يحافظ المشهد السوداني على درجة حرارته المرتفعة رغم محاولات التبريد المستمرة، فيما دخلت الأجواء مرحلة الغليان السياسي بعد إرجاء الجولة الثانية من الحوار الوطني التي كان مقررًا لها الأحد 12 يونيو/حزيران 2022 إلى أجل غير مسمى بسبب غياب العديد من القوى الفاعلة عن المشاركة، بحسب وكالة الأنباء السودانية.
وأعلن المتحدث باسم الأمم المتحدة السبت الماضي تأجيل الجولة الثانية إلى موعد يحدد لاحقًا، مشددًا على أن الحوار الذي ترعاه الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيغاد) مستمر ولن يتم تعليقه، آملًا إجراء بعض اللقاءات مع القوى الممتنعة عن المشاركة للتوصل إلى نقاط مشتركة لإثنائها عن موقفها الرافض.
وكانت اللجنة الثلاثية قد أطلقت دعوة للحوار في يناير/كانون الثاني لتقريب وجهات النظر بين القوى السياسية السودانية لحلحة الأزمة المتفاقمة منذ الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وأطاح بالحكومة ومكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018.
ولم يشارك في جولة الحوار الأولى التي انطلقت في 8 يونيو/حزيران الحاليّ إلا 7 قوى فقط، أبرزها المكون العسكري الذي مثله نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) بجانب “الحرية والتغيير ميثاق التوافق الوطني” المنشق عن تحالف “الحرية والتغيير”، بجانب القوى الشريكة في نظام الرئيس المعزول عمر البشير وأبرزها “الحزب الديمقراطي الأصل” وقوى “الحراك الوطني الموحد” وحزب “المؤتمر الشعبي”.
تزامن فشل عقد الجولة الثانية من الحوار مع تصعيد ميداني مواز، فقد أغلق محتجون عددًا من شوارع العاصمة السودانية، استجابة لدعوات تنسيقيات لجان المقاومة لمناهضة “الحكم العسكري”، فيما رفع المحتجون شعارات الديمقراطية وانتهاء الحكم العسكري.. فهل وصل الحوار الوطني السوداني إلى طريق مسدود؟
هدف الحوار
من الضغوط التي مورست على الآلية الثلاثية التعويل عليها في إنهاء الأزمة والتوصل إلى حلحلة عملية للمأزق الحاليّ، وهو ما يتخالف مع هدفها المعلن ابتداءً كما جاء على لسان رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرتس، الذي أوضح خلال كلمته في الجلسة الافتتاحية الأربعاء الماضي أن المهمة الأساسية للجنة تسهيل الحوار بين أطراف الأزمة.
ومن ثم فإن الدور المرسوم لا يتعدى جمع الأطراف على مائدة واحدة مع تسهيل أجواء الحوار، ومن ثم يقوم السودانيون بأنفسهم برسم جدول الأعمال ومسار الجلسات مع وضع قائمة لموضوعات الحوار التي تشمل صلاحيات مجلس السيادة وتشكيله والترتيبات الدستورية وآليات اختيار الحكومة ورسم خريطة للمتبقي من المرحلة الانتقالية.
ورغم الفشل في عقد الجولة الثانية التي كان يعول عليها في تحقيق نتائج إيجابية نسبية تمهد نحو انطلاق رسمي لفعاليات الحوار بشكل كامل، فإن هناك إصرارًا من اللجنة الثلاثية على استمرار المحاولات، فيما أبدى ممثل الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) إسماعيل وايس، تفهمه لغياب أطراف رئيسة عن الجلسة الثانية، مبديًا امتعاضه الشديد من غياب أحزاب سبق أن التزمت المشاركة.
غياب القوى الفاعلة
انحصر المشاركون في الحوار على القوى الداعمة للمؤسسة العسكرية وانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو ما أفقده زخمه وجديته وموضوعيته لدى الشارع، فيما وصفه البعض بأنه “حوار الطرشان”، إذ رفضت القوى المدنية المؤثرة في العملية السياسية المشاركة وعلى رأسها تحالف “قوى الحرية والتغيير” الذي كان يقود الحكومة سابقًا و”تجمع المهنيين السودانيين” أحد أبرز القوى المؤثرة في الثورة السودانية.
وبعد عدة لقاءات عقدها ممثلو الحرية والتغيير مع المكون العسكري توصلوا إلى قرار رفض المشاركة بزعم أن قبولهم الجلوس على مائدة حوار واحدة مع العسكريين اعتراف رسمي بانقلاب البرهان، يشرعن سلطة ما بعد 25 أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما يعني بحسبهم خيانة الثورة ومكتسباتها.
فيما أعلن رئيس حزب المؤتمر السوداني، عمر الدقير، أن التحالف يرفض المشاركة في أي تسوية لا تنهي الانقلاب العسكري وما ترتب عليه، مؤكدًا أنه “لن يكون جزءًا من أي منبر يهدف إلى منح الشرعية للانقلاب، مع الاستعداد للتعاطي الإيجابي من أجل استرداد التحول الديمقراطي”، فيما شدد على استمرار مسار المقاومة بالطرق السلمية من أجل تحقيق هذا الهدف.
وعلى الجانب الآخر، جدد “تجمع المهنيين السودانيين” رفضه التفاوض مع العسكر، سواء كان تفاوضًا مباشرًا أم غير مباشر، واصفًا في بيان له جلسات الحوار التي تعقدها الآلية الثلاثية بأنها “مخطط دولي إقليمي لقطع الطريق على الثورة، ولفرض واقع جديد يمنع الثورة من الوصول إلى أهدافها”، متمسكًا بشعاره التقليدي “لا تفاوض لا شراكة.. الردة مستحيلة”.
وتطالب لجان المقاومة بتهيئة المناخ أولًا من أجل حوار هادف وبناء، وذلك من خلال بعض الإجراءات الضرورية العاجلة على رأسها إنهاء تبعات انقلاب أكتوبر/تشرين الأول، وتسليم السلطة لمدنيين وإطلاق سراح كل المعتقلين على خلفية قضايا سياسية من القوى كافة.
المكون العسكري.. المعضلة
مثلت مشاركة المكون العسكري في الحوار معضلة رئيسية للقوى المدنية الرافضة لحضور الجنرالات على مائدة النقاش المعدة خصيصًا لحلحلة الأزمة التي يتهمون العسكر بالوقوف خلفها، ومن ثم كان المطلب الأبرز عدم حضور ممثل لهذا المكون، وهو المطلب الذي لم يحظ بالقبول لدى كثير من القوى المشاركة.
من جانبه يرى رئيس منبر حوار رؤساء الأحزاب عصام صديق، أنه ما كان ينبغي للجيش أن يكون طرفًا في حوار سياسي، إذ إن دوره الحقيقي ينحصر في الدفاع عن الوطن والزود عن الشعب في مواجهة الاعتدءات والتهديدات الخارجية دون أي وجود على المستوى السياسي الداخلي، لافتًا إلى أنه نصح رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرتس، بعدم دعوتهم لكنه لم يستجب.
ويرى المقاطعون للحوار أن خريطة المشاركين تؤكد صحة شكوكهم بشأن انحصار الهدف الأساسي من تلك الجلسات في محاولة شرعنة الانقلاب من خلال دعوة أنصاره للاجتماع بما يضفي عليهم صبغة سياسية بحضور دولي وإقليمي بما يعزز نفوذ العسكر في مواجهة القوى الثورية التي حملت لواء تغيير نظام البشير في أبريل/نيسان 2019.
وفي المقابل لن يقبل العسكر بأي حال من الأحوال إقصاءهم عن الحوار كونهم اللاعب الأكثر حضورًا وتأثيرًا في المشهد الآن والمتحكم الوحيد في مجريات الأمور، ومن ثم فإن الحديث عن استبعادهم يفتقد للموضوعية الميدانية التي فرضتها قوة السلاح والنفوذ.
#السودان.. متظاهرون يغلقون بعض الطرق والجسور بالعاصمة الخرطوم. #الحدث_السوداني pic.twitter.com/GOTZZbykzy
— هنا_السودان (@hereSudan) June 13, 2022
لا مخرجات محتملة
في ضوء تلك الأجواء حيث تمسك العسكر بحضورهم في مقابل تشبث القوى الثورية بمطلب مدنية الحوار، فلا يتوقع الخروج بنتائج إيجابية لتقترب الجلسات من تلك التي عقدها البشير في 2015 (حوار الوثبة) لمغازلة المجتمع الدولي وتخفيف حدة الاحتقان الشعبي المتصاعد حينها، التي ساهمت فيما بعد في انقلاب المشهد على رأس نظام الإنقاذ.
وعلى مسار متواز فإن التلويح بورقة الانتخابات المبكرة التي يطرحها الجنرالات كنوع من أنواع الضغط على التيار المدني نظير الإصرار على إبعاد المكون العسكري عن السلطة كشرط لا يقبل التفاوض للانخراط في أي مسارات مستقبلية بشأن حلحلة الأزمة، من شأنه أن يعقد الوضع أكثر فأكثر.
وتسمح البيئة السياسية الحاليّة الملبدة بغيوم الخلافات الجوهرية باتساع الفجوة بين المكونين العسكري والمدني بما ينعكس بطبيعة الحال على الوضعية المعيشية والاقتصادية لا سيما بعد تلويح بعض القوى الداعمة للسودان بوقف أي منح أو مساعدات قبيل حدوث انفراجة في هذا الأفق المسدود وتسليم السلطة للمدنيين.
في ضوء ما سبق يرجح فشل الحوار الحاليّ الذي ترعاه اللجنة الثلاثية الدولية، ما لم تكن هناك ضغوط خارجية قوية تدفع الجميع للجلوس على مائدة واحدة حفاظًا على ما تبقى من الدولة المهلهلة اقتصاديًا وأمنيًا، وربما تساعد التطورات الإقليمية والدولية الأخيرة على حث جميع الأطراف للتراجع خطوة للوراء تغليبًا لمصالح الدولة العليا، فيما تبقى الكرة الآن في ملعب المكونين، المدني والعسكري، في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة الغضب الشعبي الذي إن تجاوز خطوطه الحمراء فسيحدث زلزالًا يعيد تشكيل الخريطة برمتها.. فهل تستبق النخبة بشقيها الجنرالي والثوري لحظة الانفجار أم سيكون للشارع رأي آخر؟