كانت الحملة الفرنسية على مصر والشام المظهر العملي لحجم التفوق الغربي على المسلمين، ونرى صدمة المسلمين في كلمة الجبرتي الذي اعتبر أن ما حدث هو “اختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع”[1]، وصحيحٌ أن الحملة الفرنسيةلم تكمل ثلاث سنوات حتى رجعت خائبة؛ لكن الصحيح أيضا أن ذلك كان بتحالف عثماني إنجليزي روسي.
كانت الدولة العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر قد أعلنت عمليا أنها ضعفت، وقد شهد عام 1775م واقعة هي الأولى من نوعها إذ دفعت الدولة جزية وتعويضا حربيا للروس، وبدأت حركة الأخذ عن أوروبا وتقليدها في النظم والتعليم والإداريات مع بداية القرن التاسع عشر في عهد السلطان محمود الثاني، ومن هنا بدأت طلائع الهيمنة الغربية الناعمة. وفي ذات هذا الوقت كان محمد علي باشا في مصر يؤسس لنفسه مملكة ضخمة يستعين فيها بالغربيين استعانة كاملة، وكان من القوة وعلو الهمة والإصرار حدَّ أن صار أقوى من الدولة العثمانية ذاتها، فاحتاج حلفا غربيا لتحطيمه وتحجيمه عسكريا، فيما ظل إرثه التغريبي في مصر -اقتصاديا وإداريا وتعليميا- قائما، ولئن حافظ محمد علي على استقلاله فلقد كان خلفاؤه من الضعف والإسراف والانبهار بالغرب حدًّا وصل إلى تسليم البلاد عمليا للأجانب قبل أن يكتمل ذلك بالاحتلال الإنجليزي لمصر (1882م).
وإلى ذلك الوقت كان الفارق قد اتسع بين المسلمين والغرب في كل شيء، وأصبح الاستعمار سياسة ثابتة للغربيين، حتى لقد احتاجوا إلى مؤتمرات لتقسيم مناطق النفوذ فيما بينهم، فاحتلوا كل إفريقيا ومعظم آسيا إما عسكريا وإما بالهيمنة الاقتصادية أو السياسية، وحافظوا على بقاء الدولة العثمانية في حال “الرجل المريض” لكي لا يثير تقسيم أملاكه حروبا فيما بينهم، حتى جاءت اللحظة الحاسمة في الحرب العالمية الأولى التي انتهت بهزيمة الدولة العثمانية وحليفتها ألمانيا، وقُسِّمت أملاك الرجل المريض بين المحتلين، ودخلت الجيوش البريطانية والفرنسية في الشام، وجرى التقسيم المشهور لهذه المناطق طبقا لاتفاقية سايكس بيكو.
كانت الكارثة الكبرى التي تقع لأول مرة هي إلغاء الخلافة الإسلامية (1924م) ودخول تركيا في العلمانية بالحديد والنار الذي استعمله أتاتورك؛ إذ شنَّ هذا الرجل حملة ولا أشرس ولا أقسى على الإسلام والمسلمين في تركيا، مدعوما -في الحقيقة، وبعض الظاهر- بكل القوى التي تناصب الإسلام -وحاملي رايته العثمانيين- العداء، وصار المسلمون للمرة الأولى في تاريخهم بلا خلافة ولا دولة قوية.
وكان الانسياح الغربي في بلاد المسلمين نتيجة طبيعية لكل هذا، ورسَّخ الاحتلال الغربي وجوده في بلاد المسلمين، وبرغم ما أبداه المسلمون من بسالة وما أشعلوه من حركات جهاد ومقاومة واسعة إلا أن فارق القوى كان عصيا على الردم، وبقي الاحتلال في بلادنا حتى منتصف القرن العشرين بشكله المباشر.
ومع تصاعد المقاومة والجهاد وتغير موازين القوى العالمية، رحل الاحتلال بشكله التقليدي ولكن بعد أن ترك في مواقع السلطة رجاله الذين رباهم على عينه وصنعهم بيده، وترك مؤسسات ونظما وأنماطًا راسخة عمل رجاله على بقائها وتنميتها واستمرارها والحرب على من يرفضها، وقد قام رجال الغرب بما لم يستطع الغرب ذاته أن يقوم به من تسخير للبلاد والعباد لمصلحة الغرب حتى كانوا أشد على أهلهم من المحتل نفسه. واستثني من هذه السياسة الغربية إسرائيل، الدولة اليهودية التي أنشأها الغرب في الشرق لتكون معسكرا حربيا متقدما لهم وممثلا لمصالحهم وشوكة في الجسد الإسلامي، فهذا هو ما بقي من إرث الاستعمار الفعلي في بلاد المسلمين، مع مناطق متفرقة ومحدودة من بلاد أخرى. وصار شكل الاحتلال الواقع هو الهيمنة السياسية الاقتصادية والنفوذ الكامل في البلاد الإسلامية.
لكن لم تمض ثلاثة عقود أو أربعة عقود حتى عاد الاحتلال بوجهه مرة أخرى فسقطت كابول وبغداد، ونزلت الجيوش الأمريكية في البلاد الإسلامية، لكن هذا لم يكن الوضع الأخطر وإن كان الأوضح والأظهر.
الوضع الأخطر هو هذه السيطرة الكاملة التي هي احتلال حقيقي ولكنه خفي، فيكاد يكون كل شيء خاضعا للغرب أو يوشك على الخضوع بما في ذلك مناهج التعليم ووسائل الإعلام بل حتى قوانين الأحوال الشخصية، وقد نظم الغرب نفسه بحيث أسس لمؤسسات كبرى تنظم أدق الأعمال وتحكم عليها؛ مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة الثقافة العالمية ومنظمة الصحة العالمية ومؤسسات حقوق الإنسان وهيئات مقياس الجودة “الأيزو”، فضلا عن اتفاقيات سياسية واقتصادية تتحكم في أسعار النفط والغاز وفي حرية انتقال البضائع وفي نسبة الاستيراد والتصنيع، وتصدر كل هذه المنظمات والهيئات تقارير دورية تنبني عليها آثار بعيدة، إذ يكاد يكون مآل عملها هو تصنيف الدول إلى دول مطيعة وخاضعة ودول تحتاج إلى ضبط.
وأخطر ما أسفرت عنه هذه القرون من الاحتلال والهيمنة لم يكن مجرد الإخضاع العسكري الـمُذِلّ، بل محاولة تغيير الهوية وإلحاق المسلمين بالغرب ليكونوا ذيولا له في كل شيء، حتى في معتقداتهم وأفكارهم.
والحق أن الاحتلال الغربي لم يكن تقليديا هذه المرة، بل تسلح بجيش من الباحثين والمستشرقين الذين نزلوا قبيل الجيوش ومعها وبقوا بعدها يفحصون عالمنا ويدرسونه وينتجون فيه الأبحاث والدراسات، حتى صارت لهم مادة ضخمة قوية استعان بها الاحتلال في كل مراحله: التهيئة للغزو، ترسيخ الغزو، إكمال رسالة الغزو بعد خروجه. وصحيح أن بلادنا عملت بسنة المغلوب المولع بتقليد الغالب فكان فيها من يستدعي المحتل ومن يؤيده إذا حلَّ ومن يظل على عهده إذا رحل، إلا أن هذه السنة دعمتها الجيوش والأموال والإمكانيات الوافرة والمؤسسات والنظم التي تقسم الناس بين مؤيد للغرب فيرقى، ومعارض له ولثقافته فيبقى على حاله.
لقد انقلب الحال بين الهجمتين الغربيتين؛ فالهجمة الأولى التي هي الحملات الصليبية وإن هزمت المسلمين عسكريا إلا أنها هُزِمت أمامهم حضاريا، ولم تَسْرِ في الأمة لوثة غربية، بل سرت في الغربيين لوثة شرقية. بينما في هذه الهجمة الأخيرة هُزِمت الأمة عسكريا وحضاريا، وهذا أمر مشهود مُعترف به بغض النظر عمن استلذ هذه الهزيمة ورضي بالغرب بديلا أو اعترف بهذا ليجد سبيلا لهضمه واستيعابه ودفعه.
بدا الفارق واضحا بين العصور في كل المجالات، فمن ذلك -مثلا- أنه:
1. بينما كان ابن تيمية يصف واقع عصره بقوله: “ليس عند أهل الكتاب فضيلة علمية وعملية إلا وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل منهم فيها. فأما العلوم: فهم أحذق -في جميع العلوم- من جميع الأمم حتى العلوم التي ليست بنبوية، ولا أخروية، كعلم الطب -مثلا- والحساب، ونحو ذلك، هم أحذق فيها من الأمتين، ومصنفاتهم فيها أكمل من مصنفات الأمتين، بل أحسن علما وبيانا لها من الأولين الذين كانت هي غاية علمهم”[2]، كان الطهطاوي بعده بأربعة قرون يقول بعد تعداده لأنواع العلوم: “فإذا نظرت بعين الحقيقة رأيت سائر هذه العلوم المعروفة معرفة تامة لهؤلاء الإفرنج ناقصة أو مجهولة بالكلية عندنا”[3].
2. وبعد ثمانية قرون من قول ابن حزم: “إن أحدًا من أئمة المسلمين المستحقِّين لاسم الإمامة بالعلم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يُحفَظ لأحدٍ منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسُّنة قد جاءت بتكويرها”[4]، كان بين علماء المسلمين نزاع حول الأرض، هل هي كروية أم منبسطة، فقائل بهذا وقائل بذاك وبينهما نزاعات[5].
3. ومثلما امتدح حتى من يكره منهم المسلمين رزانتهم وعاداتهم في الطعام والشراب واعترف -رغم كراهته للمسلمين- بتفوقهم الواضح على المسيحيين[6]، امتدح رجال منا بعد سبعة قرون آداب الطعام لدى الفرنسيين وتفوقهم فيها على المسلمين وإن كرهوا ذلك أيضا[7].
4. ومثلما تعجب الغربيون من نشاط المسلمين حتى قال هبمولد: “والعرب كانوا ذوي نشاط منقطع النظير، وهذا النشاط هو آية دور ممتاز في تاريخ الدنيا”[8]، وحتى قال ألفريد جيوم: “في خلال القرون الأربعة لسيادة الإسلام وجدت روح البحث الديني والفلسفي في كل مراكز العلم، وإن لون الطابع الذي تميز به العقل الشرقي وسحره ما زال باقيا متسكعا في كتابات ذلك العصر، الذي كان كل تاجر فيه شاعرا، وليس كل شاعر تاجرا”[9]، وقد وصفت زيجريد هونكه شعب الأندلس بأنه شعب من الشعراء[10]، انقلب الحال وصرنا نمدح نشاطهم وفنونهم حتى قال أحمد زكي عن الإيطاليين: “ولا بِدع إذا قلت في هذا المقام إن كل طلياني لا بد أن يُخلق نابغا بالطبع في الرسم والتصوير والنقش والنحت والتعمير، أو التحبير والتحرير، أو الموسيقى والأغاني ونظم القريض والمعاني”[11].
وصار كل صاحب رحلة إلى بلاد الغرب يصف حاله بنحو هذه العبارات: “ويعلم الله أني مع كثرة ما شاهدت في تلك البلاد من الغرائب وأدركت فيها من الرغائب كنت أبدا مُنَغَّص العيش مُكَدَّره، كمن فقد وَطَرَه ولزمته معسرة، لا يروقني نضار ولا نضرة، ولا نعمة ولا مسرة، ولا طرب ولا لهو، ولا حسن ولا زهو، لما أني كنت دائم التفكر في خلو بلادنا بما عندهم من التمدن، والبراعة والتفنن، ثم تعرض لي عوارض من السلوان، بأن أهل بلادنا قد اختُصُّوا بأخلاق حسان، وكرم يغطي العيوب ويستر من شان، ولا سيما الغيرة على الحُرَم، وصون العرض عما من هذا الصوب يُذَمّ، ثم أعود إلى التفكر في المصالح المدنية، والأسباب المعاشية، وانتشار المعارف العمومية، وإلى إتقان الصنائع، وتعميم الفوائد والمنافع، فيجفل ذلك السلوان، وأعود إلى الأشجان”[12].
ولا يعني هذا اختفاء العلوم عند المسلمين في ذلك الوقت، بل كان منهم حُذَّاق مهرة، غير أنهم افتقدوا النظام الذي يستفيد من هذه العلوم ويُخرجه “من القوة إلى الفعل” بحسب تعبير الجبرتي الذي تحدث عن علماء وقته وقدوم الغربيين ليتعلموا على أيديهم علوم الهندسة والكيمياء وغيرهما[13]، وكذلك نجد لدى رفاعة الطهطاوي علما دقيقا بالجغرافيا ومواقع البلدان والأقاليم وما كان يسمى أيامهم علم الهيئة، الذي يبحث في الأرض ودورانها وتغير الفصول عليها وتقسيمها بخطوط الطول والعرض والفوارق في التوقيتات بين البلاد[14].
لكن يجب ألا نختم هذا المبحث دون أن نؤكد على أن مظاهر التغرب التي عمت العالم الإسلامي لم تكن إلا بأثر الضغط العنيف لأنظمة الحكم الموالية للغرب، بينما ظل اعتناق الشعوب لمبادئ التغرب ومظاهره ينعم بالفشل الذريع، لا سيما إذا قارنَّا المجهود المبذول بالنتائج المتحققة، ولا تكاد ترى اعتناقا حقيقيا للتغريب إلا في طبقة ضئيلة، هي الطبقة المترفة المرتبطة بدوائر السلطة والمال، والتي هي جزء -ونتيجة أيضا- من أنظمة الحكم ذاتها. وهذه نقطة تفوق كاملة للمسلمين؛ إذ منذ أن بسط سيادته على الشعوب دخلوا فيه أفواجا ومن دون إكراه، بينما لم تفلح كافة أنواع الغزو الفكري بالخداع والغزو العسكري بالقهر في أن تؤثر تأثيرا كبيرا على خريطة اعتناق الأديان. وفي نهاية هذا القرن العشرين -أي بعد قرنين من المجهود التغريبي الرهيب- أقر صمويل هنتنجتون بأن حلم تغريب المسلمين مستحيل وبأنهم لن يتغربوا[15].
وفي كل الأحوال فإن تغير الزمان وانقلاب الأحوال من سنن الله في كونه، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
ونحن بعد هذا على وعد بأن يسود الإسلام وينتصر، وأن يبلغ المشرق والمغرب، وألا يترك نوره بيت مدر ولا وبر ولا حجر إلا دخله، وأن {الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الجبرتي: عجائب الآثار 2/179.
[2] ابن تيمية: الجواب الصحيح 6/23.
[3] الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن “الأعمال الكاملة” 2/32.
[4] ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/78. وينبغي التنبه إلى أننا نقلنا القول الذي يصرح “باتفاق العلماء” على هذا، بينما اكتشاف المسلمين لكروية الأرض يسبق ابن حزم بنحو قرنين، فأول من قال بكروية الأرض هو الفيلسوف أبو يوسف الكندي (ت: نحو 260هـ) في رسالته “العالم وكل ما فيه كري الشكل”، ثم الجغرافي المؤرخ ابن خرداذبه (ت 272هـ) في “المسالك والممالك” ثم ابن رسته (ت 292 هـ) في “الأعلاق النفيسة”، ثم أبو عبيدة الفلكي الأندلسي (ت 295 هـ).
[5] الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن “الأعمال الكاملة” 2/65، 66.
[6] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص467.
[7] الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن “الأعمال الكاملة” 2/66، 67، 138.
[8] لويس سيديو: تاريخ العرب العام ص332.
[9] ألفريد جيوم: الفلسفة وعلم الكلام، ضمن “تراث الإسلام” بإشراف توماس أرنولد، ص400.
[10] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب ص503.
[11] أحمد زكي: السفر إلى المؤتمر ص49.
[12] أحمد فارس الشدياق: الواسطة إلى معرفة مالطة وكشف المخبا عن فنون أوربا ص2، 3. (ط تونس القديمة) وانظر مثل ذلك عند: الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن “الأعمال الكاملة” 2/17، خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص6.
[13] الجبرتي: عجائب الآثار 1/461.
[14] الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن “الأعمال الكاملة” 2/35 وما بعدها، 78 وما بعدها.
[15] هنتنجتون: صدام الحضارات ص166، 168.