تواصل تركيا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، استقبال المزيد من قوافل أتراك أهيسكا المقيمين في أوكرانيا، حيث نقلت اللاجئين الجدد إلى أماكن إقامة مؤقتة مخصصة لهم في ولاية إيلازيغ، وبلغ مجموع الأهيسكا على وجه الخصوص أكثر من ألف ومئتي شخص خلال شهر مايو/أيار المنصرم، وتمت عمليات الإجلاء المتسارعة في الفترة الأخيرة بتنسيق من إدارة الكوارث التركية AFAD مع دائرة الهجرة.
وشهد عام 2014 وصول أولى دفعات مهاجري الأهيسكا من أوكرانيا إلى تركيا بتعليمات من الرئيس التركي أردوغان، وذلك بعد تحول المظاهرات في شرق أوكرانيا إلى صراع وتعرض أماكن إقامتهم للنيران، وحينها تمت استضافتهم في ولايتي أرزنجان وبيتليس.
بدأ اهتمام تركيا بأتراك المسخيت في عهد الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال حين سنت سلسلة من القوانين لتسهيل وصولهم إلى تركيا، مثل إعفائهم من الرسوم الجمركية المترتبة على تجارة السلع والبضائع بين تركيا وكازاخستان.
فقد استقبلت مدينة إغدير التركية عام 1992 قرابة 350 عائلة منهم، ومُنح نحو 5 آلاف منهم الجنسية التركية حتى عام 2002، بينما ازداد العدد بشكل كبير بعد ذلك، فقد بلغ مجموع المجنسين من أتراك أهيسكا نحو 100 ألف، حسب تصريحات لوزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو نهاية 2021.
ووفقًا لبيانات وزارة الداخلية التركية، يحمل نحو 19 ألف من أتراك أهيسكا تصاريح إقامة طويلة الأمد، كما لديهم بطاقات إقامة خاصة تعفيهم من دفع الرسوم، إضافة إلى ذلك صرح وزير الخارجية عام 2019 أن تركيا ستمنح الجنسية المزدوجة للمسخيت الذين يحملون الجنسية الأمريكية.
من هم أتراك أهيسكا؟
هم السكان الأصليون الذين عاشوا في منطقة المسخيت منذ مئات السنين كما تشير المصادر التاريخية، إلا أنه يُروج أحيانًا بأنهم عبارة عن مهاجرين وافدين قدموا مع الغزو العثماني للمنطقة، ما يحرمهم من حقهم في موطنهم التاريخي، إذ لم يرد ذكرهم في دراسات التاريخ والإثنوغرافيا التي نُشرت في جورجيا بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تتحدث إلا عن شعب المسخات الجورجيين الذين قيل إنهم أُجبروا على الاندماج في الثقافة التركية واعتناق الإسلام.
خريطة توضح موقع منطقة أهيسكا (الأناضول)
تقع منطقة أهيسكا شمال شرق تركيا على حدود محافظة أرداهان، داخل الأراضي الجورجية، خضعت المنطقة للسيطرة العثمانية عام 1578 واعتنقت معظم القبائل التركية فيها الإسلام.
اشتهرت المنطقة بجمال طبيعتها وغناها، وكانت منازلها كالقلاع، حتى إنها كانت من أهم المدن في الشرق التركي بعد طرابزون وأرضروم، إلى أن جاءت الحرب التركية الروسية واضطرت الإمبراطورية العثمانية عام 1829 للتخلي عنهم للقيصرية الروسية عند توقيع اتفاقية أدرنة، كنوع من تعويضات الحرب.
عانى أتراك المسخيت من الاضطهاد تحت حكم زعيم الاتحاد السوفييتي آنذاك جوزيف ستالين، حيث رفض الاعتراف بهم كقومية مستقلة وأجبرهم على تسجيل أنفسهم كأذربيجانيين، ومنعهم من تعلم اللغة التركية في المدارس ضمن محاولات محو وتغيير هويتهم الوطنية.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية أُرسل نحو 40 ألف من رجال وشباب الأهيسكا للقتال على الجبهة في صفوف الجيش الروسي، وعندما عاد من بقي منهم على قيد الحياة إلى قراهم، وجدوها خاوية على عروشها فلحقوا بعائلاتهم إلى آسيا الوسطى، فيما فقد الكثير منهم أحبتهم إلى الأبد. أما العجائز والنساء فقد جرى تشغيلهم في بناء خط سكة الحديد Ahıska – Borcom الذي سيكون خط تهجيرهم ونفيهم بعيدًا عن وطنهم قريبًا.
مأساتهم التاريخية
في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1944 وقبل 6 أشهر من انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، أصدر ستالين قرارًا بنفي أتراك أهيسكا وبعض المناطق القريبة منها مثل آسبينزا وآهيلكلك وباغدانوفكا، إضافة إلى سكان 220 قرية أخرى إلى قيرغيزيا وكازاخستان وأوزبكستان وأذربيجان وأوكرانيا بعيدًا عن موطنهم الأصلي.
وفي غضون ساعات قليلة، هُجِر نحو 100 ألف شخص من الأتراك والمسلمين خارج ديارهم، وفقد ما يقارب 17 ألف شخص حياتهم بسبب المرض والجوع والبرد خلال الرحلة التي استمرت نحو شهر، كما توفي 30 ألف آخرين في البلاد التي وصلوا إليها نتيجة الأوبئة والجوع والظروف القاسية التي عانوا منها.
كما فُرضت الأحكام العرفية على الأهيسكا على مدار 12 عامًا ومنعوا من الإقامة في المدن وأجبروا على البقاء في الأماكن التي نقلوا إليها، وعُوقب الأشخاص الذين أخلوا بهذه القوانين بالنفي مع أقاربهم إلى سيبيريا مدة 25 عامًا.
بررت إدارة ستالين نفي أتراك أهيسكا بخيانتهم للسوفييت وتعاونهم مع النازيين في الحرب، لكن فيما بعد ومع تفكك الاتحاد السوفييتي كشفت الوثائق أن الهدف الرئيسي من نفي سكان القرم وأتراك أهيسكا هو تطهير منطقة البحر الأسود من الأتراك وتوطين الأرمن في ديارهم. ولعل فيلم “المنفى الكبير في القوقاز” من أهم المصادر التي تروي تفاصيل القصة المأساوية التي عاشها أتراك المسخيت عندما نفاهم ستالين عام 1944.
أحداث وادي فرغانة الدموية
في عام 1989 وبعد نحو 45 عامًا عاشها أتراك أهيسكا جنبًا إلى جنب مع جيرانهم الأوزبك في أوزبكستان محاولين التأقلم مع منفاهم الجديد، تعرض المسخاتيون لهجوم وحشي قتل خلاله المئات من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ.
كانت تلك الأحداث الدموية نتيجة لحملات تشهير بعد سريان دسائس وشائعات تزعم احتقار الأتراك للأوزبك واغتصاب نسائهم، فاشتعل صراع عرقي كان منفيو المسخييت ضحيته، عُرف لاحقًا باسم “أحداث وادي فرغانة“.
رغم اعتناقهم جميعًا – المعتدون والضحايا – الإسلام وانتمائهم للأمة التركية بمعناها الواسع، فإن العنصريين نجحوا في إشعال نار الفتنة بينهم، وهكذا اضطر نحو 100 ألف منهم لمغادرة بيوتهم مرة أخرى والرحيل لمنفاهم الثاني أو الثالث في روسيا وأوكرانيا.
يمثل الصراع في وداي فرغانة نموذجًا مرعبًا لما يمكن أن يتعرض له اللاجئون في حال اشتعال الحرب العرقية، ولذلك لا تزال أحداث وادي فرغانة جرحًا عميقًا في وجدان شعب الأهيسكا ومحل نقاش تاريخي وسياسي، ولا سيما أنه في أوزبكستان لم يكن أيًا من الأتراك أو الأوزبك مدانين أو مسؤولين مباشرين عن العنف الذي وصلت إليه الحال، حيث استضاف الأوزبك جيرانهم لمدة أربعين عامًا، إنما كان المحرضون على العنف والكراهية العرقية والسرقات المنظمة هم المسؤولون عن هذه الكارثة، وبحسب ما تشير إليه بعض المصادر فإن المخابرات السوفيتية متورطة مع الأرمن في إشعال الفتنة بين الأعراق المختلفة في البلاد.
جهود إعادة الأهيسكا إلى ديارهم
لم يكن أتراك أهيسكا محظوظين في مأساتهم بقدر سكان القرم، إذ لم تحظ قضيتهم بالاهتمام والتعاطف العالمي، ففي حين سمحت أوكرانيا بعودة المنفيين إلى شبه جزيرة القرم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ما زالت جورجيا تعرقل الجهود الرامية لإعادة الأهيسكا إلى وطنهم، ففي عام 1999 حصلت جورجيا على عضوية مجلس أوروبا، مقابل عدة شروط من بينها السماح للأتراك المسخاتيين بالعودة إلى ديارهم وتنظيم عملية العودة، وكان من المفترض أن تستكمل إجراءات العودة وفق القانون الأوروبي خلال 12 عامًا، إلا أن آمال المسخيت ظلت معلقة.
والمشكلة الرئيسية تكمن في طرح مشروع القانون المعد عام 2000 شروطًا يرفضها شعب أهيسكا، مثل تخليهم عن هويتهم التركية والاعتراف أنهم جورجيون فقط، إضافة للكثير من المعوقات البيروقراطية التي تشمل حرمانهم من اختيار القرية أو المدينة التي سيعودون إليها، ومع ذلك، يكافح الاتحاد العالمي للأتراك المسخاتيين (DATÜB) – الذي يمثل مظلة جامعة لأتراك المسخيت حول العالم حيث يعمل على تعزيز التضامن فيما بينهم وتقوية روابطهم مع الوطن الأم -، من أجل عودة الأهيسكا لوطنهم في جورجيا، رغم تلك العقبات القانونية.
أماكن توزعهم وظروف حياتهم
يعيش اليوم نحو 20 ألف نسمة في منطقة أهيسكا التاريخية، إلا أن نسبة الأتراك بينهم ضئيلة، بينما يعيش ما يقارب 600 ألف نسمة من شعب أهيسكا بعيدًا عن ديارهم في تركيا وكازاخستان وأذربيجان وروسيا وأوزبكستان وقيرغيزستان وأوكرانيا والولايات المتحدة حسب تقارير المنظمات الدولية.
يشعر الأهيسكا بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية بسبب عدم قبول المجتمعات المستضيفة لهم في أغلب بلاد اللجوء، عدا تركيا التي يطلقون عليها اسم الوطن الأم، وتجمعهم بها رابطة عاطفية قوية.
في روسيا على سبيل المثال، عاش شعب أهيسكا دومًا تحت الضغوط، فلم يحصلوا على بطاقات هوية أو تصاريح عمل، وكانوا عديمي الجنسية لا يمكنهم التنقل أو تسجيل المواليد أو السفر، إذ لم ترغب روسيا أبدًا في بقائهم على أراضيها شأنهم شأن كل العرقيات التي تعتنق الدين الإسلامي وإنما أرادت دومًا إعادتهم – بعد تفكك الاتحاد السوفييتي – إلى جورجيا، التي ظلت تماطل في تسهيل قوانين عودة الشعب المنفي.
مع مرور الوقت، بدأ الرأي العام العالمي بالانتباه لقضية شعب الأهيسكا، وفي عام 2004 دعت الولايات المتحدة لمنح حق اللجوء للأتراك المسخيت، وحينها بدأ المنفى الثالث من روسيا إلى أمريكا، حيث وفرت لهم برامج للاندماج وتعلم اللغة وإيجاد فرص عمل، وفيما بعد بدأوا بالتجمع وإحياء عاداتهم وثقافتهم وتم الاعتراف بهم كأقلية من الدولة.
دعم تركي ملفت
في عام 2020 وفي الذكرى الـ75 لنفي الأهيسكا من وطنهم جورجيا، نظمت رئاسة أتراك المهجر والمجتمعات ذات القربى في مقر رئاسة الجمهورية بأنقرة مراسم لإحياء الذكرى، بمشاركة رئيس الجمهورية أردوغان التقى فيها بما يقارب 3000 من الأهيسكا.
كما تصدر المؤسسات التركية المعنية بشكل دوري دراسات عن جريمة النفي والمجتمع المسخيتي وثقافته وعاداته والظروف التي يعيش فيها الشعب المنفي، بالإضافة إلى إعداد البرامج الوثائقية وجمع شهادات الباقيين على قيد الحياة وتنظيم ندوات عن الشعر والموسيقى والفنون لشعب أهيسكا، من أجل دعم تمسكهم بثقافتهم وزيادة الوعي الدولي بخصوص قضيتهم.
وفي هذا السياق، نظمت هيئة المنح الدراسية التركية (YTB)، زيارة لـ220 قرية في جورجيا للتعرف على الآثار الباقية من الشعب المنفي من مساجد ومنازل ومدارس وقبور وغيرها، مع مراجعة للأرشيف التركي والجورجي، وأتاحت الموارد للأكاديميين والباحثين.
أتاحت رئاسة الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (TIKA) بالتعاون مع الاتحاد العالمي لأتراك أهيسكا (DATUB) الفرصة للأتراك والشباب لزيارة وطنهم للمرة الأولى ضمن برامج خاصة سنوية وذلك لتعزيز ارتباطهم وتواصلهم مع أرضهم وحفاظًا على حقهم بالعودة والاستقرار فيها، كما قدمت خدمات مساعدة لترميم منازل عدد من الأهيسكا الذين حالفهم الحظ بالعيش فوق أراضيهم.
على صعيد متصل، توفر هيئة الـ YTB بالتنسيق مع المؤسسات المعنية، برامج تأهيل وتدريب ودعم لنساء شعب أهيسكا، بالإضافة إلى برامج وندوات ثقافية لتعزيز التواصل بين شباب أهيسكا وشعوب المناطق التي يعيشون فيها وتسهيل دخولهم للجامعات والمؤسسات التعليمية في بلاد المنفى، وبطبيعة الحال دعمت عشرات الطلاب في مسيرتهم التعليمية حتى تخرجهم من الجامعات في جورجيا تحديدًا.
لم ينس أتراك أهيسكا هويتهم الأصلية على مر العقود، رغم الظروف الصعبة التي تعرضوا لها في ظل التهجير، واستمروا في المحافظة على إرثهم الثقافي ونقلوه إلى الأجيال الجديدة في بلاد المهجر.