منذ أيام، نظمت إدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد” حفل افتتاح وتسليم مشروع منازل جديدة في منطقة إدلب شمال غرب سوريا، بدعم من 12 منظمة غير حكومية تركية ضمن حملة “نقف إلى جانب إدلب”، في هذا الحفل حضر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليلقي كلمته عبر تقنية الاتصال المرئي.
قال الرئيس التركي في معرض حديثه عن نية بلاده إعادة مليون لاجئ سوري إلى أرضهم: “نحن ندعم إستراتيجيتنا المتمثلة في إبقاء الهجرة عبر الحدود بمشاريع تدعم العودة الطوعية، خاصة عبر دعم مشاريع المنازل المنشأة حديثًا، التي سننفذها مع المجالس المحلية في 13 منطقة مختلفة، لا سيما في أعزاز وجرابلس وتل أبيض ورأس العين، وهي مشاريع واسعة للغاية ستحتوي على كل احتياجات الحياة اليومية، من المسكن إلى المشافي، والبنية التحتية اللازمة، وسنبذل جهدًا كبيرًا من أجل تهيئة الأرضية اللازمة للعودة”.
بعد خطاب أردوغان، نشرت وسائل إعلام تركية ما قالت إنها الخطة الحكومية التركية من أجل إعادة مليون لاجئ سوري في تركيا إلى “المناطق الآمنة” الواقعة على الحدود التركية من الطرف السوري، لكن المثير للاهتمام فيما قاله أردوغان وفيما نقلته الصحف التركية بخصوص الخطة، أنها لم تصنف منطقة إدلب ضمن المناطق الـ13 المشمولة بالخطط التنموية المزمع العمل عليها وفق خط زمني تحدده السلطات التركية لحل مشكلة اللاجئين على أراضيها.
تعتبر منطقة إدلب وما يحيط بها من مدن ريف حلب الغربي كالأتارب ودارة عزة تحت الحماية أو الضمانة التركية وفقًا لتفاهماتها مع روسيا، وينتشر الجيش التركي فيها بكثافة خاصة في مناطق جبل الزاوية وغيرها من شريط التماس مع نقاط النظام السوري، ورغم الوجود التركي الكثيف في إدلب، فإن المحافظة ما زالت تحت سيطرة هيئة تحرير الشام بشكل أساسي، وقد وضعت الهيئة إدارة مدنية تحت مسمى حكومة الإنقاذ، لتسيير أمور المحافظة.
أين إدلب من الخطة؟
إذًا، نشرت صحيفة “صباح” التركية، الخطة التي ستعمل عليها الحكومة التركية من أجل إعادة مليون لاجئ سوري من أراضيها إلى سوريا، وستبدأ الحكومة التركية بحسب الصحيفة بإعادة اللاجئين ضمن برنامج “العودة الطوعية من المدن الكبرى المكتظة بالسوريين مثل أنقرة وإسطنبول وقونيا وأضنة وغازي عنتاب”.
وتتحدث الخطة أيضًا عن “العودة الطوعية للسوريين إلى مناطق يُضمن فيها الاستقرار العسكري والسياسي والأمن”، كما أنه سيتم بناء تجمعات سكنية جديدة في المناطق التي جرت فيها العمليات العسكرية التركية: درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام.
تلك المناطق توجد فيها فصائل تابعة للجيش الوطني السوري المدعوم من الجيش التركي، أما على الصعيد المدني والخدمي فالأمر يرجع للمجالس المحلية التابعة للحكومة السورية المؤقتة المنبثقة عن الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، وبات معلومًا أن تركيا تتحكم بالمنطقة وفصائلها ومجالسها المحلية بشكل كامل، على عكس إدلب التي إلى الآن لم يحصل فيها حل لموضوع هيئة تحرير الشام، إضافة إلى عدم وجود توافق بين روسيا وتركيا من أجل المنطقة، وهو ما يؤخر ضم المدينة إلى المناطق التي تعمل تركيا على تنفيذ خطتها بها.
تضم إدلب مئات آلاف السكان خاصة في منطقة المخيمات، والمدينة غير مستقرة بصورة كاملة وهو ما يثير تخوفات السكان من تجدد هجوم النظام وروسيا على المنطقة خاصة أن القصف لم ينقطع عنها رغم الهدنة المستمرة منذ ما يزيد على سنتين.
وفي هذا السياق، يقول الباحث السوري والمتابع لشؤون الشمال السوري أنس الخطيب: “قبل أشهر وحتى فترة قريبة كان يوجد تفاوض مع هيئة تحرير الشام بشأن إمكانية تنفيذ المشروع التركي ليشمل إدلب، لكن لم يصل الطرفان إلى توافق بسبب تعنت قيادة الهيئة بالسيطرة على نصف مقدرات المشروع في إدلب وخاصة المنازل”.
وبالنسبة لمشاريع الإعمار التي تجري في مخيمات النازحين خاصة الواقعة في مدينة أطمة التابعة لإدلب التي تعكف المنظمات التركية على افتتاحها كل فترة، يقول الخطيب لـ”نون بوست” إنها ليست جزءًا من الخطة التركية التي تحدث عنها أردوغان إنما هي فقط خاصة بإنهاء ظاهرة الخيم والمآسي الناتجة عنها، بينما المشروع المطروح (العودة الطوعية) يتطلب بناء مدن حقيقية بمعايير مختلفة في البناء والبنية التحتية وما يرافقها من مشاريع اقتصادية تنموية.
حتى لو لم تضمن أنقرة إدلب في خطتها المرحلية هذه، فإن هذا لا يعني أنها أخرجتها من حساباتها، فقد تكررت زيارات وزير الداخلية التركي سليمان صويلو إلى مخيمات منطقة إدلب من أجل الاطلاع على أوضاع بناء الوحدات السكنية عوضًا عن الخيام، وكانت آخر زيارة له منذ أيام، حينها قال: “عدد المنازل التي تبنيها تركيا في إدلب سيصل إلى 100 ألف، بفضل التكاتف والتكافل بين أبناء الشعب التركي”، وتابع “سنواصل إنشاء المنازل في هذه المنطقة ليتمكن اللاجئون من العودة إلى بلادهم”.
التفاهمات مع روسيا
إضافة لما سبق ذكره، فإن إدلب لم تدخل ضمن سياق خطة الإعمار التركية المزمع تنفيذها، لأن هذه المنطقة ما زالت خارج إطار التوافق التركي الروسي الكلي، رغم وجود هدنة بين الطرفين، فقد وقعت تركيا وروسيا في مارس/آذار 2020، ورقة لإرساء تهدئة طويلة الأمد، قضت هذه الورقة على جميع اتفاقيات التهدئة التي سبقتها ورسمت خطوطًا جديدة للمنطقة جغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا.
ورغم أن الأتراك والروس يبديان حرصهما الدائم على عدم انهيار الاتفاق الحاليّ، لم يستطيعا تحويل هذا التفاهم إلى اتفاق دائم بسبب عدّة قضايا أهمها: الخلاف على قضايا الانتشار التركي العسكري ونقاط المراقبة وقضية هيئة تحرير الشام والمعابر التجارية بين المنطقة والنظام السوري، وفي هذا السياق يقول فراس فحام الباحث في مركز جسور للدراسات إن بقاء إدلب خارج الخطة التركية الحاليّة يرجع إلى أن مصيرها مجهول حتى الآن.
وتشدد روسيا على أن “الجيش السوري يجب أن يعيد سيطرته على كامل إدلب” رغم اتفاقها مع أنقرة في هذه المناطق، وقد صرح السفير الروسي في سوريا ألكسندر يفيموف بهذا حين قال: “أود لفت الانتباه إلى أن أي اتفاقات لا تلغي ضرورة مواصلة مكافحة الإرهاب بلا هوادة مع إعادة الجزء المشار إليه من أراضي سوريا إلى سيادة دمشق، وكل المحاولات لتبييض الإرهابيين المختبئين في إدلب وعرضهم كما لو أنهم ما يسمى بالمعارضة المسلحة غير مقبولة على الإطلاق”.
وفي هذا السياق يشير الباحث فحام خلال حديثه لـ”نون بوست” إلى أنه حتى الآن “لا توجد تفاهمات راسخة بخصوص المنطقة، إذ تعترض موسكو على حجم الانتشار التركي في إدلب، فتفاهمات أستانة كان تنص على عدد محدد من القوات التركية، وإنشاء نقاط عسكرية لها صفة المراقبة”، مضيفًا “لكن بعد ذلك فقدت تركيا الثقة بروسيا والتزاماتها في إدلب وكانت هناك محاولات لاجتياح إدلب أدت إلى تدخل الجيش التركي ونشر عدد كبير من القوات والقواعد، وهو ما كان خارج سياق التفاهمات بين البلدين، على عكس منطقة شمال حلب وعمليات درع الفرات وغصن الزيتون التي تمت بتفاهمات تركية روسية”.
وعن حجم الرضا الروسي عن الخطة التركية لإعادة اللاجئين يقول أنس الخطيب: “صحيح أن إدلب تخضع لتوافقات روسية تركية مختلفة عن التوافقات التي تخضع لها مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، إلا أنه لم يصدر أي اعتراض روسي على مشروع العودة الطوعية”، مضيفًا “على العكس رعت روسيا لقاء استخباراتي بين تركيا والنظام في موسكو تقول المصادر التركية إنه ناقش ملفين رئيسيين: أولهما الحرب على الإرهاب والثاني عودة اللاجئين السوريين، ولا يبدو أن روسيا بصدد إزعاج تركيا عبر مزيد من العرقلة لسياسات أنقرة في سوريا خاصة في ملف حساس وخطير ينعكس على الوضع في الداخل التركي”.
عقدة تحرير الشام
إلى ذلك، يبدو أن عقدة هيئة تحرير الشام ما زالت تؤرق تركيا في إدلب، فالهيئة تزداد توغلًا في المنطقة، وهو ما يعقد الأمور بين موسكو وأنقرة كما أسلفنا، وعلى الرغم من محاولات الهيئة التقرب من تركيا ودول الغرب، فإنها ما زالت تتصرف بشكل لا يرضي تركيا بخصوص التحركات العسكرية والمعابر والمساعدات الغذائية، فعلى سبيل المثال ما زالت عناصر الهيئة تحاول السيطرة على المساعدات الإغاثية وتقاسمها مع المخيمات، وكانت أنقرة قد حاولت حل الهيئة ودمجها في الفصائل المعارضة لكنها لم تنجح.
وفي هذا الصدد يقول أنس الخطيب: “بالطبع فإن تركيا تصنف هيئة تحرير الشام كتنظيم إرهابي لذلك هي تتعاطى معها بحذر ولا يمكن أن تقبل حصول الهيئة على تمويل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عبر مشروع تشرف عليه الحكومة التركية”، ويرى أن “هذا المشروع لن يؤثر على الوضع في إدلب من ناحية تحويل ما يقدم للمنطقة عبر المؤسسات الإنسانية غير الحكومية خاصة أنه منفصل عن الترتيبات القائمة حتى اللحظة، ولسبب آخر أهم وهو أن استقرار الوضع في إدلب سيكون من أساسيات نجاح المشروع القادم وإلا ستزيد الأعباء في عموم المنطقة ولن تكون قادرة على استقبال عائدين من تركيا”.
إذًا، أي تراجع تركي في إدلب سيؤدي إلى أزمة يترتب عليها محاولات جديدة لدخول تركيا عبر الحدود وستنتقل أعداد كبيرة من إدلب إلى المناطق الـ 13 المذكورة في الخطة وهي مناطق بالأصل مكتظة بالسكان، ما يعني ضياع جزء كبير من مقدرات المشروع في تغطية احتياجات الوافدين من إدلب.
الجدير بالذكر أن تحرير الشام تعمل على السيطرة على الاقتصاد بشكل كامل من خلال إغلاق مناطق سيطرتها بوجه التجارة المفتوحة مع تركيا، كما ذكرت تقارير أن “الهيئة تحاول، من خلال تأسيس منظومة اقتصادية موسعة، احتكار كامل المجال الاقتصادي في إدلب، ما يحولها إلى كانتون استهلاكي تعمّه البطالة وأكلاف المعيشة العالية”، وهو ما يجعلها تنظر إلى مشروعية وجودها كشريك بأي مشروع إغاثي أو تنموي من أي طرف كان.
مما سبق، فإن تركيا تحاول تنفيذ خططها من أجل إعادة اللاجئين ضمن المناطق التي تضمن السيطرة التامة عليها، أما بالنسبة لإدلب فإنها ما زالت خارج إطار التفاهم الكلي خاصة مع روسيا، ولهذا لا تريد العمل فيها باعتبارها غير مستقرة على الأقل حاليًّا، وربما تدخلها الخطة مستقبلًا وفق إطار تفاهمات معينة مع الأطراف المعنية بالموضوع.