخب الفرنسية في تلك الأرقام، لافتين إلى أن العدد الفعلي أكبر من ذلك بكثير، كما ذهب عدد من الباحثين في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي وأحزاب اليمين المتطرف، إذ أشاروا إلى أن العدد يتأرجح بين 15 و20 مليونًا بنسب 22-30% من عدد السكان.
ليس هناك معيار ثابت للتأكُّد من صحة تلك الأرقام، غير أن الشائع إعلاميًّا والمعتمد لدى الكثير من جهات البحث والدراسات المعنية بقراءة الخارطة الديموغرافية الفرنسية، تميل نسبيًّا إلى نسبة المسلمين التي تترواح بين 8 و9% من إجمالي الشعب الفرنسي.
ويتصدّر الجزائريون قائمة الأكثر عددًا في خارطة الأقلية المسلمية في فرنسا بنسبة 35% من إجمالي عدد المسلمين، يليهم المغاربة بنسبة 25% ثم التونسيون بـ 10%، هذا بخلاف الجالية التركية التي تمثّل رقمًا ليس بالقليل، بجانب بعض الأصول الأخرى من مصر وليبيا وعدد من دول أفريقيا.
الانخراط السياسي والمجتمعي
هناك العديد من الجمعيات والكيانات المجتمعية والدينية التي تمثّل المسلمين داخل فرنسا، وتحاول قدر الإمكان تقليل مساحات الفجوة بين الخلفيات الثقافية والعرقية المختلفة، لا سيما في ظلّ اتّساع الهوّة بين الانتماءات والتيارات داخل النسيج المسلم الواحد في الدولة الأوروبية.
ويأتي على رأس تلك الكيانات “المعهد الإسلامي” و”مسجد باريس الكبير” الذي دُشِّن عام 1926، حيث بات هذا المسجد قبلة المسلمين لا سيما في العاصمة، لما يشكّله من ثقل قوي كونه يمثّل الدين الوسطي هناك، بعيدًا عن أي تجاذبات من التيارات المتشددة نسبيًّا، ولهذا نجده يحظى بمكانة لدى السلطات الرسمية في البلاد.
للمسلمين بعض الكيانات الحزبية ذات الصبغة الإسلامية، والتي تأسست في المقام الأول لخدمة المسلمين ونشر الدين داخل المجتمع الفرنسي
هناك كذلك “اتحاد المنظمات الإسلامية” الذي يدير العديد من المدارس والجمعيات، ويقدّم خدمات اجتماعية وتعليمية للمسلمين، كما يسعى للنهوض بشأن الشباب وصغار السن وتربيتهم على أُسُس دينية، ورغم أن البعض يعتبر هذا الاتحاد امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين، لكنه يقدم خدماته لكافة الجالية المسلمة دون تفرقة أو تركيز على أي خطاب سياسي من أي نوع.
ومن أكثر الكيانات نشاطًا في الدولة الأوروبية “الفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا”، التي تأسست عام 1985 برعاية رابطة العالم الإسلامي، وتضمّ حاليًّا تحت لوائها أكثر من 150 جمعية فرعية، فضلًا عن جماعة الدعوة والتبليغ، وأُخرَيان تمثّلان الجالية التركية وتشرف على إحداهما السفارة التركية.
أما على المستوى السياسي، فرغم قيود الدستور بخصوص إقامة أي أحزاب على أسس مذهبية، إلا أن للمسلمين بعض الكيانات الحزبية ذات الصبغة الإسلامية، والتي تأسست في المقام الأول لخدمة المسلمين ونشر الدين داخل المجتمع الفرنسي، بجانب الارتقاء بمستوى الجالية دينيًّا وعلميًّا وثقافيًّا.
ومن أبرز تلك الأحزاب حزب فرنسيون ومسلمون وحزب المساواة والعدالة، حيث تأسّسا عام 2015 وكان لهما حضور قوي في انتخابات 2017، لتقديمهما عدد من المرشحين المسلمين من بينهم مرشحات محجبات، ويطالبان بإدراج تعديلات على قانون العلمانية وإفراد المسلمين بتمييزات خاصة في التشريعات، هذا بخلاف حزب اتحاد الديمقراطيين المسلمين الفرنسيين الذي أنشاه نجيب أزرقي عام 2012.
الاندماج.. نجاح ولكن!
الاستقرار القديم للأجيال الأولى في فرنسا ساعد الأجيال التالية على الاندماج، لا سيما الجيلَين الثالث والرابع ممّن تعاملوا مع الدولة الأوروبية على أنها وطنهم الأم، خاصة بعد حصولهم على الجنسية والإقامة، وباتوا مواطنين فرنسيين لهم كامل الحقوق وعليهم كافة الواجبات التي يتمتّع بها الفرنسيون الأصليون.
وحرص أبناء الجالية هناك على تعلم اللغة الفرنسية بما يذلِّل عقبات الاندماج، هذا بخلاف الانخراط داخل المدارس الفرنسية، وإن كان التعليم الإسلامي لأبناء المسلمين يشكّل أزمة في السابق، فإن الوضع مؤخّرًا حدث فيه بعض المرونة والحراك اللذين سهّلا الأمر.
قديمًا كانت توجد مدارس إسلامية وكتاتيب تابعة للمساجد غير معترف بها رسميًّا، ولا يمكن الحصول على شهادات موثقة منها تساعد على العمل في أي مكان، لكن في الآونة الأخيرة بدأت السلطات الفرنسية اعتماد بعض المدارس التي تدرّس المنهج الإسلامي، كافتتاح بعض المدارس الثانوية الإسلامية في كبرى المدن، بجانب معاهد للدراسات العليا كالمعهد الأوروبي للدراسات الإنسانية، الذي تأسس عام 1992 ويضمّ أقسامًا خاصة بالشريعة الإسلامية وأصول الدين.
وما يميز المسلمون في فرنسا أنهم مواطنون أكثر منهم جماعة دينية، وكان هذا إحدى المعضلات التي يستخدمها اليمين المتطرف في أوروبا بصفة عامة لاستهداف الجالية المسلمة، كونها جماعة تنظيمية أكثر منها نماذج متباينة من الأفراد والمواطنين غير المؤدلجين، حيث يتنوّع الحضور المسلم في كافة المدن الفرنسية، ما بين اليميني والوسط واليساري، الغني والفقير، مستويات تعليمية متباينة، كل هذا ساعد على الاندماج.
ولا يُفهم من ذلك التباين تراجع الالتزام بالدين، إذ إن الغالبية هناك تحرص على أداء الشعائر الدينية التي تظهر بصورة أكبر خلال المناسبات كشهر رمضان والأعياد، هذا بخلاف صور التكافل النسبي الذي توفّره الجمعيات الإسلامية والخيرية المنتشرة بين أبناء المسلمين هناك.
ورغم هذا الثراء الثقافي والاجتماعي الذي يؤكد أنه لا توجد هوية فرنسية إسلامية ذات أهداف وأجندات محددة، إلا أن بعض النخب الفرنسية لا تزال تنظر إلى الأقلية المسلمة على أنها تمثّل تهديدًا للأمة الفرنسية، وعليه يكون الاستهداف والتضييق اللذين لا يقتصران على تيارات اليمين المتطرف فقط، بل وصلا إلى رأس السلطة في البلاد، إلى الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه.
استهداف ممنهج
الأعوام الأربع الماضية تعرّض فيها المسلمون لموجات متلاطمة من الاستهداف الممنهج، عبر حزمة من القرارات والقوانين التي لا تحتاج إلى مجهود لإثبات أنها تستهدف تضييق الخناق على الأقلية المسلمية لصالح اليمين المتطرف، الذي يغازله الرئيس ماكرون لتعويض شعبيته المتراجعة بسبب فشله في إدارة الملفات الاقتصادية الداخلية.
القانون يعدّ امتدادًا لحزمة قوانين أخرى اتخذتها باريس لتقزيم ثقل الجالية المسلمية في البلاد
لعلّ أحدث تلك السياسات السلطوية تصويت البرلمان الفرنسي في يوليو/ تموز 2021 على مشروع القانون الذي يضيّق الخناق على المسلمين، من خلال تعزيز الرقابة على المساجد والجمعيات الخيرية والقيود المفروضة على التعليم الإسلامي وحريات اختيار الأطباء والمعلمين، بزعم استهداف “النزعة الانفصالية” في البلاد، وذلك رغم المعارضة القوية التي قوبل بها هذا القانون، إلا أن ماكرون أصرَّ عليه بصورة أثارت الكثير من الشكوك.
يعدّ القانون امتدادًا لحزمة قوانين أخرى اتخذتها باريس لتقزيم ثقل الجالية المسلمية في البلاد، منها قانون حظر الطقوس الدينية في المدارس عام 2004، ونظيره الخاص بحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة عام 2010، هذا بخلاف قرارات أخرى استفزت المسلمين بشكل كبير خلال الأعوام الماضية.
في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 أدلى ماركون بتصريحات وُصفت بـ”المشمئزة”، قال فيها إن “الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم، وعلى فرنسا التصدي للانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام موازٍ وإنكار الجمهورية الفرنسية”.
وجاءت تلك التصريحات في ضوء الكشف عن خطة الرئيس لتشديد الحرب ضد ما أسماه “الانفصال الإسلامي في الأحياء”، والتي حددها في 5 محاور أسياسية، أبرزها تحرير المدارس والمساجد من التأثيرات الأجنبية، وتخلي البلاد عن الدعاة القادمين من الخارج الذين يتقاضون رواتب من المنح والمعونات التي ترسلها الدول الإسلامية للجاليات، وعلى رأسها تركيا والجزائر.
ثم جاء تدشين ما عُرف بـ”منتدى الإسلام في فرنسا”، هذا الكيان البديل لـ”المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية” الذي تأسس عام 2003 بهدف تمثيل الجاليات الإسلامية، وأن يكون المتحدث الرسمي باسم المسلمين أمام السلطات الفرنسية، ليكشف عن الوجه الحقيقي لماكرون في محاولة تدجين الإسلام على الطراز الفرنسي.
العنصرية ضد المسلمين
المقدمات السوداء لا يمكنها حتمًا تقديم نتائج بيضاء، هكذا يقول علماء المنطق، وعليه كنتاج منطقي لخطاب الكراهية المتصاعد منذ عام 2015، قفزت معدلات الجرائم العنصرية التي استهدفت المسلمين بصورة كبيرة، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال الأرقام والتقارير الواردة في هذا الشأن.
ففي بيان صادر عن “المرصد الوطني ضد معاداة الإسلام” في فرنسا، في يناير/ كانون الثاني 2021، أشار إلى وقوع 235 اعتداءً على المسلمين عام 2020، مقابل 154 عام 2019، بما يمثل زيادة بنسبة 53%، هذا بخلاف زيادة الاعتداءات على المساجد بنسبة 35%، مقارنة بما حدث عام 2019.
ووفق تقديرات أخرى خاصة بـ”الشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية” (ENAR)، فإن الأعداد في تزايد مستمر، وعلى أوروبا أن تكون قلقة من الخطاب الذي تتبنّاه الحكومة الفرنسية والمتأثر باليمين المتطرف بشكل كبير، وهو ما يمكن أن يعزز الانقسام داخل المجتمع ويهدد استقراره وتماسكه.
وفي تقريره الصادر العام الحالي، كشف “التجمع ضدّ الإسلاموفوبيا” في فرنسا ارتفاع الاعتداءت ضد المسلمين خلال فترة 2017-2019 بنسبة 77%، راصدًا نحو 789 فعلًا يندرج تحت مظلّة كراهية المسلمين خلال عام 2019.
واللافت للنظر أن 59% من تلك الأفعال المصنَّفة كجرائم عنصرية صادرة عن مؤسسات حكومية، وهو الأمر الذي أثار قلق المسلمين ودفع كثيرًا منهم إلى الرحيل… ولو كان رحيلًا خفيًّا.
رحيل في الخفاء
في 13 فبراير/ شباط 2022 نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرًا بعنوان “رحيل في الخفاء لمسلمي فرنسا”، تناول عشرات الحالات من المسلمين الذين غادروا فرنسا سرًّا هربًا من الانتهاكات التي يتعرضون لها على أيدي اليمينيين، في ضوء خطاب الكراهية المتصاعد في الآونة الأخيرة.
كشف التقرير النقاب عن تدشين المسلمين الفرنسيين الفارّين إلى بريطانيا منذ عام 2016 مجموعة على موقع فيسبوك وصل تعدادها اليوم 2500 فرد، معظمهم من الشباب، غادروا بلدهم الذي يحملون جنسيته قهرًا من التنكيل الذي يتعرضون له بسب دينهم وسمتهم الإسلامي.
يتناغم ما جاء به هذا التقرير مع عشرات الشهادات الحية التي قدمها فرنسيون وأوروبيون عن حالات الهروب الجماعي من فرنسا إلى بعض بلدان أوروبا، بحثًا عن حياة أفضل ومجتمع لا يقهرهم بسبب لحاهم أو حجابهم، ولا يغلق باب الوظائف أمامهم لا لسبب إلا لأنهم مسلمون وفقط.
وهكذا تحولت فرنسا من بلد طالما يعزف على وتر تقديم نفسه في صورة الأمة الحضارية التعددية التي تحتوي الجميع، إلى منطقة طاردة لأبنائها وتدفعهم دفعًا وبقوة إلى الهجرة، وهي الظاهرة التي حذّر منها كثير من المفكرين والمحللين الفرنسيين، ممن وصفوا ما يحدث بأن فرنسا تحرق نفسها بنفسها بتلك السياسة التي يجب أن تتوقف فورًا.
تحديات وعقبات
يواجه المسلمون في فرنسا العديد من التحديات، يأتي على رأسها خطاب الكراهية المتصاعد الذي أدّى إلى تنامي ظاهرة الجرائم العنصرية والاستهداف على أساس ديني، كما تشير التقارير الصادرة عن “المرصد الوطني ضد معاداة الإسلام” في فرنسا، و”الشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية” (ENAR)، وغيرهما من المؤشرات الأمنية والحقوقية التي تكشف تداعيات هذا الخطاب الشعبوي، وتقف حائلًا أمام مساعي الاندماج المجتمعي.
ويأتي هذا إلى جانب غياب وحدة المسلمين وعدم وجود قيادة موحدة لهم، وهو ما يشتّت من جهودهم رغم التفسيرات الإيجابية لهذا التحدي، الذي ربما يقرأه البعض على أنه مؤشر قوي على نجاح مساعي الاندماج.
هذا بخلاف الزجّ بهم كورقة سياسية في الانتخابات والنزاعات بين ألوان الطيف السياسي في البلاد، بين اليمين واليمين المتطرف، وهو ما أشار إليه الأمين العام لـ”رابطة الرؤية الوطنية للجالية المسلمة” بفرنسا، بكير ألطاش، حين قال في تصريحاته لـ”الأناضول“: “إن المناخ الراهن حول المسلمين في فرنسا أصبح مثيرًا للقلق وينذر بالخطر”، معربًا عن أمله ألا يتمّ استغلال المسلمين كأداة في الصراع السياسي بين المتنافسين في الماراثونات الانتخابية.
يبقى مستقبل الأقلية المسلمة في فرنسا تحديدًا رهن التكهُّنات وغياب الرؤية الشاملة، ورغم هزيمة ماريان لوبان في الانتخابات الأخيرة، إلا أن فوز إيمانويل ماكرون ليس بالأمل الممنوح للجالية
وحذّر ألطاش من التعامل مع الأقلية المسلمة كأداة ضغط دعائية، سواء من خلال المغازلة المؤقتة لكسب الكتلة التصويتية لهم من جانب، أو المزايدة عليهم لإرضاء اليمين المتطرف بهدف الحصول على دعمه في الماراثون الانتخابي من جانب آخر، وهو ما ظهر بشكل واضح في الانتخابات التي جرت قبل أيام.
وبينما لا تتدخل الدولة في الشؤون الداخلية للجماعات الدينية الأخرى، بحكم الدستور ووفق مبدأ العلمانية الذي تنتهجه باريس، إذ بها تتدخل بشكل واضح في الشأن الإسلامي، حيث تختار لهم أئمتهم وتتدخل في تحديد هويتهم والموضوعات التي يدرّسونها والمنهج الدعوي المقدم، ما يمثّل خرقًا للدستور الرسمي للبلاد على حدّ قول الأمين العام لـ”رابطة الرؤية الوطنية للجالية المسلمة”.
فيما ذهب رئيس “اتحاد المنظمات الإسلامية” في فرنسا، عمر لصفر، إلى أن وجود المسلمين في فرنسا مرَّ بعدة مراحل رئيسية خلال الـ 40 عامًا الماضية، جميعها أكّد على الارتياح المجتمعي للوجود الإسلامي بصفة عامة، لكن هناك أقلية ضئيلة تريد للإسلام دومًا أن يكون مصدر قلق وتهديد، في إشارة إلى اليمين المتطرف وبعض الأصوليين الإسلاميين، حسبما أوضح خلال مشاركته في حلقة 3 مايو/ أيار 2017 من برنامج “بلا حدود” على قناة “الجزيرة”، الذي استضاف 4 من قادة العمل الإسلامي في أوروبا، حول التحديات التي تواجه مسلمي أوروبا وتأثيرهم في المجتمعات الأوروبية.
وألمح إلى أن الإسلاموفوبيا كظاهرة منتشرة أكثر بين الساسة مقارنة بالمواطنين، مستعرضًا 3 تحديات أساسية أمام المسلمين، أبرزها الحفاظ على الهوية الإسلامية في ظل الاستهداف والتشكيك الممنهج من الشعبويين، كذلك أن ينتقل المسلم داخل المجتمعات الأوروبية عمومًا من طور الهجرة إلى طور المواطنة، وأخيرًا وصول المسلمين إلى أسباب القوة ونشر الخير بين أطياف المجتمع الفرنسي.
وفي الأخير يبقى مستقبل الأقلية المسلمة في فرنسا تحديدًا رهن التكهنات وغياب الرؤية الشاملة، ورغم هزيمة ماريان لوبان في الانتخابات الأخيرة، إلا أن فوز إيمانويل ماكرون ليس بالأمل الممنوح للجالية، إذ إن التجارب التي شهدتها العلاقة بين المسلمين وبينه في ولايته الأولى تزيد من حالة التأهُّب والقلق لما هو قادم.