تنتشر المواد المخدرة في الشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل المعارضة السورية كانتشار النار في الهشيم، ما أسهم في إيصال المنطقة إلى حالة سيئة للغاية، في ظل ارتفاع الإقبال على تعاطيها، بعدما أصبحت المواد المخدرة تصنع محليًا وتروج بين شبكة كبيرة من التجار التي تعمل بدورها على زيادة أعداد المدمنين بهدف الحصول على عدد أكبر من الزبائن.
في 9 مايو/أيار، أطلقت فصائل هيئة ثائرون للتحرير التابعة للجيش الوطني حملةً واسعةً في مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي، لمكافحة تجارة المخدرات وألقت القبض على عشرات المتورطين في جرابلس ومارع وأعزاز وعفرين، يعملون في تجارة المواد المخدرة.
وفي وقت سابق من هذا العام أطلقت غرفة القيادة الموحدة عزم حملةً مماثلةً استطاعت على إثرها إلقاء القبض على أكثر من 40 شخصًا متورطًا وضبط عدد من معامل تصنيع المواد المخدرة في محيط أعزاز وعفرين بريف حلب الشمالي.
ويعتبر الشمال السوري بيئةً خصبةً لانتشار المواد المخدرة بكل أنواعها التي تدخل عبر خطوط التهريب والمصنعة محليًا، كون المنطقة تعيش حالة انفلات أمني، نتيجة الانقسامات والخلافات الفصائلية، مع وجود عشرات ممرات التهريب المنتشرة على خطوط التماس مع مناطق سيطرة نظام الأسد وميليشيا “قسد”.
يقف التقرير الذي أعده موقع “نون بوست” على أسباب انتشار المواد المخدرة وكذلك أسباب الإقبال عليها، ويطرح حلولًا يمكن أن تساهم في تخفيف أزمة انتشارها في المنطقة، إلى جانب الدور الأمني الفعلي الذي يقع على عاتق الجهات العسكرية والمدنية على حد سواء.
تجارة وإدمان
يومًا بعد يوم يزداد عدد مدمني المواد المخدرة في مدن وبلدات الشمال السوري، في ظل سوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية والأزمات النفسية التي تعاني منها شريحة واسعة من السوريين، ما يدفع المتعاطين إلى الاتجار بالمواد المخدرة بغية الحصول على مخصصاتهم منها وتحقيق مصدر دخل رديف لهم.
سالم، 24 عامًا (اسم مستعار) لشاب يعمل في تجارة المخدرات بمنطقة ريف حلب الشمالي والشرقي، بحسب متطلبات عملية النقل، كان الشاب في وقت سابق يتعاطى المخدرات بكل أريحية كون وضعه المعيشي جيدًا ويتقاضى راتبًا متوسطًا من أحد الفصائل العسكرية التي يعمل ضمن صفوفها.
لكن انخفاض مرتبه الشهري وفقدانه القدرة على توفير المواد المخدرة دفعه للعمل بها في سبيل الحصول عليها بشكل مجاني من الأرباح التي يحققها في عملية البيع، بعدما استطاع الوصول إلى إحدى شبكات التجارة، بحسب ما أوضح لـ”نون بوست”.
وقال خلال حديثه: “كنت في السابق قادرًا على توفيرها من السوق الخاصة بها عبر شبكة من الأصدقاء والمعارف، بأسعار لم تكن مكلفة لأن مصدر دخلي يؤمن لي حاجتي منها، إلا أن انخفاض المرتب الشهري الذي أحصل عليه دفعني للعمل بتجارتها بعدما استمعت لنصيحة أحد الأصدقاء الذين يعملون في بيعها”.
وأضاف “تتم عمليات البيع والتوصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ومعظم الزبائن يتواصلون معي للحصول على كمية معينة من مادة الأتشبوظ التي يبلغ سعر الغرام الواحد منها 250 ليرةً تركيةً، والحشيش الذي يصل سعر الـ200 غرام منه إلى 250 دولارًا أمريكيًا، بعد ذلك يتم تحديد مكان التسليم وأنقلها إليه بوساطة دراجة نارية، حيث يتم حمل كميات قليلة من المادة، خشية الرقابة الأمنية، ومثل ذلك تجري معظم عمليات البيع الصغيرة”.
تعتبر مواقع التواصل الاجتماعي، من بينها فيسبوك وتلغرام وواتس أب، من أبرز المواقع التي تصل البائع بزبائنه، فيما تتخذ الدراجات النارية وسيلةً لإيصال المواد للزبائن، بينما تتم عمليات التجارة بشكل أكبر بين تجار ومروجين كبار تغيب أنظار السلطات المحلية عنهم لأنهم يتمتعون بالحماية من شخصيات عسكرية.
انتشار واسع
لا يقتصر إدمان المواد المخدرة على عناصر فصائل المعارضة فحسب، وإنما بات عدد غفير من الشباب منهم العاطلين عن العمل والعاملين في القطاع العام شمال حلب، ومن مختلف الأعمار يدمنون عليها ويتعاطونها بشكل غير مسبوق، فيستدلون إليها، عبر شبكات تجارية محلية أخذتها كمصدر رزق رديف لها.
وفي الربع الأول من العام 2022، ضُبطَ شاب يعمل في مكافحة المخدرات ضمن جهاز الشرطة والأمن العام، العاملة في ريف حلب الشمالي، في أثناء تنقله بين مدن وبلدات ريف حلب الشمالي، ويحمل معه كميات محدودة من الحشيش والحبوب المخدرة، حيث كان يقوم بتوصيلها إلى زبائنه، رغم عمله في ذات القسم، ما دفع جهاز الشرطة إلى إلقاء القبض عليه.
ورغم العمليات الأمنية التي تنفذها فصائل المعارضة السورية وجهاز الشرطة والأمن العام، فإنها لا تجدي نفعًا في ظل توسع الانتشار وارتفاع أعداد الضحايا المدمنين على المخدرات، وبحسب ما أشارت بعض المصادر المحلية فإن “العقوبة التي يتعرض لها تاجر المخدرات لا تتجاوز السجن عدة أشهر، فيما يخرج بعضهم بعد دفع كفالة مالية، سواءً في قسم الشرطة العسكرية أم المدنية، بينما يبقى المتعاطون في عهدة آمنة لا تتم ملاحقتهم، رغم ضلوعهم في الجريمة”.
مصادر المخدرات
تدخل المواد المخدرة إلى مناطق الشمال السوري عبر ممرات التهريب التي تجري على خطوط التماس مع قوات نظام الأسد وميليشيا “قسد”، رغم الانتشار الواسع لعناصر فصائل المعارضة، ما يرجح أن عمليات التهريب تتم بوصاية وحماية عسكرية من بعض الشخصيات المتنفذة.
مصدر عسكري محلي في ريف حلب، رفض الكشف عن اسمه، زود “نون بوست” ببعض المعلومات الخاصة التي توضح عملية دخول المواد المخدرة، قائلًا: “خطوط التماس تشهد عمليات تبادل تجاري للمواد المخدرة، حيث تتم عملية التهريب برعاية شخصيات عسكرية متنفذة، وتحتوي خطوط التماس من منطقة جرابلس وصولًا إلى منطقة الباسوطة بريف عفرين، على عشرات المعابر غير الرسمية التي تدخل عبرها المواد المخدرة”.
وأضاف “تتم عمليات التهريب بالتنسيق بين قادة من ميليشيا نظام الأسد وميليشيا قسد وبعض قيادات المعارضة، إذ يجتمعون فيما بينهم لعملية التبادل التجاري، ما يسهل عملية وصولها إلى المنطقة بحماية ووصاية عسكرية”.
وأوضح المصدر قائلًا: “بعض الأنواع التي تدخل تهريبًا عبر خطوط التماس هي: الأتشبوظ والهيروين بودرا والكابتغون والفوستان والبالتان، بينما تصنع بعض الأنواع كالترامادول والمشروبات الكحولية والكبتاغون في ريف حلب بحماية غير مباشرة من شخصيات متنفذة تابعة للفصائل أو عبر رؤوس أموال تقدم لهم حماية عسكرية”.
هذا ما أكده الصحفي ماجد عبد النور خلال حديثه لـ”نون بوست” بقوله: “معظم أنواع المواد المخدرة الموجودة في الشمال السوري مصدرها مناطق سيطرة نظام الأسد والميليشيات الإيرانية، حيث تعمل مافيات التهريب على نقلها إلى المنطقة، وتربطها علاقات بين كلا الجانبين، لتسهيل عملية دخولها”.
أسباب انتشار المواد المخدرة
يشكل انتشار المواد المخدرة في الشمال السوري ملفًا ضخمًا يطوي خلفه العديد من الأسباب والتداعيات التي ساهمت بشكل أو بآخر في ارتفاع الإقبال والعمل بتجارة المواد المخدرة كمهنة رابحة تحقق جزءًا جيدًا من مصاريف الأسرة.
ولعل من أبرز الأسباب التي ساهمت في انتشار المواد المخدرة، بحسب ما أوضح الصحفي عبد النور:
- عدم ضبط خطوط التماس ومعابر التهريب مع نظام الأسد وميليشيا إيران، باعتبارها سببًا رئيسيًا لدخول المواد المخدرة إلى المنطقة.
- الفقر وسوء أحوال المعيشة.
- جعل تجارة المواد المخدرة عمل رديف، يدفع التاجر الصغير إلى صنع شبكة من المتعاطين في سبيل كسب الرزق.
- الأمراض النفسية المزمنة، نتيجة غياب الاستقرار في مختلف مفاصل الحياة.
- الجهل وغياب التعليم والتوعية الاجتماعية.
- فقدان الضوابط الاجتماعية والأسرية التي كانت تضبط تصرفات الشبان.
- فشل الضبط الأمني وانتشار الفساد والمحسوبيات في اللجان الأمنية التي تشرف على عمليات مكافحة المخدرات.
- انتشار السلاح بين المتعاطين وشبكات التجار وحصولهم على حماية عسكرية.
آثار كارثية على المجتمع
تسبب انتشار المخدرات في الشمال السوري في آثار كارثية على الشخص نفسه وعلى المجتمع المحيط به، ولعل من أبرز الآثار التي يمكننا التماسها وفقًا لوقائع محلية كان الإدمان سببًا رئيسيًا لها:
- ضيق الأوضاع المعيشية والاقتصادية، في ظل حاجة المتعاطي الدائمة للمال للحصول على الجرعة المخصصة له.
- انتشار جرائم القتل، حيث يفقد مدمن المخدرات تركيزه نتيجة تعاطيه جرعات زائدة، ما يدفعه إلى ارتكاب الجرائم بدم بارد.
- انتشار السرقة وقطع الطرقات بغية شراء المواد المخدرة.
- الاغتصاب والاعتداءات الجنسية نتيجة فقدان سيطرة المتعاطي على نفسه وتأثير بعض الأنواع كالأتشبوظ على الشراهة الجنسية.
- إجبار الأطفال والنساء على تناول المواد المخدرات.
- التفكك الأسري والخلافات الاجتماعية والاقتتال المسلح.
ما الحلول؟
تعد الحلول لأزمة انتشار المواد المخدرة في الشمال السوري من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع السوري، إذ لا تقتصر تلك الحلول على المكافحة الأمنية فقط، وإنما تحتاج إلى تكاتف جهود جميع الجهات والهيئات المدنية والدينية والعسكرية، للوصول إلى نتيجة ملموسة تحقق نتيجة فعلية في النهاية.
ومن أبزر الحلول التي يمكن أن تساهم في الوصول إلى نتيجة ملموسة، التي طرحها الصحفي والمدرس في جامعة حلب في المناطق المحررة جاسم السيد، خلال حديثه لـ”نون بوست”:
- إيجاد فرص عمل وملء الفراغ والإحباط الذي يعاني منه الشباب، ويدفعه إلى تعاطي المخدرات التي تكون نتيجة هروبه من الواقع.
- التعليم، يعتبر التعليم من العوامل المهمة، كون المنطقة مر عليها فترة طويلة من الانقطاع التعليمي في المدارس والجامعات نتيجة القصف، ما ولد جيلًا غير متعلم.
- البيئة الاجتماعية، فحالة عدم الاستقرار والنزوح والتهجير، أدت إلى عدم معرفة الناس بعضهم البعض، وبالأخص المخيمات والمدن التي نشأت خلال فترة زمنية وجيزة، وبمعنى آخر غياب الرقابة المجتمعية التي كانت تحد من السلوك غير السوي.
- يجب إيجاد أماكن خاصة بتفريغ طاقات الشباب سواء في الملاعب الرياضية أم المنتزهات وخلق بيئة اجتماعية آمنة تحمل على عاتقها مسؤولية حصول الشاب على حقه في تفريغ طاقاته المكبوتة.
- يجب أن يتحمل رجال الدين والمؤسسات الدينية في المنطقة جزءًا من المسؤولية تجاه انتشار المواد المخدرة كون مجتمع الشمال السوري محافظًا ويتأثر بالجانب الديني.
- يجب على الإعلام أن يتحمل مسؤوليته تجاه الشباب الذين وصلوا لحالة يرثى لها من الإدمان، فيدلهم على الطريق السوي الصحيح، عبر مواد مرئية ومكتوبة تحقق الأهداف المرجوة.
- يجب على المعلمين والمدرسين في المدارس والجامعات ومديريات التربية توعية الشباب لمنعهم من الانسياق خلف مدمني المخدرات.
- إطلاق حملات توعية مجتمعية وفتح مراكز علاجية لمعالجة المدمنين.
في الختام، يعتبر ملف المخدرات ملفًا شائكًا نتيجة انتشاره في عموم الأراضي السورية، وبات يهدد المجتمع السوري الذي يعاني الكثير من التحديات والظروف الاستثنائية نتيجة استمرار الحرب وغياب الاستقرار في عموم الجغرافيا، ما يجعل مستقبل واقع المجتمعات السورية على حافة الهاوية لا قدر الله.