ما زالت مأساة ترحيل اللاجئين السوريين “تحت الحماية المؤقتة” من تركيا إلى سوريا مستمرة، إذ يكفي لتقرير مصيرك أن توقفك الشرطة أو يأتي إبلاغ بحقّك حتى تجد نفسك داخل غرفة مع أوراق عديدة، تبصم وتوقّع على قرار ترحيلك “الطوعي” بالتي هي أحسن، لتجد نفسك داخل الأراضي السورية تاركًا أهلك وأطفالك ورزقك، ولا تدري ما السبب.
وبحسب أرقام معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، فقد بلغت أعداد السوريين المرحَّلين من تركيا إلى سوريا عبر هذا المعبر 1323 سوريًّا خلال شهر نيسان/ أبريل المنصرم، و1321 خلال شهر مارس/ آذار، و1396 خلال شهر فبراير/ شباط، و1139 خلال شهر يناير/ كانون الثاني، من العام الجاري، أي أن السلطات التركية تُرحِّل ما متوسطه 1300 سوري شهريًّا عبر هذا المعبر.
فيما بلغت أعداد المرحَّلين من تركيا العام الفائت 2021 ما مجموعه 15745 سوريًّا، بانخفاض نحو 4500 عن عام 2020 الذي بلغ 22257 سوريًّا مرحَّلًا، وبلغ عدد المرحَّلين عام 2019 عبر معبر باب الهوى 63848 سوريًّا، وهو أكبر عدد من المرحَّلين في عام واحد، فيما بلغ عدد المرحَّلين عام 2018 ما إجماليه 41010 لاجئين.
يروي أبو وليد قصة احتجازه وترحيله في 22 فبراير/ شباط 2022 لـ”نون بوست”، ويقول: “كنت أعيش في إسطنبول وفي حوزتي بطاقة الحماية المؤقتة بشكل نظامي، أوقفتني الشرطة عند خروجي من العمل وتمَّ وضعي في سجن توزلا لمدة 8 أيام، كان معي قرابة 150 شخصًا لقينا المصير نفسه، وأُجبرنا في مدينة كيليس على توقيع أوراق العودة الطوعية”.
وضع إنساني كارثي
تركَ أبو وليد خلفه أسرته في ظروف معيشية صعبة، ويقول: “أعيش الآن عند أشخاص لا أعرفهم، أستلف النقود لأكمل يومي، لا يوجد عمل هنا، عائلتي عند جيراننا لأنني لم أستطع تسديد إيجار منزلنا، ينتظرون أن أعود إليهم، وتمرُّ الأيام ولا حلّ يلوح في الأفق”.
قصة أبو وليد لا تختلف عن قصص شباب تمَّ ترحيلهم إلى سوريا في ظروف مشابهة، حيث ينقل الشاب السوري مصطفى حسين، المقيم في إسطنبول منذ 11 عامًا، قصته قائلًا: “تمَّ ترحيلي إلى سوريا ولا أعرف السبب، ضرب وشتم وإكراه على التوقيع للعودة الطوعية، أملك دفتر عائلة تركي وشهادة قيادة وسيارة، لم أخالف القانون، لأجد نفسي فجأة دون سابق إنذار نائمًا في الشارع داخل سوريا”.
لا يقتصر أذى الترحيل فقط على الشخص الذي تمَّ ترحيله، بل يمتد إلى أسرته وأطفاله بطبيعة الحال، حيث يشارك مصطفى معاناته مكملًا: “طفلتي تبكي بحرقة تريد عودتي، وزوجتي حامل في شهرها الثامن ولا معيل لهما غيري، صاحب المنزل يريد مستحقاته المادية ولا أعلم ماذا أفعل”.
يعيش السوريون على أمل العودة إلى تركيا، وينتظرون تحرُّكًا جادًّا ينصفهم، يقول أبو وليد: “تحدثنا كثيرًا، مللنا من الكلام وإيصال صوت معاناتنا، نحتاج إلى تحرك حقيقي يعيدنا إلى أطفالنا”.
لم تقتصر معاناة المرحّلين الإنسانية على ما بعد وصولهم، حيث بدأت المعاناة من اللحظة التي تمَّ احتجازهم فيها من قبل الشرطة التركية، فقد شاركنا الشاب مفيد مصطفى تفاصيل ترحيله في 3 مايو/ أيار 2022: “كنت أحمل بطاقة الحماية المؤقتة من ولاية كيليس، حاولت مرات عديدة نقلها إلى إسطنبول لعدم توفر فرص عمل هناك، حاولت الحصول على إذن سفر ولم أستطع، سافرت مجبرًا إلى أخي في إسطنبول للعمل، حتى اللحظة التي أوقفتني فيها الشرطة هنا وتمَّ تحويلي إلى مخفر أسنلر”.
وجد مصطفى نفسه في المخفر مع عدد من اللاجئين الأفغان، ليصل بعدها 6 سوريين يحملون بطاقة الحماية المؤقتة لولاية مغايرة، من دون طعام أو شراب، يقول مصطفى: “أخبرتهم أنني أشعر بالعطش فكان الرد بأن أشرب من المرحاض”.
بعد وصول المعتقلين إلى ولاية كيليس جرى إجبارهم على التوقيع وترك بصمتهم على أوراق العودة الطوعية
في الساعة الثالثة سُمح لهم بشراء الطعام لتناوله، مع وجود أشخاص لا يحملون النقود بسبب الاحتجاز المفاجئ، وفي الصباح تمَّ نقل المحتجزين إلى منطقة توزلا الواقعة بالقسم الآسيوي من إسطنبول، والتي يتم وضع الشباب المعتقلين فيها ريثما يتمّ نقلهم إلى ولاية كيليس لترحيلهم إلى سوريا.
تمَّ جمع المعتقلين في ملعب كبير ووضعهم تحت أشعة الشمس، مع إمعان في الإذلال والضرب والشتم ومنع المحتجزين من أبسط حقوقهم من دخول الحمام وتناول الطعام والشراب، حيث يصف مصطفى المشهد: “تمَّ التعامل معنا وكأننا قطيع من الدواب”.
في صباح اليوم التالي تمَّ وضع المحتجزين في الحافلات، مع إعطاء التطمينات بأن الترحيل سيكون إلى الولايات التركية، كما تمَّ تقييد الشباب في الحافلات بحسب قول مصطفى: “صرخ أحدهم في وجهنا بالعربية وشتمنا وقال لنا اذهبوا عند الأسد، هناك الماء والكهرباء والبيوت بالمجّان، ما الذي تفعلونه هنا؟”.
بعد وصول المعتقلين إلى ولاية كيليس تمَّ إجبارهم على التوقيع وترك بصمتهم على أوراق العودة الطوعية، ويقول مصطفى: “لم أناقش كثيرًا، بصمت بسرعة لأن مصيري سيكون الركل والضرب كما حدث مع الذين جادلوا قبلي”.
تمَّ نقل مصطفى والمحتجزين إلى سوريا، وباتَ ليلته الأولى في الشارع، ويقول: “لا أعرف أحدًا هنا، جاء أهل الخير ووضعوني في مكان عملهم للبقاء ريثما أجد طريقي”.
بحيرة وغصة ختمَ مصطفى كلامه: “أين أذهب الآن؟ كيف أحضر أغراضي وأوراقي الشخصية؟ الأشخاص الذين يتم ترحيلهم يعيشون الدمار مرة أخرى، ويجلسون في الخيمة ريثما يُعاد النظر في حالهم”.
“ماما مرضانة تعال خدها إلى الدكتور”، تخاطب ابنة مصطفى التي لم تكمل 3 سنوات والدَها، في حين تُرك اللاجئون المرحَّلون لمرارة الانتظار، تعيش أسرهم في تركيا على أمل عودة ربّ الأسرة، إذ لا معيل لهم غيره.
وتقول أم محمد، التي اكتفت بهذا القدر في التعريف عن نفسها: “فقدت منزلي، أعيش على مساعدات أهل الخير، ولا أعرف ماذا أفعل، زوجي تمَّ ترحيله وأنا هنا لوحدي”.
وضعٌ قانوني معقّد
يعدّ غياب التوصيف القانوني الحقيقي للإنسان السوري، وغياب مسمّى لاجئ، من أهم أسباب الوضع القانوني المعقّد للسوري، لأنه يُعتبر تحت مسمّى الضيف والمُحتَمي بحسب قول الناشط في قضايا حقوق اللاجئين طه الغازي، وهذا الغياب يخلق مشكلة في تعامل المؤسسات التركية وتحديدًا رئاسة الهجرة مع اللاجئ السوري.
بالإضافة إلى غياب الدور الفاعل للمؤسسات والهيئات السورية في القضية السورية، فبعد 10 سنوات بات الإنسان السوري يحتاج إلى دعم اجتماعي قانوني ووظيفي بعيدًا عن مفهوم السلة الغذائية، وهذا ما دعّمَ حالة اللااستقرار في حياة السوري داخل تركيا بحسب الغازي.
فقد تعرّض شاب سوري في أضنة (رفض التصريح عن اسمه) للترحيل المجحف، ولم يكن له يد فيما جرى سوى أن مشكلة حدثت أمام باب بيته، ويقول: “عندما راجعَت الشرطة كاميرات المراقبة خلال التحقيق في المشكلة رأت سيارتي، وتوجّهوا إلى منزلي وطلبوا التحقيق معي، فتوجّهت معهم إلى المركز، ليتمّ تحويلي إلى إدارة الهجرة، ومن هناك بدأت رحلة الترحيل المليئة بالإهانات”.
باتت مراجعة مراكز الشرطة والتحويل إلى إدارة الهجرة إنذار خطر يعقبه عودة طوعية إلى سوريا، رغم عدم شرعية هذه الإجراءات واعتبارها انتهاكًا صارخًا لحقوق اللاجئين، لأنه ينافي نظام الحماية المؤقتة الذي أقرّته الحكومة التركية عام 2013، ويتعارض أيضًا مع اتفاقية جنيف لعام 1951، الذي وقّعت عليه الحكومة التركية مع الأمم المتحدة فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان وحقوق اللاجئين.
وتنص المادة 33 على أنه “لا يجوز لأي دولة متعاقدة أن تسمح لأي لاجئ بدخول أي إقليم تتعرض فيه حياته أو حريته للتهديد بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه لمجموعة اجتماعية أو رأي سياسي معيّن، أيًّا كان ما لن يعود أو يُرد بأي شكل من الأشكال”.
ويكمل الغازي أن غياب توصيف اللاجئ الدولي للإنسان السوري يعود إلى الشرط الجغرافي الذي وضعته تركيا خلال توقيعها لاتفاقية حقوق الإنسان واللاجئين عام 1951، فحقّ اللجوء يُمنح للأشخاص القادمين من أوروبا إلى تركيا فقط، والأمر لا يتعلق بالسوريين، فتركيا ما زالت قائمة على شرط التحديد الجغرافي في تعاملها مع حالة اللجوء عمومًا.
بدوره، يؤكّد المحامي رامي عزم الكسم أن هذا الترحيل يعدّ تعسفيًّا، ويخالف قانون الحماية المؤقتة الذي نصَّ على منع ترحيل كل من يتمتّع بالحماية المؤقتة ما لم يخالف شروط نزعها، كالتنازل عن الحماية أو تهديد أمن الدولة.
ويوضِّح الكسم أنه عند ترحيل أي شخص تحت الحماية المؤقتة من قِبل الشرطة، يجب أخذ قرار من القضاء الإداري بإبطال قرار الترحيل لأنه يُعتبر مخالفًا للقانون.
و”لتفادي الترحيل عند الاحتجاز، من المهم عدم التوقيع على ورقة العودة الطوعية، وتوكيل محامٍ لرفع الدعوى اللازمة لإبطال قرار الترحيل”، يقول الكسم.
مضاعفات انعدام الاستقرار على النَّفْس والواقع
يقع اللاجئ السوري في حيرة من أمره وهو يراقب تعقيد المشهد من أمامه، حيث توجّه زكريا، شاب سوري “تحت الحماية المؤقتة”، إلى إسطنبول من ولاية أخرى للعمل، وحاولَ مرات عديدة استخراج إذن عمل ولم يستطع، يقول: “عملت في منطقة سياحية وكان كل شيء بخير حتى اللحظة التي بدأت فيها حملات الترحيل للسوريين المخالفين عام 2019، قررت التوجه إلى البحر للوصول إلى اليونان، لم تكن الفكرة في رأسي، ولكن كل هذا التعقيد دفعني للهجرة”.
لم يصل زكريا إلى اليونان، إذ جرى إلقاء القبض عليه وإعادته إلى تركيا ليوقّع على ورقة عودته الطوعية إلى سوريا.
تبدأ مشاكل اللااستقرار بالتأثير على حياة اللاجئ كفرد لتّتسع الدائرة وتنعكس على الأسرة ومن ثم المجتمع، حيث تقول المختصة النفسية آلاء زينو إن فقدان الاستقرار يُفقد الشغف والمعنى، ووجود سبب خارجي يتحكم في مصير اللاجئ يعيقه عن الاستمرارية والمحاولة.
ويعيش اللاجئ شعور الغضب والعجز، ويردد: “أين كنت وكيف وصلت إلى هذا الحال؟”، بحسب زينو، ويعدّ غياب الدعم الاجتماعي وغياب المرونة النفسية لدى اللاجئ من أهم الأسباب التي تزيد من حدّة المشكلة.
ومن المضاعفات الخطيرة لانعدام الاستقرار ظهور أعراض الاكتئاب التي قد تصل إلى الاكتئاب المرضي الذي يحتاج تدخُّلًا علاجيًّا، بالإضافة إلى حالة الهروب التي قد يعيشها اللاجئ كما وصفتها زينو، كقرار الزواج خارج تركيا أو إيقاف الدراسة بسبب التنمُّر، وصولًا إلى تعاطي المخدرات.
تضيف زينو أن أشكال الدعم الاجتماعي والانخراط في أعمال إيجابية من أهم الوسائل التي تساعد على تجاوز مشاعر الشتات، وتعطي الشعور بالإنجاز والرضا، وتقبُّل حالة اللجوء بعيدًا عن رفض الواقع والهروب منه والعمل بالمتاح يُعتبر المفتاح الرئيسي للعيش بحالة أكثر صحية.
وبين قوانين غير واضحة وقرارات مجحفة وانعدام الاستقرار، يعيش اللاجئ السوري المرحَّل قسريًّا مع ظروف معيشية صعبة، منتظرًا حلولًا جذرية تنصفه وتغيِّر واقعه، تعيده لأهله وتمنحه حق العيش الكريم.