تحذير: يحتوي هذا التقرير على صور قد يجدها القراء مزعجة
في صباح يوم ربيعي قبل ثلاث سنوات؛ تسلم مجند جديد في ميليشيا سورية موالية جهاز كمبيوتر محمول تابع لأحد الأجنحة الأمنية لبشار الأسد، ففتح الشاشة ونقر بفضول على ملف فيديو، وهي خطوة شجاعة بالنظر إلى العواقب التي كان ليتعرّض لها لو تم ضبطه وهو يتطفل.
لم تكن اللقطات ثابتة في البداية، إلى أن اقتربت الكاميرا من حفرة محفورة حديثًا في الأرض بين مبنيين مليئين بثقوب الرصاص؛ حيث رأى المجند ضابط مخابرات كان يعرفه راكعًا بالقرب من حافة الحفرة مرتديًا زيًّا عسكريًّا وقبعة صيد، وهو يلوح ببندقية هجومية ويصيح مصدرًا الأوامر.
تجمد رجل الميليشيا المبتدئ في حالة من الرعب أمام هذا المشهد: حيث تم اقتياد رجل معصوب العينين من مرفقه وطلب منه الركض نحو الحفرة العملاقة التي لم يكن يعلم أنها تقع أمامه، كما أنه لم يتوقع دوي الرصاص على جسده المفلطح بينما كان يسقط على كومة من القتلى تحته؛ وواحدًا تلو الآخر، تبعه المزيد من المعتقلين المطمئنين، إذ قيل للبعض إنهم كانوا يركضون هربًا من قناص قريب، بينما تعرض البعض الآخر للسخرية والإيذاء في اللحظات الأخيرة من حياتهم، وكان العديد منهم يعتقدون أن القتلة يقودونهم بطريقة ما إلى بر الأمان.
وفي النهاية، أسفرت عملية القتل عن وفاة 41 رجلا في مقبرة جماعية في ضاحية حي التضامن بدمشق، وهي جبهة قتال تواجدت خلال الصراع القائم بين الرئيس السوري والمتمردين الذين اصطفوا ضده، وإلى جانب أكوام التراب المكدسة لإنهاء المهمة، سكب القتلة الوقود على الرفات وأشعلوه، ضاحكين وهم يخفون آثار جريمة حرب على بعد عدة أميال فقط من مقر السلطة في سوريا، فقد كان ختم تاريخ الفيديو بتاريخ 16 نيسان/أبريل 2013.
في تلك اللحظة، غمر شعور بالغثيان المجند، الذي قرر على الفور أنه يجب نشر اللقطات في مكان آخر؛ حيث قاده هذا القرار، بعد ثلاث سنوات، في رحلة محفوفة بالمخاطر من واحدة من أحلك اللحظات في تاريخ سوريا إلى الحديث إلى الشعور بالأمان النسبي في أوروبا، وقد مكّنه ذلك أيضًا من مقابلة اثنين من الأكاديميين الذين أمضوا سنوات في محاولة نقله، كمصدر الرئيسي في تحقيق استثنائي، إلى بر الأمان ومحاولة تحديد هوية الرجل الذي قاد المذبحة وإقناعه بالاعتراف بدوره.
جريمة حرب خفية: مقطع فيديو يسلط الضوء على أهوال الحرب في سوريا – يتضمن مشاهد قد تكون مؤلمة
إنها قصة جريمة حرب موثّقة في الوقت الفعلي، من قبل أحد أشهر هيئات الإنفاذ في النظام السوري، الفرع 227 من جهاز المخابرات العسكرية في البلاد، والتي توضح أيضا الجهود المضنية لقلب الموازين على مرتكبيها، بما في ذلك كيف خدع باحثون في أمستردام أحد أكثر ضباط الأمن شهرة في سوريا وإغرائه لإفشاء الأسرار الفظيعة لحرب الأسد.
لقد كشف عملهم الستار بشكل غير مسبوق عن الجرائم التي كان يُعتقد سابقًا أن النظام ارتكبها على نطاق واسع في ذروة الحرب السورية، لكنه كان دائمًا ما ينكر أو يُلقى باللوم على الجماعات المتمردة والجهاديين.
وبعد تسع سنوات، ومع احتدام الحرب في أوكرانيا، استعملت القوات الروسية كتاب قواعد ترهيب الدولة للسكان المدنيين المعتمد في سوريا؛ حيث تحولت العملية العسكرية الخاصة المزعومة لفلاديمير بوتين إلى احتلال وحشي لأجزاء من شرق البلاد، وكانت وحدات المخابرات العسكرية هناك في طليعة الأعمال الوحشية؛ حيث بثت الخوف في المجتمعات من خلال الاعتقالات الجماعية والقتل من النوع الذي اتسمت به محاولات الأسد الوحشية لاستعادة السلطة.
وتلقت الأجهزة الأمنية السورية تدريبًا على يد الضباط السوفييت والشتاسي في الستينيات، وتعلمت فن التخويف بشكل جيد؛ فقد كان الخوف هو الوسيلة الأكثر فتكًا للنظام للتشبث بالسلطة، وقد استخدم كل الوسائل المتاحة لغرسه بين الناس. في هذه الحالة؛ لم يكن الضحايا من المتمردين بل من المدنيين غير المنحازين لأي من الجانبين والذين قبلوا حماية الأسد؛ حيث شوهدت عملية قتلهم على نطاق واسع في حي التضامن لنشر رسالة إلى الضاحية بأكملها مفادها: “لا تفكروا في معارضتنا”.
وعند تسريب الفيديو أولًا لناشط معارض في فرنسا، ثم للباحثين، ثم أنصار شاهود والبروفيسور أوغور أوميت أنجور، من مركز الهولوكوست والإبادة الجماعية بجامعة أمستردام، توجّب على المصدر أن يتغلب على شعور الخوف من القبض عليه وربما قتله، والقلق الناجم عن احتمال طرده من قبل عائلته، وهم أعضاء بارزون في الطائفة العلوية التابعة للأسد، التي تمتلك السلطة الرئيسية في ما تبقى من سوريا.
سيفهم المصدر في النهاية أنه حتى مع عمل مئات الأشخاص حول العالم لتقديم الأسد إلى العدالة بسبب جرائم الحرب، فإن الفيديو سيمثّل جزءًا بارزًا من الأدلة في القضية المرفوعة ضد الرئيس السوري. لكن أولًا، احتاج أنصار وأوغور إلى العثور على الرجل الذي يرتدي قبعة الصيد، فلجأوا إلى الشيء الوحيد الذي اعتقدوا أنه يمكن أن يساعد: الأنا الأخرى.
“آنا ش”
كانت أنصار من أشد منتقدي الأسد منذ اندلاع الحرب السورية، وكانت عائلتها أحد أعضاء مجتمع محافظ إلى حد كبير وتجمعها علاقات جيدة مع الأسد، لكن الصراع والانهيار الاقتصادي الذي تلاه أدى إلى توتر التحالفات، ووجدت أنصار نفسها مصممة بشكل متزايد على محاسبة الأسد، بغض النظر عن الثمن الشخصي.
انتقلت أنصار إلى بيروت في عام 2013 ثم إلى أمستردام بعد ذلك بعامين؛ حيث التقت بأوغور في عام 2016، وقد شارك كلاهما في محاولة تأريخ ما يعتقد أنه إبادة جماعية تُرتكب في سوريا؛ حيث كان تجميع قصص الناجين وعائلاتهم إحدى طرق تحقيق ذلك، إلى جانب التحدث إلى الجناة أنفسهم. ومع ذلك؛ كان كشف مدونة أوميرتا الخاصة بالنظام مهمة يُعتقد أنها شبه مستحيلة، لكن أنصار كانت لديها خطة؛ حيث قررت أن تلجأ إلى الإنترنت، وتجد طريقها إلى الحرم الداخلي لمسؤولي أمن النظام من خلال التظاهر بأنها معجبة وأنها تعتنق قضيتهم بالكامل.
وقال أوغور، في غرفة الرسم الخشبية المظلمة الكبرى بمركز الهولوكوست والإبادة الجماعية: “تمثّلت المشكلة في صعوبة دراسة نظام الأسد، إذ لا يمكنك الدخول بسهولة إلى دمشق وقول: “مرحبا، أنا عالم اجتماع من أمستردام وأود أن أطرح بعض الأسئلة” فلقد توصلنا إلى استنتاج مفاده أننا في الواقع بحاجة إلى الاستعانة بشخصية ويجب أن تكون تلك الشخصية شابة علوية”.
وأثبتت أنصار أن جواسيس سوريا وضباط الجيش يميلون إلى استخدام منصة فيس بوك، وعلى الرغم من سرية حياتهم العملية، إلا أنهم كانوا يميلون إلى ترك حساباتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي مفتوحة للعموم؛ حيث قررت أنصار اختيار اسم مستعار، “آنا ش”، وطلبت من صديق مصور لها التقاط بعض الصور وتقديم لمحة جذابة عن وجهها، ثم حولت صفحتها الرئيسية إلى صفحة داعمة للأسد وعائلته وشرعت في محاولة تجنيد الأصدقاء.
على مدار العامين التاليين، كانت أنصار تبحث في فيسبوك ليلا نهارا عن مشتبه بهم محتملين، وعندما وجدت متلقّيا أخبرته بأنها باحثة تعد بحثًا عن النظام السوري لأطروحتها. وفي النهاية، تمكنت من تحقيق مسعاها وفهمت مزاج النظام في ذلك الوقت، وبدأت مع أوغور بإلقاء النكات وتجاذب أطراف الحديث للتقرب من ذلك الشخص. وسرعان ما أصبحت آنا ش معروفة بين الأجهزة الأمنية كشخصية متفهمة ومتعاطفة مع النظام.
حيال هذا الشأن، قالت: “لقد كانوا بحاجة إلى التحدث إلى شخص ما ومشاركة تجربتهم فشاركنا بعض القصص معهم واستمعنا إلى كل قصصهم ولم نركز فقط على جرائمهم”. تابع أوغور: “بعض هؤلاء الأشخاص تعلقوا بآنا وبعضهم بدأ بالاتصال بها في منتصف الليل”.
وعلى مدى العامين التاليين، عاشت أنصار وصقلت شخصيتها الجديدة. في بعض الأحيان، كانت تتراجع عما أصبحت عليه كشخصية دخلت في ذهن فريستها وبات بإمكانها فهمها على المستوى البشري الذي تجاوز الحدود السريرية لأبحاثها. لكن العودة إلى الواقع كانت عادةً مفاجِئة لها، لأن العديد ممن تحدثت إليهم كانوا أعضاءً فاعلين في آلة القتل، والبعض الآخر كانوا جزءًا من العصابة التي مكّنتهم.
شكّل وضعها الصحي عبئاً ثقيلاً على حياتها الاجتماعية وسلامتها العقلية فكانت النتيجة تستحق كل العناء، فإذا تمكنت من العثور على المسلح الذي يظهرفي الفيديو، يمكنها حينها السعي لتقديمه لأيدي العدالة وإحقاق الحق لعائلات من قتلهم. وربما يمكنها أن تبدأ ما تمكن منه قلة من الآخرين في الصراع الذي دام عقدًا من الزمان وهو القيام بإجراء يثبت ضلوع الدولة السورية بشكل لا يقبل الجدل ببعض أسوأ فظائع الحرب.
تمكنت آنا أخيرًا من تحقيق تقدم في شهر آذار/ مارس. وبحلول ذلك الوقت كان حساب آنا ش على فيسبوك قد كسب ثقة أكثر من 500 من المسؤولين الأكثر تفانيًا مع النظام. وبينما كانت تقلب صور أصدقائهم، برزت صورة لوجه ممتلئ مع ندبة ولحية، يطلق على نفسه اسم “أمجد يوسف”، وكان يشبه إلى حد كبير المسلح الذي يرتدي قبعة صيد الذي أرهقت نفسها في البحث عنه. بعد ذلك بوقت قصير، تلقت أنصار أو آنا ش – حتى الآن أصبح من الصعب التمييز بينهما – تأكيدًا من مصدر داخل حي التضامن يفيد بأن القاتل كان رائدًا في الفرع 227 التابع للمخابرات العسكرية السورية. قالت: “كان شعور الارتياح لا يوصف، كان هناك شخص يحمل في جعبته مفتاح كل شيء. والآن أنا بحاجة إلى جعله يتكلم”.
تتذكر أنصار جيدًا اللحظة التي أرسلت فيها طلب الصداقة له وشعور المتعة الذي رافقها عندما قبل غريمها الطلب. وأخيرًا تم نصب الشَّرَك له وهي الآن بحاجة إلى استدراجه. لم تكن المكالمة الأولى ناجحة، فقد ارتاب أمجد وأنهى المكالمة بسرعة ولكن أثار شيئ ما فضوله في تلك المحادثة فأصبح الصياد هو الفريسة. أكان ذلك شعور الحماس الذي يرافق التحدث إلى امرأة غريبة؟ أم الحاجة إلى سؤال من تجرأ على الاقتراب منه؟ أم شيء آخر؟ في كلتا الحالتين، عندما أجرى معها أمجد مكالمة فيديو بعد ثلاثة أشهر، ضغطت أنصار على زر التسجيل، وردت “آنا” على المكالمة.
بعد كل هذه السنوات، بدا أمجد متجهمًا في البداية، تمثلت في شخصيته صفة الجاسوس الذي يتحكم في جميع محادثاته وينشر بسهولة صمت مطبقًا كالسلاح. نطق بكلمات قليلة، وعندما قرر التحدث تمتم، مما أجبر مستمعه على بذل جهد كبير لسماعه. بذلت آنا ش كل ما في وسعها لإنتزاع كل ما عند أمجد ولكن بشروطه، إذ تبتسم بخجل تارةً، وتضحك وتذعن له تارةً أخرى وهو يمطرها بالأسئلة. بدأ وجهه المتجهم ترديجيًا بالاسترخاء، واستطاعت آنا كسب المعركة إلى طرفها.
سألته عن حي التضامن ثم طرحت عليه سؤالاً غير لهجة المحادثة بأكملها: “كيف كان شعورك بالجوع وقلة النوم والقتال والقتل والخوف على والديك وعلى شعبك؟ إنها مسؤولية كبيرة وقعت على عاتقك”.
جلس أمجد على كرسيه، وكأنه سلّم بأن شخصًا ما قد فهم العبء الذي يثقل كاهله أخيرًا. ومنذ ذلك الحين، أصبح وكأنه يجلس على كرسي الاستجواب، فلم يعد هو من يدير المحادثة واستطاعت آنا الحصول على إجابة لكل رد من ردوده وذلك بجعله أكثر ثقة بنفسه وملاطفته وإرضاء غروره تمامًا مثلما فعلت جينيفر ملفي مع توني سوبرانو، حيث أصبحت معالِجَتهُ وجليسة أفكاره وامرأة موثوقة تستطيع التعرف على ما يجول في عقله دون إطلاق الأحكام.
قالت أنصار: “لا أنكر أنني كنت متحمسة للتحدث معه لذلك كنت أبتسم لأنه من الرائع أنك تتحدث معه. لكن لمعرفة قصصهم، نحتاج إلى إقناعهم بأننا مجرد باحثين ليثقوا بنا. إنها ليست نتيجة مقابلة واحدة – إنها نتيجة أربع سنوات من العمل المتخفي. تعلمت أن أفصل نفسي تدريجياً، لقد ابتكرت هذه الفتاة التي تعجب حقًا بأفعالهم. إنه أمر شاق فعلاً فبعد أن تغلق الحاسوب المحمول، تدرك مدى صعوبة هذه المهمة الضرورية. أردت أن أرى أمجد كإنسان”.
طوال صيف العام الماضي، حاولت أنصار (بشخصية آنا) وأوغور الجلوس أمام الشاشة وإقناع أمجد بالتحدث. كان الولوج إلى رأس القاتل أمرًا، وجمع معلومات حقيقية حول سبب قيامه بذلك وانتزاع الاعترافات منه أمرًا آخر كليًا. كانا يبحثان في ملفه الشخصي على فيسبوك عن أدلة وقد عثرا على صورة لأخيه الأصغر، وقصائد كتبها أمجد بعد وفاته في أوائل عام 2013، قبل ثلاثة أشهر من مجزرة حي التضامن. استمرت آنا في إرهاقه لإجراء مكالمة أخرى، لكنه استطاع التملّص. وفي وقت متأخر من إحدى ليالي شهر حزيران/ يونيو ظهر إشعار على برنامج “مسينجر” لقد كان أمجد، كانت هذه الفرصة للتشبث به.
لقد قتلت الكثيرين
في تلك الأثناء، بدأت أنصار تشعر أن شخصيتها الثانية قد بلغت حدها، وأن آنا ش تحتاج للراحة مثلها. تواصلت هذه الشخصية مع أكثر من 200 مسؤول في النظام بعضهم وجّه الجناة في جرائم القتل، والبعض الآخر كان جزءًا من الدائرة التي ساعدت وأيدت محاولات الأسد الغاشمة للتشبث بالسلطة. وقد بدأوا بالتحدث فيما بينهم عن المرأة الغامضة في رسائل بريدهم.
خلال السنة الماضية، بعد أن تحدثت أنصار مع امرأة اتهمت أمجد بالاعتداء عليها، شعرت بأنها سئمت. فكل هذا التعاطف مع الجناة بدأ يتسلل إلى روحها. لذا أصبحت أيضًا تعيش داخل الشخصية. وقالت “أنصار تستحق أيضًا أن تعيش”. “ثم كان السؤال، أين أنصار؟ من تكون أنصار الآن؟ فُقدت في البحث؟ تمكنت آنا من التظاهر بأنها فعلا الشخصية التي تجسدها وبأنها علوية، وحتى التظاهر بذلك لساعات هنا في أمستردام. وهي تقول “أعتقد أن آنا تمادت، فهي ليست هوية رقمية فقط. أين الشخص الأصلي في كل هذا؟ أين “أنصار”؟ لذلك قررت إعدام آنا”.
في صباح بارد من شهر كانون الثاني/ يناير من هذه السنة، حزم كل من أوغور وأنصار صندوقًا به نسخ لصفحة آنا على فيسبوك، مع سيف استُخدم كرمز لنظام الأسد وبعض الحلي ثم توجهوا لمحمية طبيعية خارج أمستردام. هناك، حفروا حفرة ودفنوا الشخصية، وكان الشاهد الوحيد على زوال المحقق السري الرقمي الذي كان عمله ليجلب الفخر لأي جاسوس حقيقي، كلب شارد.
قال أوغور “إن علماء النفس والمعالجين سيخبرونك أنه إذا كان لديك فترة صعبة بشكل خاص، يمكنك أن تميز هذه الفترة بنوع من الطقوس، حيث أن إضفاء طقوس على أمر ما يساعد في تجاوزه والمضي قدمًا”. كان الوقت قد حان لكلا الباحثين للتركيز على المواد التي جمعاها ولم يتمكنا من معالجتها بينما كانا منغمسين بعمق في الشخصية التي دفناها في الغابة وخصصا لها دقيقة صمت.
قالت أنصار “أضحك عليها طوال الوقت، فدائمًا ما أتذكر آنا”. لكن كان هناك شيء آخر عليهما القيام به، وهو مواجهة أمجد بما يعرفانه عنه. تساءل أوغور “إلى متى يمكنك التقرب من ضابط مخابرات”. وأضاف: “أعتقد أنه في اللحظة التي تكلم فيها عن أخيه، وعن الانتقام، كانت هذه هي أقرب نقطة يمكن أن نصل إليها في هذا السياق بالذات”.
أرسلت أنصار مستخدمةً هويتها الحقيقة هذه المرة بدلًا من “آنا” فيديو مدته 14 ثانية لأمجد عبر فيسبوك. وكان أول سؤال طرحه: “هل هذا أنا في الفيديو؟” فأجبت: “نعم هذا أنت”. فقال: “أجل، إنه أنا. لكن ما الذي يحتويه؟ قلت: “لا شيء. أنا ألقي القبض على أحدهم، هذا هو عملي”.
مكتشفًا عواقب ما تم عرضه عليه للتو، شجب أمجد أعضاء جبهة الدفاع الوطني، وهي الميليشيا التي ينتمي إليها المبتدئ الذي سرّب الفيديو، ووصفهم بالقتلة والبلطجية وقال إنه ليس مثلهم. ثم توقف عن التحايل، وتقبل بتحدٍ ما فعله. وكتب في رسالة “أنا فخور بما فعلته”، قبل أن يهدد بقتلها هي وعائلتها.
لم يجب أوغور ولا أنصار على أمجد منذ شباط/ فبراير، وقاما بحظره من حساباتهما على وسائل التواصل الاجتماعي. لكنه حاول التواصل معهما عدة مرات، حيث يبدو جليًا أنه كان متوترًا بشأن ما ينتظره – كما يجب أن يكون. بدأت محاكمات جرائم الحرب في ألمانيا بكسر درع الإفلات من العقاب الذي أحاط به نظام الأسد نفسه في سوريا. ومع ذلك، لم تُعرض خلال جلسات الاستماع في المحكمة نفس الأدلة الدامغة كما صورها فيديو مذبحة التضامن.
قبل أن يصبح من الممكن سرد هذه القصة، كان على شخص واحد الوصول لبر الأمان – وهو الشخص الذي سرّب الفيديو إلى صديق في فرنسا ثم إلى أوغور وأنصار. وفي وقت ما في الأشهر الست الماضية، بدأ رحلته الخطيرة.
هروب المصدر
إن ترك النظام في سوريا لم يكن قط أمرًا سهلًا. يواجه أي شخص يأمل في السفر إلى أجزاء أخرى من الدولة، أو خاصة للخارج، عملية استجواب طويلة قبل السماح له بذلك. وعلى الرغم من احتفاظ الأسد بالسلطة، إلا أن المجال الذي يسيطر عليه تقلص ويحق لكل من القوتين الإيرانية والروسية نقض العديد من قرارات الدولة. تقوم جماعات المعارضة بالسيطرة على الشمال الغربي، ويتمتع الأكراد بالرعاية في الشمال الشرقي. ولا تزال سوريا محطمة دون التوصل إلى تسوية؛ فهي مكان يمكن حتى لأفراد الأسرة أن يشتبه بأنهم خونة.
وهكذا كان الحال عندما انطلق شاب من العاصمة السورية متجهًا إلى حلب في الأشهر الست الماضية في الخطوة الأولى من رحلة ستأخذه إلى الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة، ثم إلى تركيا ومنها إلى أوروبا.
كانت الرحلة إلى حلب عصبيّة، حيث سُمح له بالمغادرة لكن لم يكن يدري ما إذا كانت ستلحق به وحدات المخابرات المرعبة قبل أن يتجاوز حدودها. في الضواحي الشمالية لحلب، حصل عقيد من الفرقة الرابعة للجيش السوري على رشوة بقيمة 1500 دولار (1187 جنيهًا إسترلينيًا) مقابل السماح للرجل بالعبور من المنطقة الفاصلة بين الجانبين. تأخرت الرحلة يومًا نظرًا لأنه كان يتم تجهيز شحنة من الكابتاغون من قبل القسم الرابع للعبور من نفس الطريق. وبعده بفترة وجيزة، شقّت شاحنة محملة بعشرات الكيلوجرامات من المنشطات، التي يصنعها ويوزعها النظام ويقوم كذلك بتصديرها في أنحاء الشرق الأوسط، طريقها إلى الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة. وسرعان ما تبعها عبور المصدر. وبعد عدة أسابيع، قابلته أنصار في تركيا، بينما تم ملأ فراغات قصة حي التضامن من خلال أسابيع من المناقشات، وواظبوا على وضع الملاحظات الخاصة بجرائم الحرب.
سلّم أوغور وأنصار الفيديو والملاحظات التي شملت آلاف الساعات من المقابلات للمدعين العامين في هولندا وألمانيا وفرنسا في شباط/ فبراير. في نفس الشهر في ألمانيا، أقيمت أول محاكمة من نوعها لمسؤول آخر في المخابرات السورية العسكرية وهو أنور رسلان لدوره في الإشراف على قتل ما لا يقل عن 27 سجينًا وتعذيب ما لا يقل عن 4 آلاف آخرين. وأدين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
لا تزال أنصار في غربة بعيدًا عن عائلتها وعلى حد أقوالها، فهي ليست نفس الشخص الذي كانت عليه عندما بدأت هذه الخطة. وقالت: “لكن الأمر كان يستحق كل هذا العناء، كان الأمر مرهقًا، لكني أتمنى أن يساعد عملنا في تحقيق العدالة”.
يضج حي التضامن بالحركة هذه الأيام وكأن الحرب لم تُظلِم أبدًا أركانه، حيث تم تغطية معظم الخراب والفظائع بالمباني ومواقف السيارات أو بحطام ومخلفات الصراع. أوغور وأنصار مقتنعان بأن العديد من المذابح وقعت هناك ويقومان بتجميع المواقع مع أسماء أولئك الذين فُقدوا في الصراع الوحشي للسيطرة على الضاحية.
قال أوغور: “السكان المحليون يلومون النظام. إنهم يعرفون من قتل أحباءهم. الغريب في الأمر أن هؤلاء الذين قُتلوا في الفيديو لم يكونوا منشقين، بل كانوا مع النظام. يمكنك أن تلاحظ أنهم لا يعانون من سوء التغذية. أخِذوا مباشرة من نقاط التفتيش وليس الزنزانات. وتم قتلهم كتحذير بعدم التفكير في عبور أحد الجانبين. وتستحق عائلاتهم العدالة”.
أما بالنسبة للمصدر فهو آمن خارج سوريا. وبهروبه من محيطه – الدائرة الأعمق لنظام الأسد – فقد حكم على نفسه بحياة المنفى. وتقول أنصار: “إنه سعيد بقراره. أحيانًا يريد الناس أن يفعلوا الصواب فقط. وإذا تعلمت شيئا من هذا، فهو أن هناك خيرًا في الناس. وأن الحقيقة سترى الضوء ولو بعد حين”.
المصدر: الغارديان