في الوقت الذي يرفع فيه اليونانيون شعارات الحضارة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، ويعزفون على أوتار الريادة الديمقراطية عالميًّا، يقدّمون واحدة من أكثر التجارب العنصرية في التاريخ، إذ شهدت علاقتهم بالمسلمين موجات من القهر والتنكيل ألبست تاريخهم أوشحة العار السوداء.
وتحول المسلمون في اليونان من أكثرية قاربت الـ 70% أوائل القرن التاسع عشر، إلى إحدى الأقليات المهمَلة على رادار الاهتمام الرسمي من قبل السلطات اليونانية، التي سخّرت كل ما لديها للتنغيص على المسلمين في حياتهم الطبيعية وأدائهم لطقوسهم وشعائرهم الدينية.
ورغم تباين الآراء والإحصاءات بشأن أعداد المسلمين في اليونان، إلا أن الأرقام الأقرب للدقة تشير إلى أن العدد يبلغ حاليًّا قرابة 650 ألف نسمة، منهم 500 ألف في العاصمة أثينا (من بينهم 50-60 ألف من أصول يونانية)، وقرابة 150 ألف في بقية المدن، يشكّلون قرابة 5.7% من سكان اليونان، حسب تصريحات رئيس رابطة المسلمين في اليونان، نعيم الغندور.
ويعدّ المسلمون في اليونان أحد أقدم الجاليات الإسلامية تاريخيًّا في العالم غير الإسلامي، وهو ما يفسّر تمسكهم بالتعايش في ظل تلك الأجواء غير الملائمة في كثير من الأحيان، حيث مخطط طمس الهوية الإسلامية ونزعها من جذورها الاجتماعية، ليسقط المسلمون ضحايا العقدة التاريخية التي تعاني منها اليونان حين قبعت تحت الحكم العثماني لعقود طويلة.
أقدم الجاليات الإسلامية
تعدّ اليونان من أوائل الدول الأوروبية التي عرفت الإسلام، حين فتح جيش المسلمين جزيرة رودس عام 654، ثم فُتحت جزيرة كريت على أيدي الأندلسيين الأمويين عام 827، ليصبح غالبية سكان الجزيرتَين خلال القرن العاشر الميلادي من المسلمين، وهنا كانت باكورة الجالية الإسلامية في اليونان.
وفي عام 961 سقطت كريت في أيدي البيزنطيين وطردوا المسلمين منها، فيما كان الملوك المسيحيون يمارسون تنكيلًا وقهرًا على المسلمين، ويضعوهم بين خيارَين لا ثالث لهما، إما التحول إلى المسيحية لمن أراد البقاء في الجزيرة وإما الرحيل عنها، ما أدّى إلى تفريغها من غالب سكانها من المسلمين، حتى قدوم العثمانيين.
ومع الفتح العثماني لمقدونيا عام 1380 على يد السلطان مراد الأول (1326-1389)، بدأ الإسلام في الانتشار إلى كافة أرجاء اليونان، ومنها إلى أوروبا، حيث خضعت الدولة للحكم العثماني الإسلامي لعدة قرون، شهدت خلالها حضارة راقية، وطفرة كبيرة في مسيرة العلوم والتراجم والعمارة، حتى باتت اليونان نقطة انطلاق قوية لإضاءة العواصم الأوروبية بنور الحضارة الإسلامية، وقد شكّل المسلمون في ذلك الوقت قرابة 68% من إجمالي سكان اليونان.
وبعد إنهاء الحكم العثماني للبلاد عام 1830، غادر الجزء الأكبر من المسلمين اليونان، ولم يتبقَّ منهم سوى القليل ممن كانوا يعانون الاضطهاد المسيحي بشكل غير مسبوق، نكاية في فترة الحكم الإسلامي.
واستمرَّ الوضع على ما هو عليه حتى تدشين اتفاقيات لوزان عام 1923، كأحد مخرجات الحروب اليونانية التركية التي امتدت فترة 1919-1922، حيث تمّت عمليات تبادل للسكان غادر على إثرها أكثر من 450 ألف مسلم من اليونان إلى تركيا، ولم يتبقَّ حينها في البلاد سوى 92 ألفًا في تراقيا و26 ألفًا في إيير، وقد أُجبروا لاحقًا على النزوح إلى ألبانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
خارطة توزيع شاملة
ينحدر المسلمون في اليونان من عدة أصول، أبرزها الأتراك والبلقان والبوماك والألبان، ومن اليونانيين أيضًا، ويتمركزون في 5 مجموعات رئيسية تتوزّع على مختلف المناطق، أهمها العاصمة أثينا التي تحتضن أكثر من 150 ألف مسلم، أكثريتهم من العهد العثماني، فيما هاجر إليها مؤخرًا بعض العرب.
مجموعة أخرى تتمركز في تراقيا شمال شرق اليونان، ويسكنها السواد الأعظم من أبناء الجالية المسلمة (تتراوح الأعداد بين 120 و150 ألف مسلم)، وظلت تلك المدينة التي تبلغ مساحتها 8758 كيلومترًا مربعًا، وعدد سكانها حوالي 400 ألف نسمة، خاضعة لتركيا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ورغم كفالة معاهدة لوزان لهم حرية ممارسة شعائرهم، إلا أن تضييق الخناق عليهم دفع الكثير منهم لمغادرتها.
ومن المناطق التاريخية التي يميل المسلمون للإقامة فيها مقدونيا التي تقع شمالًا، ويقطنها أكثر من 15 ألف نسمة لهم أصول مختلفة، ألبان ويونانيين وبوماك وغجر، وإن كانوا يواجهون أزمات كبيرة بسبب التشتُّت وعدم الانسجام، هناك أيضًا منطقة بحر إيجة، خاصة جزيرتَي كوس ورودس القريبتَين من تركيا.
وأخيرًا تأتي منطقة شماريا على الحدود الألبانية اليونانية، والتي تبلغ مساحتها 15 ألف كيلومتر مربع، وتعدّ أحد تمركزات المسلمين في اليونان، إذ يقطنها قرابة 83 ألف مسلم بحسب المصادر التركية عام 1910، غير أن الإحصاءات اليونانية قدّرتهم بنحو 26 ألف فقط.
التجريد من الهوية
في 9 يناير/ كانون الثاني 2018، تلقّى المسلمون في اليونان ضربة مؤلمة ربما تكون الأشد قسوة خلال العقود الخمس الماضية، حين ألغى البرلمان النظام المعمول به مع الجالية، والذي يعتبر الشريعة الإسلامية هي المرجعية الأساسية لقضايا الأحوال الشخصية، الزواج والطلاق والميراث وغيرها.
مُنح هذا النظام للمسلمين خلال معاهدة أثينا الموقّعة بين العثمانيين والدولة اليونانية عام 1913، والتي كان من بينها حرية المسلمين في إدارة شؤونهم طبقًا للشريعة، بما في ذلك اختيار المفتي، وعدم التدخل في شؤونهم الدينية، مع ضمان ممارسة الشعائر والطقوس، لكن الوضع تغيّر نسبيًّا عام 1991 حين تدخلت الحكومة في اختيار مفتي المسلمين، بما يخالف المعاهدة.
وفي ضوء القرار البرلماني الأخير، فإن المحاكم المدنية الخاضعة للقانون اليوناني باتت المرجعية الوحيدة لتسوية أي نزاعات تتعلق بأحوال المسلمين الشخصية، فيما تمَّ إزاحة الشريعة من المشهد، إلا إن كان الأمر بالتراضي بين طرفَي النزاع واختارا الاحتكام للشريعة بشكل ودّي غير رسمي.
أثار هذا القرار حفيظة بعض المسلمين الذين رفضوا تدخُّل أثينا في اختيار المفتي، ليختاروا هم بأنفسهم مفتيهم الخاص كما فعل الأتراك المسلمين في البلاد عام 2020، غير أن هذا التحرك قوبل بالردّ القاسي، إذ تعرض بعضهم لعقوبات قاسية فيما تمَّ محاكمة المفتي الجديد.
وقد تعرض مفتي مدينة إسكتشا بمنطقة تراقيا الغربية شمال شرقي اليونان، أحمد مته، للسجن 15 شهرًا بحكم قضائي من إحدى المحاكم اليونانية في منتصف يونيو/ حزيران 2021 بسبب تصريحات سابقة له منذ عام 2016، حين صرّح بأن الحكومة اليونانية حرمت دار الإفتاء المسلمة ترميم وتجديد مساجد المسلمين، وفرض عقوبات على عدد من منتسبي الدار.
تحديات الاندماج
رغم أقدميتهم التي ربما تتجاوز تاريخ وجود الكثير من اليونانيين أنفسهم، إلا أن اندماج الجالية المسلمة في المجتمع اليوناني لم يكن على المستوى المأمول والمتوقع، حسبما أشار الإعلامي اللبناني شادي الأيوبي، المقيم في أثينا منذ سنوات، والذي أرجع هذا الضعف إلى عدة أسباب، على رأسها عدم وحدة المسلمين وعدم وجود مؤسسات أو قيادات ذات كفاءات تمثلهم أمام السلطات الحاكمة هناك.
هذا بخلاف الطبيعة البيروقراطية التي تتميّز بها المؤسسات الحكومية في اليونان، خاصة فيما يتعلق بالتباطؤ والتلكّؤ في منح الإقامات والجنسيات، والتي تتسبّب في مغادرة الكثير من المسلمين للبلاد إلى بلدان أخرى أكثر مرونة وأقل بيروقراطية، بحسب الأيوبي.
ومن أبرز الملفات التي تعرقل مسار الاندماج النظام التعليمي، فرغم أن معظم المسلمين هناك يتحدثون التركية، والأقلية منهم يتكلمون البوماكية (لهجة بلغارية)، وأن هناك اتفاقية للتعليم بين تركيا واليونان وُقِّعت عام 1951، إلا أن الحكومة تتعنّت في تدشين مدارس تدرِّس اللغة التركية إلا القليل منها، هذا بخلاف غلق الكثير من المدارس التركية مؤخرًا بدعوى ضعف الإقبال.
وتنقسم المدارس التي يتعلم فيها المسلمون في اليونان إلى نوعَين، الأول يتعلق بالسكان المحليين الحاصلين على الجنسية اليونانية منذ سنوات، وهي مدارس تعلِّم الدين الإسلامي وبعضها يدرِّس اللغة التركية، وتُسمّى “مدارس الأقلية”، أما الوافدون المهاجرون من الخارج فلهم مدرسة رسمية واحدة هي “المدارس الليبية” بجانب أخرى غير رسمية.
كما يعاني المسلمون من قلة عدد المساجد والمقابر، فرغم وجود قرابة 300 زاوية ومكان مخصَّص للصلاة في شمال اليونان خاصة بالأقلية المسلمة المقيمة والحاصلة على الجنسية، تعاني مناطق المهاجرين من ندرة نسبية في عدد المساجد، ويكفي أن العاصمة اليونانية التي يقطنها قرابة 150 ألف مسلم لا يوجد فيها سوى مسجد كبير رسمي واحد فقط، اُفتتح عام 2020، ويتّسع لـ 400 شخص فقط.
المشاركة في الحياة السياسية
في الوقت الذي يعاني فيه المسلمون من صعوبات بالغة في الاندماج، إلا أنهم نجحوا في الحضور السياسي رغم القيود المفروضة عليهم فيما يتعلق بالترشح للانتخابات البرلمانية وتدشين أحزاب سياسية، وهو ما يدفع الكثير من الساعين منهم إلى العمل السياسي إلى الانضمام للأحزاب اليونانية الموجودة.
الكاتب المتخصِّص في أوضاع المسلمين في اليونان، كونستانتين تسيتساليكيس، يشير في مقال نقله عنه “معهد دراسات الجزيرة” إلى أن أفراد الأقلية المسلمة، لا سيما في تراقيا، يشاركون بانتظام في الحياة السياسية، منوهًا أنه قد انتخب منهم عضوَين في البرلمان عام 2007، كانا مرشّحَين عن حزب باسوك المعارض.
وفي الانتخابات التي سبقتها عام 2002، حصل المسلمون على حوالي 250 وظيفة تمثيلية في الإدارات والمؤسسات المحلية، فضلًا عن انتخاب مسلم لشغل وظيفة نائب حاكم رودوب، بحسب تسيتساليكيس، الذي ألمح إلى ضعف التمثيل السياسي للمسلمين في مستويات السلطة العليا، والتي باتت حكرًا على المسيحيين.
ودعمًا لانخراط المسلمين في العمل السياسي والمجتمعي، دشنوا عددًا من الجمعيات والكيانات التي يتحركون من خلالها بما يخدم مصالحهم، ويدافعون عبرها عن حقوقهم وامتيازاتهم، من أبرزها جمعية خريجي الجامعات في تراقيا، واتحاد أتراك كسانتيا، إضافة إلى الجمعية الثقافية اليونانية-الباكستانية، وإن كانت تواجه تلك الجمعيات مشاكل قانونية بين الحين والآخر.
تاريخ من العنصرية
يشهد التاريخ الحديث والمعاصر عشرات المذابح التي قام بها اليونانيون بحقّ المسلمين، تلك المذابح التي تؤصِّل لعنصرية بغيضة بحقّ الأقلية المسلمة والإسلام عمومًا، حيث الجانب الأكبر ورائها تلك العقدة التاريخية الناجمة عن الحكم الإسلامي لهم، وهو ما يجعل رائحة الانتقام تفوح منها.
قسم المؤرِّخون تلك المذابح إلى قسمَين بحسب الفترة التاريخية التي حدثت فيها، الأولى تلك التي اُرتكتب خلال حرب الاستقلال، وهي الحرب التي شنّها اليونانيون ضد الدولة العثمانية في فترة 1821-1832، ومن أبرز جرائمها مجزرة شبه جزيرة بيلوبونيز، التي قُتل فيها أكثر من 20 ألف مسلم في موجة إعدامات جماعية بمباركة قساوسة كنائس المنطقة.
كذلك مذابح تربوليتشا التي راح ضحيتها 35 ألف مسلم، وفيها كان الروس واليونانيون يلقون الأطفال من أعلى المآذن بحسب المؤرّخين، فضلًا عن مجزرة نافرين عام 1821، والتي قُتل فيها سكان مدينة نافرين بأكلمهم والبالغ عددهم 30 ألف نسمة، ولم يتمكن من الفرار منهم سوى 160 فقط.
والكارثة حدثت كذلك خلال مذابح جزر بحر إيجة في مارس/ آذار 1821، والتي قُتل فيها مئات المسلمين حين هاجم اليونانيون السفن التركية المارّة من المنطقة والمتّجهة إلى الحج.
ولم يقلّ القرن العشرين دمويةً عمّا كان عليه القرن التاسع عشر، حيث الإبادات العرقية التي تمّت برعاية أوروبا دمّرت عشرات القرى بأكملها بين 16 مايو/ أيار و10 يوليو/ تموز 1921، بجانب المذبحة التي ارتكبها اليونانيون في منطقة يالوفا، إذ أحرقوا ما يقارب الـ 27 قرية مسلمة، وقتلوا حوالي 10 آلاف شخص.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، قامت السلطات اليونانية بشنّ حملات إبادة جماعية على سكان إقليم شاميريا الألبان، قُتل فيها 5 آلاف من سكان الإقليم، فيما تمَّ تهجير 35 ألفًا آخرين، بجانب تدمير 68 قرية، وحرق 5800 بيت، وهدم أكثر من 100 مسجد.
وفي العصر الحديث، ورغم انتفاء ظاهرة المذابح الجماعية وجرائم الإبادات الكاملة، إلا أن العنصرية ضد المسلمين لا تزال تنعم بحاضنة شعبية وسياسية تؤهّلها للاستمرار والبقاء، لا سيما بعد صعود حزب الفجر الذهبي اليميني المتطرف، في العقد الأول من الألفية الحالية.
وتصاعدَ نفوذ هذا الحزب خلال السنوات العشر الماضية بصورة غير مسبوقة، استطاع خلالها أن يفرض نفسه كلاعب أساسي في المشهد داخل البرلمان وفي الأحزاب وداخل التشكيلات الحكومية، حتى بات إحدى الأدوات المشكّلة للسياسة الخارجية اليونانية في الآونة الأخيرة.
اللافت أن الاعتداءات التي شنّها هذا الحزب ضد المسلمين والمهاجرين عمومًا في السنوات الماضية، لم تجد أي اهتمام لدى دوائر الشرطة، حسبما أشار الباحث محمد يوستش في دراسته التي عنونها بـ”المسلمون في اليونان، التعددية والحفاظ على الهوية”، منوّهًا أن نتائج الانتخابات الأخيرة بلغت نسبة تصويت رجال الشرطة لصالح الحزب المتطرف حد 50%.
وهكذا يدفع المسلمون في اليونان ثمن العقدة التاريخية التي تسيطر على العقلية السلطوية الحاكمة وقاعدتها الشعبوية المتصاعدة، فيما تجاهد الأقلية لأجل تعزيز منظومة الاندماج رغم التحديات، إيمانًا منها بأحقيتها في الحياة الكريمة في هذا البلد الذي كانوا يمثّلون غالبيته العظمى يومًا ما.