ضجت الصحف والمواقع الإخبارية مؤخرًا بأخبار عن بدء موسكو سحب قواتها من بعض النقاط في سوريا وذلك جراء تداعيات وتأثيرات تدخلها العسكري في أوكرانيا والخسائر التي منيت بها هناك، وأشارت التقارير إلى أن روسيا انسحبت من مواقعها – في شمال سوريا بشكل أساسي- لصالح إيران، لكن موسكو لم تتطرق لهذا الموضوع إعلاميًا.
أخبار الانسحاب الروسي هذه تأتي في ظل تصعيد يجري على عدة اتجاهات وفي أكثر من سياق ضمن الأراضي السورية جنوبًا وشمالًا، حيث تقرع طبول الحرب في شمال سوريا بعدما أعلنت تركيا عزمها الدخول مجددًا إلى بعض المناطق التي تسيطر عليها الوحدات الكردية، وفي الجنوب تستعر حرب المخدرات على الحدود الأردنية السورية، فيما تتوالى الضربات الإسرائيلية على نقاط مختلفة في البلاد.
وفي الوقت الذي تكثر فيه التحليلات عن الانسحاب الروسي من سوريا، يرى البعض أن هذه الأخبار ما هي إلا وهم وزيف وإن كان هناك انسحاب فإنما يكون على نطاق ضيق ولا يعدو كونه خلطًا للأوراق وبعثرة للملفات القائمة في سوريا من الكرملين، فموسكو تعتبر وجودها في سوريا إستراتيجيًا وعملت خلال السنوات السابقة على تثبيت أركانها في هذا البلد إلى أبعد حد ممكن وتغلغلت في شتى قطاعات البلاد ولن تفرط فيها.
جبهات مفتوحة
الحديث عن الجبهات المفتوحة في سوريا حاليًّا، لا يقتصر على الشأن العسكري، فهناك تصعيد سياسي بين القوى الفاعلة لإعادة فتح الملفات العالقة، وبما أن روسيا هي الفاعل الأكبر في الأراضي السورية تقريبًا سيكون لها بالطبع تأثير على كل الملفات وفي كل الجبهات، ففي الحديث عن الجنوب السوري نجد أن لروسيا حضورًا واضحًا يتخوف الأردن من غيابه.
إذ شهدت الحدود الأردنية السورية في الفترة الماضية معارك متقطعة، في إطار ما تسميه عمّان “حرب المخدرات“، حيث يجابه الجيش الأردني على مدى الشهور الماضية المئات من مهربي المخدرات التابعين للنظام السوري، وقالت مديرية أمن الحدود في القوات المسلحة الأردنية على لسان مديرها، العميد أحمد هاشم خليفات: “قوات غير منضبطة من جيش النظام السوري تتعاون مع مهرّبي المخدرات وعصاباتهم التي أصبحت منظَّمة ومدعومة منها ومن أجهزتها الأمنية، بالإضافة إلى ميليشيات “حزب الله” وإيران المنتشرة في الجنوب السوري، وتقوم بأعمال التهريب على حدودنا”.
في ظل هذه المعارك، يشكو الأردن على لسان الملك عبد الله الثاني الغياب الروسي، إذ يرى أن غياب موسكو عن المشهد سيضر بلاده، ويقول في إشارة إلى انسحاب الروس: “الوجود الروسي في جنوب سوريا كان يشكل مصدرًا للتهدئة”، مضيفًا “هذا الفراغ سيملأه الآن الإيرانيون ووكلاؤهم، وللأسف أمامنا هنا تصعيد محتمل للمشكلات على حدودنا”.
يذكر أن تنافسًا حادًا بين أتباع إيران وروسيا على النفوذ يتواصل في محافظتي درعا والسويداء جنوبي سوريا، ولا يُعلم ما إن كانت موسكو فعليًا قد انسحبت من هذه المنطقة أم هو مجرد ضغط على “إسرائيل” والأردن ومن ورائهما أمريكا والتلويح بعصا الميليشيات الإيرانية بعد أن ساءت العلاقات بين الطرفين إثر الغزو الروسي لأوكرانيا.
في الجانب الآخر من البلاد، تقرع تركيا طبول الحرب في مناطق الشمال السوري، إذ إنها تهدد بشن عملية عسكرية واسعة للسيطرة على مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب وعين عيسى وهو ما يقلق الأطراف الدولية خصوصًا أمريكا التي رفضت العملية العسكرية التركية، وتحاول الوحدات الكردية متمثلة بقوات سوريا الديمقراطية “قسد” أن تعزز تحالفاتها مع مختلف الأطراف من أجل مواجهة تركيا.
لكن روسيا هذه المرة كان موقفها من العملية غير واضح، فقالت في اجتماع لها مع قوات “قسد” إنها لا يمكنها حماية من هم خارج سلطة الحكومة السورية، وخلال زيارته إلى تركيا أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن “روسيا تأخذ في الحسبان قلق أصدقائها الأتراك حيال التهديدات التي تشكلها القوى الأجنبية على حدودهم”، كما لفت إلى أن موسكو وأنقرة ستواصلان تعاونهما في مسألة سوريا.
بحسب ما سبق هل تكون موسكو راضية عن دخول تركيا مجددًا إلى مناطق جديدة في سوريا وتوسيع نفوذها؟ لا بالطبع فموسكو تملك السيطرة الكبرى في البلاد وفرضت بعض الاتفاقيات في الشمال السوري على أنقرة أبرزها اتفاقية وقف إطلاق النار في إدلب، كما أنها لا تريد لتركيا التوسع أكثر في المجال السوري، من أجل ذلك خفضت من لهجتها ضد تركيا وفتحت المجال لقوات النظام السوري وميليشيات إيران بالتوجه إلى جبهات المناطق التي تريد تركيا السيطرة عليها والوقوف إلى جانب قوات “قسد” التي دعت النظام للقتال معها.
انزياح لصالح إيران
كما ذكرنا فإن الأردن يتخوف من وجود ميليشيات إيرانية على حدوده حال أخلت روسيا مواقعها، ويتكلم الباحث السوري فراس فحام بهذا الشأن قائلًا: “بعض الصحف العربية تصر على تسويق نظرية الصراع الإيراني – الروسي في سوريا!”، ويضيف “في الواقع روسيا فتحت المجال أمام زخم إيراني جديد في الملف السوري للضغط على الجهات الدولية وفي مقدمتها “إسرائيل”، قد تتدافع مكونات المحور الواحد لتحقيق أكبر قدر من المصالح، لكن يتبادلون الأدوار كثيرًا”.
وكشف فحام أن “الميليشيات الإيرانية المنتشرة شمال حلب أسست غرفة عمليات مشتركة مع قوات قسد تحت مسمى “صاعقة الشمال” من أجل تنسيق العمليات العسكرية المشتركة، استعدادًا لمواجهة أي هجوم محتمل منسق بين الجيشين التركي والوطني السوري، مركز غرفة العمليات في منطقة تل رفعت السورية”.
تصر بعض الصحف العربية على تسويق نظرية الصراع الإيراني – الروسي في سوريا!
في الواقع روسيا فتحت المجال أمام زخم إيراني جديد في الملف السوري للضغط على الجهات الدولية وفي مقدمتها إسرائيل.
قد تتدافع مكونات المحور الواحد لتحقيق أكبر قدر من المصالح، لكن يتبادلون الأدوار كثيرا.— Firas Faham فراس فحام (@Fr_faham) June 12, 2022
وفي سياق متصل بالتفاهمات الإيرانية الروسية الآنية، يقول الباحث عبد الوهاب عاصي: “لا يبدو أن روسيا مكترثة بمصير تل رفعت، وهي تستخدمها – حاليًّا – كملف للضغط على قسد، بالمقابل، تظهر مخاوف إيران بشكل واضح؛ فسيطرة فصائل المعارضة عليها تعني فرض طوق ناري واسع على قريتي نبل والزهراء الشيعيتين، ورفع مستوى التهديد لمدينة حلب”، وهو ما تستغله روسيا بإطلاق يد إيران هناك.
لا يبدو أنّ روسيا مكترثة بمصير #تل_رفعت، وهي تستخدمها -حالياً- كملف للضغط على قسد. بالمقابل، تظهر مخاوف إيران بشكل واضح؛ فسيطرة فصائل المعارضة عليها تعني فرض طوق ناري واسع على قريتي نبل والزهراء الشيعيتين، ورفع مستوى التهديد لمدينة حلب.
— عبد الوهاب عاصي | Asi (@abdulwahhabAssi) June 12, 2022
لكن مع فتح روسيا الطريق لإيران لمواجهة تركيا في الجبهة الشمالية هل تستطيع الميليشيات الإيرانية وقوات النظام بالإضافة إلى قسد مواجهة الجيش التركي؟ بوجهة نظر محمد سالم مدير وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري خلال حديثه لـ”نون بوست” فإن هذا الأمر لن يحدث، فيقول: “في حال وجود غض نظر روسي عن الهجوم التركي فليس بمقدور إيران ولا نظام الأسد منع الهجوم التركي، ليس لديهم قدرة من الناحية العسكرية التقنية فعل ذلك، وحدث ما يشبه ذلك في عملية عفرين، حين رفعت وقتها روسيا يدها، وأرسلت قوات الأسد قوات الدفاع الوطني إلى عفرين، لكن قصفتها الطائرات التركية قبل وصولها، ولم يكن لها أي فعالية”.
خلط الأوراق
إذن، الأفعال الروسية في سوريا لا تنبع من ضعف أو نتيجة لانسحاب قواتها من بعض المواقع، إنما هو محاولة لخلط الأوراق في وجه الفاعلين الدوليين وفي مقدمتهم أنقرة وواشنطن وتل أبيب، وفي هذا السياق يرى سالم أن الدور الروسي في بعثرة الأوراق “دور سلبي، بمعنى أن روسيا تقوم بتخفيف وجودها ونفوذها في سوريا نتيجة الضغوط عليها في الحرب الأوكرانية”.
ويرى سالم أن هذا الخلط يتم من خلال “التهديد بحدوث فراغ أمني يؤدي إلى زيادة التمدد الإيراني، حيث كان الإسرائيليون والدول العربية المحسوبة على محورهم يعولون على دور روسيا في وقف التمدد الإيراني، ما يعني أن تراجع النفوذ الروسي سيدفع مرة أخرى الدول الإقليمية لمباشرة مهام الحفاظ على أمنها من التوغل الإيراني بنفسها دون عون روسي، ويتضح هذا من زيادة الغارات الإسرائيلية على الإيرانيين، ومن إبداء الأردنيين تخوفهم من زيادة تهريب المخدرات وانتشار المليشيات الإيرانية على حدودهم نتيجة تراجع النفوذ الروسي”.
ويذهب سالم إلى أن المصلحة الروسية بخلطها الأوراق في سوريا تأتي نتيجة لأمرين وهما: “تخفيف تركيزها وجهودها في سوريا للتركيز على أوكرانيا، والأمر الثاني دفع الدول الإقليمية خاصة “إسرائيل” لموقف إيجابي من روسيا عمومًا وغزوها لأوكرانيا”، وبالفعل كانت تل أبيب حذرة في موقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا.
ويشير سالم إلى أنه من المعروف “تأثير ونفوذ “إسرائيل” على الولايات المتحدة ودورها في الإقليم عمومًا، ما يعني أن روسيا تريد زيادة الحاجة الإسرائيلية والإقليمية لها للاستفادة من نفوذها في تخفيف الضغط عنها”.
بالمحصلة، لا يوجد ما يؤشر على أن موسكو معنية بالتخلي عن مكاسبها في سوريا، الميدانية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية، وكيف تتخلى واحتلال هذا البلد العربي يمكنها من مسك أوراق إستراتيجية تضغط بها على قوى دولية وإقليمية، بما فيها الولايات المتحدة وإيران وتركيا و”إسرائيل”، وهي كلها دول على احتكاك بطريقة أو أخرى بسياسات روسيا وحروبها واقتصادها.