ممّا لا شكّ فيه إن الشرق الأوسط يمرُّ اليوم بتحولات استراتيجية مهمة، ساهمت في تشكيلها العديد من المتغيرات الإقليمية والدولية، سواء على مستوى العلاقة مع إيران أو على مستوى الحرب الروسية في أوكرانيا.
وما يرتبط بهذه المتغيرات من تداخلات سياسية وأمنية واقتصادية وإنسانية، جعلت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تُعيد منطقة الشرق الأوسط إلى سُلَّم أولوياتها، بعد أن سبق ورفعت شعار التوجه نحو الشرق لاحتواء الصين، لتعلن عن زيارة مرتقبة لبايدن تشمل بعض دول المنطقة في نهاية الشهر الجاري.
وفي السياق ذاته، تأتي الجولة الإقليمية الحالية التي يقوم بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والتي تشمل دولًا كالأردن ومصر وتركيا، لتشكّل على ما يبدو أرضية إقليمية مهيِّئة لتفعيل أية مقررات أو اتفاقات أو ترتيبات قد تتمخّض عنها زيارة بايدن المرتقبة، خصوصًا أن أغلب الدول التي يزورها ابن سلمان اليوم حاضرة في أجندات زيارات بايدن.
ومن ثم إن نجاح ابن سلمان في حشد إجماع إقليمي قبل زيارة بايدن، قد يُجبر الإدارة الأمريكية على إعادة النظر في طبيعة علاقاتها مع المملكة العربية السعودية، بعد منعطفات خطيرة مرّت بها العلاقات الأمريكية السعودية في الفترة الماضية، وتحديدًا بعد مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
الولايات المتحدة تعود إلى المنطقة من جديد
تأتي زيارة بايدن المرتقبة للشرق الأوسط، في نهاية شهر يونيو/ حزيران الجاري، لتسلّط الضوء على طبيعة التحول الأمريكي في التعاطي مع قضايا المنطقة، خصوصًا أنها الزيارة الأولى له منذ انتخابه، وتأتي بعد جفاء أمريكي واضح عن قضايا المنطقة، مقابل اهتمام أمريكي بشرق آسيا والحرب في أوكرانيا.
كما تأتي هذه الزيارة في ظل منعطف خطير تمرُّ به المنطقة، أبرزها تطور الأوضاع على الساحة الفلسطينية وتعثُّر المفاوضات مع إيران والأزمة السياسية التي يعيشها العراق ولبنان، وغيرها من الملفات المعقدة.
يحاول ابن سلمان عبر جولته الإقليمية الحالية أن يخلق تصورًا واضحًا لدى الإدارة الأمريكية أن السعودية ما زالت قادرة على صياغة تحالفات أو ترتيبات إقليمية بعيدًا عن المظلة الأمريكية.
يدرك بايدن أن الالتزامات التي سبق أن التزمت بها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال الفترة الماضية، لا يمكن لأي إدارة أمريكية أن تتنصّل منها، لما لذلك من تداعيات خطيرة على مستقبل التوازنات الإقليمية في المنطقة، إلى جانب تداعياتها على مسارات التطبيع الخليجي الإسرائيلي.
ويعرف بايدن أهمية وضع نهايات حاسمة لهذه الملفات، قبل أن تستعيد روسيا والصين دورهما في الشرق الأوسط، حيث توجد إمكانية أن يتحول حلفاء الولايات المتحدة إلى الجبهة الأخرى فيما لو استمرَّ الجفاء الأمريكي لهم، وفي مقدّمتهم المملكة العربية السعودية.
ولذلك يتّضح من جدول الأعمال الخاص بزيارة بايدن أن السعودية و”إسرائيل” تأتيان في سُلَّم أولويات الزيارة المرتقبة، كما يمكن أن تشمل دولًا عربية وخليجية أخرى، وذلك حسب شمولية التصور السياسي الذي تحمله زيارة بايدن، والترتيبات الأمنية التي تسعى إدارته تشكيلها في المنطقة في المرحلة المقبلة.
التموضع الاستراتيجي السعودي
يمكن القول إن ابن سلمان يحاول عبر جولته الإقليمية الحالية أن يخلق تصورًا واضحًا لدى الإدارة الأمريكية أن السعودية ما زالت قادرة على صياغة تحالفات أو ترتيبات إقليمية بعيدًا عن المظلة الأمريكية، ومن ثم إن محاولة ابن سلمان إجراء تفاهمات مع دول كالأردن ومصر وتركيا لها علاقة بأكثر من ملف، وتحديدًا الملف النووي وملف العلاقة مع “إسرائيل”.
حيث إن هذه الملفات قد تجعله قادرًا على التخفيف من حدّة المطالبات الأمريكية في الضغط على السعودية، لتقديم تنازلات سواء فيما يتعلق بالعلاقة مع “إسرائيل” أو الملف اليمني، في محاولة أمريكية لتصفير المشاكل في المنطقة.
إن نتائج زيارة ابن سلمان إلى كل من الأردن ومصر وتركيا قد تترك نتائجها على قرارات قمة الرياض المقرر عقدها بحضور بايدن، ووفقًا للتقارير يبدو أنه من المقرر أن تجري الدول المشاركة في قمة الرياض مفاوضات ذات صلة بالقضايا الأمنية الإقليمية، وذهبت بعض التقارير إلى أن تلك القضايا الأمنية تتركز على خطر إيران ونفوذها الإقليمي.
في الواقع إن ابن سلمان يسعى في زيارته للدول الثلاثة أن يصلَ إلى صيغة مشترَكة وموقف واحد في القضايا الإقليمية المشتركة، وهي قضايا ستترك تأثيرها على قمة الرياض، ومن جهة أخرى صرّح الرئيس الأمريكي عند الحديث عن زيارته لـ”إسرائيل” بأن قضية أمريكا الأولى هي تحقيق أمن أصدقائها، إذ يبدو أن الولايات المتحدة تبحث عن تأسيس تحالف عسكري وأمني ضد إيران في المنطقة، في حال عدم تحقيق نتيجة في مفاوضات الملف النووي.
إيران محور الحدث
أصبحت إيران محور الاهتمام الإقليمي والدولي اليوم، إذ تأتي زيارة بايدن وجولة ابن سلمان في جزء كبير منها للتعامل مع المتغيرات التي أحدثتها إيران، سواء على مستوى البرنامج النووي أو التهديدات التي تشكّلها الصواريخ الباليستية أو الطائرات المسيَّرة.
وعلى هذا الأساس تأتي قمة الرياض المرتقبة لتشكّل عنوانًا مهمًّا في كيفية صياغة مظلة إقليمية أمريكية للتعامل مع إيران وحلفائها، إذ تبدو “إسرائيل” اليوم أكثر الأطراف الساعية لترجمة زيارة بايدن المرتقبة على شكل برنامج أمني يكبح طموح إيران في الوصول إلى العتبة النووية.
ويأتي هذا رغم أن “إسرائيل” نجحت مؤخرًا في نقل المعركة إلى الداخل الإيراني، عبر تصاعُد عمليات تصفية الضباط في الحرس الثوري أو العلماء العاملين في المواقع النووية بعد توقف المحادثات النووية في فيينا، ضمن ما يُعرف باستراتيجية “الأخطبوط” التي سبق أن أعلن عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت مؤخرًا، عبر التعامل مع التهديد الإيراني مباشرة دون الاكتفاء بضرب حلفائها في العراق أو سوريا.
يبدو أن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على وضع إقليمي جديد في المرحلة المقبلة، خصوصًا بعد الاستدارة الاستراتيجية التي أصابت توجهات إدارة بايدن، عبر الالتفات نحو الغرب وعدم تركيز الاهتمام على الشرق فقط، حيث إن الحرب في أوكرانيا أظهرت مدى جدّية التهديدات التي تمثلها التحديات العابرة للحدود، والتي تأتي مجملها من الشرق الأوسط، سواء عبر تدفق المقاتلين والسلاح أو التجارة غير المشروعة.
ولا تهدد هذه الأمور المصالح الأمريكية فحسب، بل مجمل الأمن الدولي المرتبط بدول حلف الناتو، التي كشفت الحرب الروسية مدى هشاشتها الأمنية بعد تصاعد أزمة الطاقة والغذاء، ليس في أوروبا فحسب بل في الشرق الأوسط أيضًا، حيث المصالح والقواعد الأمريكية.
كما يشير تصاعد هذه الأزمات في دول المنطقة إلى تصاعد التهديدات التي يمكن أن تطال الوجود الأمريكي مستقبلًا، ومن ثم لا بدَّ من التعامل الوقائي معها قبل أن تُجبر الولايات المتحدة على استنزاف المزيد من مواردها وقوتها من أجل حلّها.