لا تملّ تركيا الحديث عن عزمها السيطرة على منطقتَي تل رفعت ومنبج التابعتَين لريف حلب، في إطار عملياتها العسكرية المستمرة في سوريا منذ عام 2016، فعند كل معركة يبدأها الجيش التركي داخل الحدود السورية، تكون هاتان المدينتان ضمن لائحة الأهداف المرسومة، لكن المخططات التركية تصطدم بوقائع التفاهُمات الدولية وتوازنات الفاعلين في هذه القضية، وذلك نتيجة للأهمية الجيوسياسية للمدينتَين.
تقرع تركيا اليوم طبول الحرب من جديد في سوريا من أجل استكمال تنفيذ مخططها للمنطقة الآمنة، حيث أعلنَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكثر من مناسبة خلال الأيام الماضية، أن بلاده حزمت أمرها وستتّخذ تدابير عسكرية لـ”حماية أمنها القومي من الهجمات التي تطال تركيا من المناطق التي تسيطر عليها التنظيمات الإرهابية متمثلة بالوحدات الكردية”.
وأوضح أردوغان في خطاب له: “سنستكمل الحزام الأمني البالغ عمقه 30 كيلومترًا، والذي نعمل على إقامته خطوة بخطوة على طول حدودنا مع سوريا، في أسرع وقت ممكن”.
وأشار الرئيس التركي، في معرض حديثه عن التواصل مع واشنطن بخصوص العملية المحتملة، إلى أنه “إذا كانت الولايات المتحدة لا تقوم بما يترتّب عليها في مكافحة الإرهاب فماذا سنفعل؟ سنتدبّر أمرنا، فلا يمكن محاربة الإرهاب عبر أخذ إذن من أحد”.
صحيح أن المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا تشهد تسخينًا متصاعدًا تحسُّبًا لساعة الصفر، إلا أن هناك مسارًا سياسيًّا مفتوحًا على مصراعَيه بين الأطراف الفاعلة في الشأن السوري خاصة تركيا وأمريكا وروسيا، وهنا تبرز نقاط الاختلاف مع تركيا على مستقبل منطقتَي منبج وتل رفعت، إذ إن هاتين المدينتَين تشهدان منذ سنوات حالة من تبدُّل السلطات الحاكمة، انتهت في الأخير إلى الوحدات الكردية المتمثلة بقوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تتحالف مع الأمريكان والروس على السواء.
أهداف مهمة
أوردت الصحف التركية أخبارًا عن أهداف العملية العسكرية المقبلة في سوريا، فبالإضافة إلى مدينتَي عين عيسى وعين العرب (كوباني)، تعتزم تركيا السيطرة على منطقتَي تل رفعت ومنبج، واعتبرت صحيفة “يني شفق” التركية أن مدينة تل رفعت ستكون الهدف الأهم في العملية، حيث “يستخدمها حزب العمال الكردستاني كقاعدة لعملياته”، وأوضحت الصحيفة أن المدينة “تُعتبر مركز انطلاق الهجمات على المناطق الآمنة عفرين وأعزاز وجرابلس، ويتمّ تصنيع عربات مفخَّخة وعبوات ناسفة بها”.
كما تُعتبر منبج هدفًا مهمًّا لتركيا وذلك لعدّة اعتبارات، أهمها أن هذه المنطقة تُعتبر خزانًا بشريًّا مهمًّا لدى الوحدات الكردية، وتتمّ فيه عمليات التجنيد القسري من قبل هذه الوحدات، بالإضافة إلى أن الإدارة الكردية الذاتية تعتبر منبج مركزًا من مراكزها الأساسية، حيث تعمل على تطوير وجودها في المدينة يومًا بعد آخر.
وهنا لا بدَّ من التوقف عند أهمية المنطقتَين بالنسبة إلى كافة الأطراف، وبالخصوص تركيا التي تعمل ما أمكن للسيطرة عليهما منذ سنوات دون جدوى، ففي أكثر من مرة حاولت تركيا البدء بمعركة للسيطرة على هذه المناطق، إلا أن القوات الكردية تعمل على تحالفات تمنع أنقرة من الاستمرار بمخططها، حيث عملت “قسد” على الاستعانة بقوات النظام السوري وروسيا، ورفعت أعلامهما أكثر من مرة لإبعاد شبح الهجوم التركي عنها.
تُعتبر مدينة منبج ذات أهمية استراتيجية إذ إنها تمثل رابطًا اقتصاديًّا بين مدينة حلب وطرفَي نهر الفرات الشرقي والغربي، وتُعتبر المدينة بالنسبة إلى الوحدات الكردية الشريان الاقتصادي بسبب نشاط الحركة التجارية بين مدينة حلب والمحافظات الشرقية، مثل الحسكة ودير الزور، وقد حاولت تركيا إطلاق عملية عسكرية اتجاه منبج نهاية عام 2019 لكن بعض الاتفاقيات والتفاهمات بين روسيا وتركيا أوقفت المعركة، إلا أن التصريحات التركية ظلت تلمّح إلى إمكانية استكمال المعركة في أي وقت.
أما تل رفعت، المدينة الأهم بالنسبة إلى تركيا الآن، فقد سيطرت عليها الوحدات الكردية عام 2016 بغطاء جوّي روسي، وبعد المعركة قامت الميليشيات الكردية بعملية تهجير تُعتبر من كبرى عمليات التهجير القسري، حيث دفعت الغالبية العظمى من سكان المنطقة العرب إلى الرحيل عنها، وجلب مجموعات من الأكراد للسكن في المنطقة، ويقدَّر عدد السكان الذين نزحوا من تل رفعت وما حولها إبّان احتلالها بـ 250 ألف نسمة، وتلعب تركيا على وتر إعادة المهجَّرين من هذه المنطقة من خلال السيطرة عليها.
حيث يطالب أهالي تل رفعت على الدوام بتحرير بلدهم من الميليشيات الكردية، ويُذكر أن قسمًا من أهالي المدينة متواجدون في تركيا وقسمًا آخر في مخيمات المناطق التي تسيطر عليها المعارضة ويعانون من ظروف معيشية سيّئة، وفي حال سيطرة تركيا على المدينة تكون قد عملت على تنفيذ جزء من خطتها الرامية إلى إعادة مليون لاجئ سوري من تركيا إلى بلادهم.
وفي تفصيل أهمية هذه المناطق وبالخصوص لتركيا، يقول الصحفي السوري زين العابدين العكيدي إن “تل رفعت تحظى بأهمية كبيرة رغم صغر حجمها، إلا أنها اليوم تشكّل هاجسًا أمنيًّا لتركيا ومصدر قلق متواصل، كونها المكان الأكثر تهديدًا للمناطق المحررة في الشمال الغربي، حيث إن غالبية عمليات القصف التي تقوم بها وحدات PYD للمناطق المحررة تنطلق منها، وهو ما يحوّل هذه المناطق إلى غير آمنة، في وقت تتحدث فيه تركيا عن إعادة مليون سوري للداخل بوصفها مناطق آمنة”.
الباحث في مركز الحوار السوري، محمد سالم، مدير وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري، يرى أن أهمية المنطقتَين تأتي من “قربهما من مناطق النفوذ التركي، وبالتالي تهديد أمن تلك المناطق باستمرار من قبل “قسد”، وهو ما استغلته كل من “قسد” وروسيا لإرسال رسائل نارية لتركيا كل فترة، من خلال قصف مناطق النفوذ التركي واستهدافها وإظهار الهشاشة الأمنية لمناطق النفوذ التركي، ما يعرِّض للخطر فكرة المنطقة الآمنة التي تسعى تركيا لها”.
ويضيف سالم أن مدينة منبج لها “أهمية رمزية خاصة، باعتبارها أول منطقة عبرت إليها قوات “قسد” من شرق الفرات إلى غربه، وهو ما اعتبرته تركيا تجاوزًا كبيرًا وقتها في العام 2016″.
سيطرة مؤجَّلة
وبعد كل المحاولات لم تفلح تركيا بالسيطرة على المنطقتَين لعدّة أسباب، يفنّدها لنا الباحث ومدير مركز إدراك للدراسات والاستشارات باسل حفار، الذي يعتبر أن ملفَّي المدينتَين منفصلَين بالنسبة إلى الأطراف الفاعلة في البلاد، ويقول: “بالنسبة إلى مدينة تل رفعت لم تحصل السيطرة عليها، وذلك لتواجد نوع من الإشراف الروسي الرسمي، بالإضافة إلى وجود اتفاقيات سياسية تضبط حالة الاشتباك بين الأطراف”.
ويرى حفار أن “أي تقدُّم للجيش الوطني السوري مدعومًا من تركيا باتجاه هذه المنطقة سيعني اشتباكًا مع الروس أو خرقًا لاتفاقيات ليست هيّنة”، ومن أجل ذلك أحجمت تركيا خلال الفترة الماضية عن الاشتباك في هذه المناطق، لكن في ظلّ الانسحاب الروسي من بعض المواقع في سوريا حاليًّا، “ستكون تل رفعت وما حولها مناطق غير ذات حصانة، وأصبح هناك فرصة للمواجهة وللسيطرة عليها من قبل المعارضة السورية بإشراف تركي”.
أما بالنسبة إلى منبج، فإن هذه المنطقة تقع تحت سيطرة “قسد” بالإضافة إلى تواجُدٍ للقوات الأمريكية فيها، ويرى الباحث حفار أن “مشكلة منبج هي أنها منطقة كبيرة يقدَّر عدد الموجودين فيها بأكثر من 400 ألف شخص، وبالتالي أي طرف سيضمّ منبج إلى سلطته سيكون مسؤولًا عن هذا العدد الكبير من السكان في ظل أزمات اقتصادية ومعيشية كبيرة يعاني منها السكان هناك، من أجل ذلك بقيت المنطقة على وضعها الحالي منذ فترة طويلة، إضافة إلى وجود اتفاقيات سياسية حول قواعد الاشتباك لا تسمح بحصول معارك في محيط المنطقة”.
ويشير حفار إلى أنه تمَّ تحييد منبج عن الصراع بشكل مباشر وعدم تحويلها إلى منصة للانطلاق أو الاشتباك مع أي طرف، وهذا الأمر ساعدَ في استقرار الشؤون الإدارية للمنطقة، ولذلك تُعتبر منبج واحدة من المناطق التي تتمتّع ببنية إدارية متبلورة أكثر من غيرها.
بدوره، يقول الصحفي زين العابدين العكيدي لـ”نون بوست” إن “اسم تل رفعت يتصدّر دومًا مع كل تهديد تركي بشنّ عملية عسكرية ضد “قسد”، لكن وكما يبدو جليًّا فإن المنطقة تحظى بوضع خاص مع منبج وهو ما يمنع تركيا من السيطرة عليها، حيث تُشرف روسيا على تل رفعت رغم وجود عناصر من وحدات PYD، وخضعت المدينة لاتّفاق روسي-تركي سابق، وغالبًا ستكون خارج الحسابات التركية”
اهتمام دولي
ويذهب الصحفي السوري إلى أن المدينة “تحظى باهتمام روسي منقطع النظير، فهي تطلُّ على مطار منغ العسكري الخاضع للوجود الروسي ووحدات PYD، إضافة إلى كونها تشكّل معبرًا مهمًّا بين منطقتَي عفرين وريف حلب الشمالي، وتعتبر السيطرة على تل رفعت المطلب الأهم لـ 200 ألف سوري من سكانها من الذين تهجّروا بعد سيطرة وحدات PYD والروس والنظام عليها.
مردفًا: “يتواجد في تل رفعت اليوم كذلك قوات الحرس الثوري الإيراني، ما يجعلها خارج حسابات تركيا، رغم التهديدات التركية المتواصلة”، ويستبعد العكيدي أن تكون تل رفعت “هدفاً لتركيا مستقبلًا في حال حصلت عملية عسكرية تركية، لأن المدينة هامة للروس جدًّا”.
ويكمل العكيدي الحديث عن مدينة منبج بقوله: “لا تختلف منبج كثيرًا عن تل رفعت، فهي تُعتبر المنطقة الأكثر استراتيجية لمختلف الأطراف، ويبدو أن الموقف الأمريكي هو السبب الذي يمنع تركيا من السيطرة عليها، ورغم قلة التواجد الأمريكي فيها وندرته هذه الأيام مقارنة بالماضي، إلا أنه لا رغبة جدّية للولايات المتحدة بتغيير الوضع الراهن في عموم البلاد، وبالذات منطقة مهمة وكبيرة كمنبج”.
ومن جهة ثانية، يرى العكيدي أن “هناك مطامع للنظام والروس بالسيطرة عليها كذلك، ولن يسمح الروس بأن تكون منبج بيد المعارضة، لذلك حاولوا في السنوات الماضية تثبيت موطئ قدم لهم، وهو ما حصل حيث كانوا يستغلون التهديدات التركية ضد “قسد” في كل مرة، وهو ما يدفع الأخيرة للتقرُّب منهم، وهذا ما تجلّى وتمخّض عن تواجد الروس اليوم في منبج في قاعدة السعدية بريف منبج، ومن خلال الدوريات الروسية التي أصبحت تجوب منبج وباقي مناطق سيطرة “قسد” بشكل روتيني”.
يؤكد الباحث محمد سالم ما سبق من كلام بقوله إن تأخُّر السيطرة على هذه المناطق يأتي بسبب الخلافات الدولية عليها، ويرى أن “السبب واضح، وهو أن هاتين المدينتَين تقبعان تحت سيطرة “قسد” بدعم من روسيا، وجزئيًّا من الولايات المتحدة في منبج، وليس من الصعب على تركيا اقتلاع “قسد” من أي منطقة لو كانت دون تغطية من نفوذ إحدى الدولتَين، ولكن عندما يكون هناك نفوذ لدولة عظمى كروسيا أو الولايات المتحدة، فهذا يعني احتمالات لوجود توتُّر كبير مع تلك أو احتكاكات عسكرية مع قواعد الدولة المعنية أو جنودها”.
وتحتاج تركيا بحسب محمد السالم إلى أن “يحدث في هاتين المدينتَين ما حدث في عفرين سابقًا، عندما انسحبت الوحدات الروسية منها وأعلنت روسيا حيادها وتركت “قسد” لمصيرها في مواجهة الجيش التركي وفصائل المعارضة”.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، يشير سالم إلى أن “السيناريوهات مفتوحة على عدة احتمالات، والسيناريو الأرجح هو سيناريو مقارب لما حدث في عفرين أو بعد الانسحاب الأمريكي الجزئي عام 2019، في الحالتَين تمَّ رفع الغطاء الدولي عن “قسد”، ما أدّى إلى تقدُّم فصائل المعارضة المدعومة من تركيا بدرجات مختلفة رغم مقاومة “قسد”، ويبدو أن تركيا سوف تستمر في التريُّث ريثما تحصل على صفقة تتخلّى بموجبها روسيا بالدرجة الأولى والولايات المتحدة ثانيًّا عن تغطية “قسد” في تلك المناطق”.
والخلاصة؛ أن تركيا لن تستطيع السيطرة على منبج وتل رفعت دون توافق بين الأطراف الفاعلة في الشأن السوري، وبالخصوص أمريكا وروسيا، وفي حال لم يتمَّ التوافق فلن تستطيع أنقرة التحرك بسهولة، خاصة مع ضيق الهوامش المتاحة لها في المنطقة.