في خطوة صادمة وإن لم تكن مفاجئة، أعلنت مجموعة نادي باريس (أكبر الدائنين للسودان) تعليق قرارها السابق بإعفاء السودان من ديونه المقدرة بنحو 64 مليار دولار، بسبب الانقلاب العسكري الذي قام به قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وأطاح من خلاله بالسلطة المدنية المؤقتة.
المجموعة في تقريرها الصادر قبل أيام أعلنت عن اتفاق أعضائها بشكل جماعي على تأجيل أو تعليق كل الخطوات التي تم اتخاذها منتصف العام الماضي ودخل بموجبها السودان مبادرة تخفيف أعباء البلدان الفقيرة المثقلة بالديون “هيبيك” لإسقاط ديونه وإعادة العلاقات مع المؤسسات المالية الدولية بعد عقود من الحرمان والعقوبات.
وكانت الخرطوم خلال مؤتمر باريس الذي عقد في مايو/أيار 2021 قد حصلت على تعهدات ضخمة من الأعضاء شملت إعفاء الحصص الكبرى من الديون الجماعية والفردية، مع منحها حزم من التمويلات لدعم البنية التحتية، لكنها التعهدات التي تم التراجع عنها بعد سيطرة الجيش على السلطة والإطاحة بحكومة رئيس الوزراء الأسبق عبد الله حمدوك، المقرب من واشنطن ومؤسسات التمويل الدولية.
ويتوقع أن تزيد تلك الخطوة من تأزم الوضع السوداني داخليًا، فبجانب أنها ربما تحرم البلاد من إسقاط الجزء الأكبر من ديونها التي تستحوذ المتأخرات على 92% منها، فسيكون لها ارتدادات عكسية على المدى المتوسط والطويل فيما يتعلق بخطط الإصلاح التقشفية التي سيدفع المواطن السوداني وحدة كلفتها الباهظة.
انتكاسة جديدة
في أواخر يونيو/حزيران 2021 وبدعم أمريكي واضح ووساطات من بعض القوى الإقليمية والدولية، استطاع السودان وفي مدة لا تتجاوز 6 أشهر فقط، الحصول على إعفاء لأكثر من 50 مليار دولار من ديونه الخارجية، وذلك في أعقاب قناة الاتصال التي فتحتها مؤسستا صندوق النقد والبنك الدوليين مع الحكومة السودانية الانتقالية بقيادة حمدوك.
القرار الذي وصف حينها بالتاريخي لم يتعلق فقط بإعفاء من سداد الديون لكنه فتح الباب أمام دعم دولي لم يتحقق منذ عشرات السنين، فقد حصلت البلاد على منح وقروض من صندوق التنمية العالمي بمبلغ 4 مليارات دولار، فضلًا عن موافقة صندوق النقد الدولي على منح ائتمانية جديدة بمبلغ 2.4 مليار دولار لثلاث سنوات، فيما دبت الروح مجددًا في الاقتصاد السوداني الذي عانى طويلًا من القطيعة مع العالم بسبب العقوبات المفروضة عليه إبان فترة عمر البشير.
حينها أرجعت المديرة العامة لصندوق النقد، كريستينا جورجييفا، هذه الخطوة المتقدمة في الانفتاح على السودان إلى ما حققه من نقاط إيجابية فيما يتعلق بالتزام السلطات المستمر بالإصلاح في بيئة سياسية واقتصادية وأمنية شديدة الصعوبة، مع تهيئة المناخ العام للانفتاح على المجتمع الدولي في ضوء سلطة مدنية قادرة على معالجة الشروخات التي تسبب فيها حكم الجنرالات لسنوات طويلة ماضية.
جدير بالذكر أن الديون السودانية موزعة على 4 مجموعات رئيسية، أبرزها وأكبرها مجموعة نادي باريس التي علقت قرارها السابق بإعفاء 50 مليار دولار، تليها المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد التي شطبت بعض الديون بدعم أمريكي فرنسي، ثم البنوك التجارية التي فشل التفاوض معها حتى اليوم، وأخيرًا المجموعة التي تضم عددًا من البلدان الخليجية والآسيوية.
قرار متوقع.. لكنه صادم
الأسباب التي استندت إليها المؤسسات المالية الدولية لإعفاء السودان من الجزء الأكبر من ديونه الخارجية تمحورت في خطوات الإصلاح السياسي وتسليم السلطة لحكومة مدنية، ثم تعززت بدعم غربي واضح ووساطات خليجية مؤثرة، لكن بعد مرور عام تقريبًا على هذا القرار سرعان ما تغير المشهد بصورة كبيرة دفعت الدائنين لإعادة النظر في موقفهم.
جاء انقلاب البرهان أكتوبر/تشرين الأول الماضي ليضرب المرتكزات التي استند إليها قرار الإعفاء في مقتل، غير أن الحديث عن تراجع محتمل في موقف الجنرالات وإعادة السلطة لحكومة مدنية، وسط ضغوط إقليمية ودولية، دفع المؤسسات المالية إلى تأجيل قرار التراجع حتى استجلاء الصورة بشكل كامل.
ومع إصرار البرهان ورفاقه على المضي قدمًا في عسكرة الدولة واللجوء إلى سياسة التسويف لترسيخ أركان حكم الجنرالات بعدما تمت الإطاحة بالمكون المدني بصورة شبه كاملة، ورفض كل الوساطات الخاصة بالعودة إلى ما قبل أكتوبر/تشرين 2021، اضطر الدائنون إلى اتخاذ بعض الإجراءات للضغط على السلطة السودانية، كان أبرزها تجميد كل من الولايات المتحدة وصندوق النقد والبنك الدولي مساعداتهم للسودان.
وعليه لم يكن قرار نادي باريس بالمفاجئ رغم أنه في الوقت ذاته كان قرارًا صادمًا لما يتوقع أن يترتب عليه من تداعيات سلبية تزيد من تفاقم المشهد السوداني تأزمًا، في ظل وضعية اقتصادية حرجة زجت بآلاف السودانيين إلى الشوارع والميادين مرة أخرى، وسط حالة من التشاؤم بشأن قدرة السلطة العسكرية على تحسين الأوضاع وتلبية مطالب الشعب.
ديون السودان إلى أين؟
بعيدًا عن اللغة المنمقة التي استخدمها نادي باريس في موقفه الخاص بالديون السودانية حين أشار إلى “تعليق القرار”، فإن الكثير من المراقبين يميلون إلى أن هناك توجهًا عامًا لإلغاء القرار بالكلية وليس مجرد تعليقه، بعدما وصل مستوى الثقة في تراجع الجنرالات عن انقلابهم إلى المعدل صفر، ما يعني أن دين السودان ما زال كما هو (64 مليار دولار قابلة للزيادة).
ولا يتوقع التراجع عن هذا الموقف في ضوء الوضعية الحاليّة حيث الصراع المكتوم بين البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) على كرسي الرئاسة، وسياسة الاحتشاد والتجييش التي يرتكز عليها كل طرف لدعم موقفه وتقوية حضوره وثقله داخليًا وخارجيًا، خاصة أن كلاهما مدعوم من بعض العواصم الخليجية والعربية، الأمر الذي قد يطيل أمد وجودهم في السلطة حتى انتهاء المرحلة الانتقالية ووصول أحدهما إلى السلطة بشكل رسمي ليعيد سيناريو البشير مرة أخرى.
ويميل إلى هذا الرأي السفير السوداني عصام الدين محمد الشيخ، نائب رئيس لجنة الطوارئ والكوارث بالمجلس الأعلى للاقتصاد العربي والإفريقي، الذي كشف عن وجود صراع وخلاف بين الجنرالين للاستئثار بالسلطة، مرجعًا ذلك إلى خلفية كل منهما وأطماعه التوسعية.
وكان قد أشار الدبلوماسي السوداني في حديث سابق لـ”نون بوست” أن حميدتي والبرهان مرفوضان من المجتمع الدولي، ومن ثم يسعي كل منهما إلى البحث عن حاضنة سياسية له، وهو ما يفسر العزف المنفرد لكليهما إقليميًا، فتحرك البرهان غربًا فيما لجأ حميدتي شرقًا إلى روسيا والخليج.
وأمام هذا التشبث بالحكم – إن لم يكن هناك مستجدات طارئة تدفع الجنرالات للتنازل والعودة لما قبل مشهد الانقلاب – لا يُنتظر إعفاء قريب للدين السوداني، لا سيما في ظل العلاقة الوطيدة بين المؤسسات المالية الدائنة وواشنطن التي لا يمكنها التحرك منفردة دون ضوء أخضر من الإدارة الأمريكية، ليظل هذا الرقم الكبير من الديون الخارجية خنجرًا في ظهر الاقتصاد الوطني ومعول هدم يجهض كل مخططات النهوض والمقاومة.
المواطن من يتحمل الفاتورة
عول السودانيون كثيرًا خلال العام الأخير على قرار إعفاء بلادهم من الدين والانفتاح على العالم في تحسين أوضاعهم المعيشية خاصة أن البند الخاص بسداد الديون وفوائدها وأقساطها يلتهم الجزء الأكبر من الموازنات السنوية المخصصة لدعم المواطنين، وعليه فإن الإبقاء على الدين يعني مزيدًا من سوداوية المشهد.
وهنا سيناريوهان لا ثالث لهما للتعاطي مع هذا التطور الصادم، كلاهما يدفع المواطن ثمنه باهظًا، الأول مزيد من الإجراءات التقشفية التي تبذلها السلطة الحاليّة والاكتفاء بالجزء المتبقي من الموازنة – بعد سداد فوائد وأقساط الدين – لتوفير الحد الأدنى من متطلبات السودانيين، بما يجبرهم على تغيير عاداتهم الاستهلاكية وسلوكياتهم الإنفاقية، في وضع يُزج فيه سنويًا بمئات الآلاف من محدودي الدخل إلى أتون الفقر.
أما السيناريو الثاني فيتعلق بحدوث انفراجة في العلاقة بين السودان والمؤسسات الدولية المالية، بما يسمح للأخيرة منح الأول فرصة لدعم اقتصاده عبر حزم من القروض الجديدة، لكن ذلك بشريطة تبني برنامج اقتصادي إصلاحي قاسٍ، لضمان قدرة البلاد على الوفاء بالتزاماتها المالية مستقبلًا.
وهنا لن تجد السلطة إلا المواطن للاتكال عليه في تمرير هذا البرنامج، حيث تصفير الدعم وتخلي الدولة عن التزاماتها تجاه الطبقة الفقيرة وهم السواد الأعظم من الشعب، مع فرض إجراءات حادة وصعبة قد لا يتحملها المواطن السوداني، ليصل الأمر إلى نفس نتيجة السيناريو الأول: مزيد من الانحدار المعيشي وزيادة وتيرة معدلات الفقر.
وهكذا يجد السودانيون أنفسهم في فخ الضحية للمرة الثالثة خلال أقل من 5 سنوات فقط، ضحية عسكر البشير وسياساتهم الإقصائية، ثم ضحية عسكر البرهان وتشبثهم بالسلطة على حساب المدنيين، وأخيرًا ضحية المؤسسات المالية الدولية التي ستجعلهم في مواجهة الجنرالات وجهًا لوجه.. فهل يقبل الشعب السوداني هذا الوضع؟