تحث تركيا الخطى من أجل إتمام عمليتها العسكرية الخامسة داخل الحدود السورية، فقد بدأت أنقرة الترويح لعمليتها وأهدافها في الأوساط الدولية وذلك في إطار سعيها السياسي لتحصيل المكاسب دون الدخول في حرب جديدة، لكن الأطراف الدولية الفاعلة في سوريا والمنخرطة في الصراع هناك ما زالت غير راضية عن الطروحات التركية، وهذا الأمر ليس جديدًا، فهذه الدول رفضت التحركات التركية خلال العمليات الأربعة السابقة.
في تقارير سابقة لـ“نون بوست”، تحدثنا عن أهمية العملية لتركيا بالإضافة إلى الأهداف المحتملة وكيف ستعمل تركيا على تجنب الأخطاء السابقة، وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد قال إن بلاده “ستستكمل الحزام الأمني البالغ عمقه 30 كيلومترًا، الذي نعمل على إقامته خطوة بخطوة على طول حدودنا مع سوريا، في أسرع وقت ممكن”، مشيرًا إلى أن جيش بلاده سيعمل على “تطهير منطقتي تل رفعت ومنبج من الإرهابيين”.
وفي أحدث التصريحات، قال الرئيس التركي إن بلاده “تواصل بعناية الأعمال المتعلقة باستكمال الخط الأمني على حدودها الجنوبية عبر عمليات جديدة”، وأضاف أردوغان “مزقنا الممر الإرهابي المراد تشكيله على حدودنا الجنوبية من خلال عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام ودرع الربيع في سوريا والمخلب القفل في العراق”.
في هذا التقرير نتحدث عن التطورات التي تجري بالتزامن مع التحضيرات للعملية التركية الخامسة في سوريا على عدّة أصعدة، دوليًا ومحليًا وفي الداخل السوري.
بدايةً لا بد من الإشارة إلى أن الصحف التركية حددت أهداف العملية التركية القادمة، وتتمثل بالسيطرة على مدن تل رفعت ومنبج بشكل أساسي وعين العرب “كوباني” إضافة إلى مدينة عين عيسى، وكل هذه المناطق واقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بالإضافة إلى انتشار عناصر “بي كي كي” العدو الأبرز لتركيا، ومع ذلك تتمتع هذه المناطق بوجود روسي وأمريكي في بعض النقاط، وكل ذلك بحسب التفاهمات بين الوحدات الكردية والأطراف الأخرى.
قلق روسي
في ظل الإصرار التركي على تنفيذ العملية وتحقيق أهدافها التي ذكرناها آنفًا، بدأت الدول المعنية بالشأن السوري تعبّر عن مخاوفها من التحركات التركية، إذ أعربت وزارة الخارجية الروسية عن انزعاجها من العملية العسكرية التركية، مشيرة إلى أن روسيا “تأمل في امتناع أنقرة عن أفعال قد تؤدي إلى تدهور الأوضاع في سوريا”.
وأضافت الخارجية الروسية “في الوقت نفسه، نتفهم مخاوف تركيا فيما يتعلق بالتهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي من المناطق الحدودية السورية، نعتقد أنه لا يمكن ضمان الأمن الموثوق به على الحدود السورية التركية إلا من خلال نشر عسكريين سوريين من قوات النظام السوري في المنطقة المتاخمة لها”، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إن بلادها تأمل في أن تحجم تركيا عن اتخاذ خطوات يمكن أن تؤدي إلى تدهور خطير للوضع الصعب أصلًا في سوريا.
سبق هذا البيان، تصريحات لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف شدد من خلالها على رغبة بلاده باستمرار “وضع التهدئة الحاليّ”، فيما أقرّ بالمخاوف التركية على الأمن، ووجه لافروف خطابة إلى الوحدات الكردية بالتخلي عن “أوهام الحماية الأمريكية وانتهاج سياسة براغماتية تحقق مصالحهم عبر تنشيط قنوات الحوار مع النظام السوري في دمشق”.
مما سبق، فإن روسيا الغارقة في وحل الحرب في أوكرانيا، لا تريد لتوتر جديد غير محسوب أن ينفجر في سوريا، حيث تعتبر الفاعل الأكبر في البلاد، لكنها حاليًّا منشغلة بما هو أهم على حدودها، وتحاول تهدئة الأوضاع لتثبيت الخريطة السورية على ما هي عليه ريثما تتفرغ لها، كما أن أنقرة ليست بوارد إزعاج موسكو الحليف الأبرز لها في سوريا خلال السنوات الماضية.
لكن روسيا أيضًا لن تسمح لتركيا بالتحرك لاستغلال الغياب الروسي الجزئي نتيجة للحرب الأوكرانية، فبدأت قوات موسكو في سوريا بالعمل على إعادة تموضعها في بعض النقاط، حيث نشرت روسيا منظومات دفاع جوي متوسطة المدى من طراز بانتسير – إس 1 في مطار القامشلي بريف الحسكة، في خطوة تهدف إلى إغلاق الأجواء أمام الطائرات المسيرة التركية، كما عززت روسيا من قدراتها الجوية في قاعدة القامشلي، باستقدام 6 طائرات مروحية حربية مطلع يونيو/حزيران الحاليّ، بعضها كانت رابضة في مطار الطبقة العسكري، وفقًا لما جاء في تليفزيون سوريا.
وفي هذا السياق يقول الباحث السوري فراس فحام في مقالة له: “تخلي روسيا عن نفوذها في شمالي وشرقي سوريا لصالح تركيا، سيفقدها ورقة ضغط مهمة على الجانب التركي، توفر لها القدرة على دفع أنقرة لمراعاة المصالح الروسية في ظل التوتر مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي”، مشيرًا إلى أنه “من غير المتوقع أن تتنازل روسيا عن هذه الورقة من دون ضمانات حقيقية للموقف التركي حيال مساعي الولايات المتحدة الأمريكية الهادفة إلى توسيع حلف شمال الأطلسي وضم دول جديدة متاخمة لروسيا، بالإضافة إلى ضمان استمرار نهج تركيا الأقرب إلى الحيادي من العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة على موسكو أخيرًا”.
واشنطن ترفض
أما واشنطن التي تعتبرها تركيا الممول الأبرز للميليشيات الكردية، قالت إنها تعارض العملية العسكرية التركية القادمة، ودعت واشنطن على لسان وزير خارجيتها أنطوني بلينكن إلى “الالتزام بوقف إطلاق النار الذي وضع عام 2019″، محذرًا من عواقب العملية العسكرية التي تعتزم شنها في شمالي سوريا، معتبرًا أنها “قد تعرّض المنطقة للخطر”.
بدورها أكدت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، معارضة واشنطن للعملية العسكرية التركية، وقالت: “تواصلنا مع الحكومة التركية. أشرنا إلى معارضتنا لأي قرار بالقيام بعمل عسكري على الجانب السوري من الحدود. نعتقد أنه لا ينبغي فعل أي شيء يمثل خرقًا لخطوط وقف إطلاق النار القائمة بالفعل”.
مشيرة إلى أن “أي عمل من هذا القبيل لن يؤدي فقط إلى زيادة المعاناة، لكن سيؤدي أيضًا إلى زيادة عدد النازحين، بما في ذلك محاولات البعض عبور الحدود إلى تركيا”.
يذكر أن الرئيس التركي أردوغان، وجه كلمة إلى واشنطن بخصوص العملية العسكرية التركية، حيث قال: “إذا كانت الولايات المتحدة لا تقوم بما يترتّب عليها في مكافحة الإرهاب فماذا سنفعل؟ سنتدبر أمرنا، فلا يمكن محاربة الإرهاب عبر أخذ إذن من أحد”.
بدوره أبلغ نائب وزير الخارجية التركي سادات أونال، مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد، أن بلاده “مصممة على اتخاذ التدابير اللازمة ضد التنظيمات الإرهابية التي تهدد أمنها القومي في سوريا”، وقال أونال في اتصال مع جرينفيلد: “تنظيم بي كي كي يشكّل تهديدًا وجوديًا ليس فقط لوحدة أراضي سوريا، بل أيضًا على الأمن القومي التركي”، مشددًا على أن “بنود الاتفاقيات التي توصلت إليها تركيا مع الولايات المتحدة والاتحاد الروسي في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2019 لم يتم الوفاء بها حتى اليوم”.
“قسد” تحذر
في مدينة تل رفعت السورية وهي الهدف الأبرز للقوات التركية وقوات المعارضة السورية في المرحلة القادمة، بدأت قوات الميليشيات الكردية بالتحرك والتجهز للهجوم المحتمل، فقالت مصادر متعددة إن التنظيمات الكردية المتمركزة في منطقة تل رفعت السورية، قامت بزراعة ألغام على مداخل ومخارج مركز المدينة، ووفقًا لما نشرته وكالة “الأناضول” فإن “مسلحي الميليشيات كثفوا مؤخرًا أنشطة التلغيم والتفخيخ في مركز المنطقة، لإبطاء العملية التركية المحتملة لمكافحة الإرهاب عبر زرع ألغام مضادة للدبابات والأفراد عند مداخل الطرق المؤدية إلى مركز تل رفعت”.
بدوره قال مظلوم عبدي قائد “قوات سوريا الديمقراطية” وأحد أهم المطلوبين على لوائح الإرهاب التركية، إن قواته مستعدة لمواجهة الجيش التركي، وأشار عبدي: “لسنا من مناصري الحرب، لكن! إذا ما تعرضنا للهجوم، فسنعلنها حربًا ومقاومة تاريخية”.
مضيفًا “أي هجوم جديد سيجلب معه موجات نزوح كبيرة من المنطقة المستهدفة، وأي هجوم جديد ستخرج معه المخيمات التي تؤوي أسر مرتزقة داعش عن السيطرة، وأنه في حال حدوث الهجوم التركي ستكون هناك فوضى كبيرة داخل سوريا والدول المجاورة”، مؤكدًا أن “المستفيدين من الهجوم التركي على المنطقة هم عناصر تنظيم داعش، وهذا الهجوم سيقوض التصدي لهجمات التنظيم”.
مناورات الجيش الوطني
على الجانب الآخر تستعد قوات المعارضة السورية للانخراط في العملية الجديدة مثلما حصل في العمليات السابقة، حيث يعتبر المقاتلون السوريون عماد العمليات والهجوم تحت تغطية نارية من الجيش التركي، وقد أجرت فصائل منخرطة بالجيش الوطني السوري المعارض، مناورات عسكرية ضخمة، لرفع الجاهزية القتالية في مناطق “درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام” المتاخمة لخطوط التماس مع الميليشيات الكردية.
وأكد الفاروق أبو بكر، عضو مجلس قيادة “هيئة ثائرون للتحرير” خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن “الجيش الوطني سيكون عماد العمليات العسكرية القادمة وكما شاهدنا سابقًا كانت الفصائل السورية أساس عمليات نبع السلام ودرع الفرات وغصن الزيتون وسيثبت الجيش الوطني في المعركة القادمة جهوزيته من أجل تحرير المناطق الجديدة المحتلة من ميليشيات النظام السوري وقسد”، وأوضح أبو بكر أن “الهدف حاليًّا هي مناطق منبج وتل رفعت”.
ورفض أبو بكر الإفصاح عن أي معلومات أخرى بخصوص المعركة، في إشارة إلى أن الخطة باتت مرسومة لكن غير مصرّح لأحد بالحديث عنها حاليًّا، ويرى أبو بكر أن “المعركة باتت قريبة لأن كل التحضيرات العسكرية باتت جاهزة والجيش الوطني أنهى تدريباته ومناوراته ورفع تقاريره إلى وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة التي تشير إلى الجهوزية الكاملة للانخراط بالمعركة”.
ورد أبو بكر على الإشاعات التي تم تداولها مؤخرًا عن أن تركيا أجلت المعركة لأجل غير معلوم، قائلًا: “بالأصل لم يحدد تاريخ انطلاق حتى يتم تأجيل هذا الميعاد”، وأشار أبو بكر إلى أن “فصائل الجيش الوطني عملت قبل أشهر على إخضاع مقاتليها لدورات وتدريبات وتجهيزات عسكرية، ورفع لياقة وتحضير لأي عمل عسكري مستقبلي”.
وكان موقع “العربي الجديد” قد نقل عن مصدر في الجيش الوطني السوري أن “الجانب التركي أبلغ قادة الفصائل بتأجيل العملية العسكرية إلى أجل لم يحدد بعد” وبحسب الموقع فإن التأجيل “جاء فجأة بعد تحديد مسار العملية ومراحلها خلال اجتماع جرى قبل يوم من التأجيل للعملية التي من المفترض أن تصل في مرحلتها الأولى منطقة درع الفرات في ريف حلب الشمالي جغرافيًا بمنطقة نبع السلام في شرق الفرات”.
بالمحصلة، فإن الضغوطات السياسية والدولية تصعب الطريق على أنقرة في سوريا حاليًّا، لكن تركيا عاشت هذا الواقع قبل خوضها عملياتها العسكرية الأربعة في سوريا مسبقًا، وفي حال لم تحصل على ما تريده سياسيًا فإن الجيوش المتأهبة أصبح تحركها وشيكًا لجني ما لم تأت به السياسة.