دشنت الأزمة الأوكرانية مرحلة جديدة من الاستقطابات الدولية، البداية كانت بالدعم الغربي غير المسبوق لكييف في مقاومتها للغزو الروسي لأراضيها في 24 فبراير/شباط الماضي، وصولًا إلى قرب انتهاء الترتيبات الخاصة بانضمام السويد وفنلندا لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
وعلى الجانب الآخر لم تقف روسيا وركيزتها الاقتصادية (الصين) مكتوفة الأيدي في مواجهة هذا التطور، فكان التحرك العاجل لمواجهة تلك الاستقطابات عبر توسعة نفوذ ورقعة منظمة شنغهاي للتعاون “SCO” ومجموعة “بريكس” التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين، التي يعتبرها البعض المنافس الأبرز للناتو شرقًا.
وبالتزامن مع إعلان السويد وفنلندا رغبتهما في الانضمام لحلف الأطلسي عُقدت قمة “البريكس” برئاسة بكين عبر تقنية الفيديو، في 22 يونيو/حزيران الماضي، حين طالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضرورة تعزيز التعاون بين أعضاء المجموعة وتقويتها في مواجهة التحديات التي أفرزها المشهد الأوكراني.
وقد نشرت تقارير غربية عن مساعي موسكو وبكين لتوسعة رقعة المجموعة (التي تعد ورقة ضغط بأيدي الشرق في مواجهة نفوذ الغرب المتصاعد) من خلال بعض الاستقطابات التي تضم على رأسها السعودية وإيران، في ظل القواسم المشتركة نسبيًا التي تجمع بين أهداف قادة البريكس وأجندات حكومتي الدولتين، فهل تنجح تلك المساعي في ضم البلدين للمعسكر الشرقي؟
خرج تحالف “البريكس” للنور عام 2006، كخطوة نحو مواجهة السيطرة الغربية وكسر هيمنة القطب الأوحد على الخريطة الدولية، وعُقد أول قمة له في يونيو/حزيران 2009 في مدينة يكاترينبورغ الروسية، بمشاركة كل من البرازيل وروسيا والهند والصين أولًا وكان يحمل اسم “بريك” قبل أن يتحول اسمه إلى “بريكس” بعد انضمام جنوب إفريقيا للتكتل عام 2010.
وفق خبراء يتجاوز حجم اقتصادات هذا المعسكر الناتج الإجمالي لمجموعة السبع الكبرى (الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان وفرنسا وكندا وإيطاليا) فيما يمثل أعضاؤه 45% من سكان العالم ويغطي 27% من مساحة الكرة الأرضية المأهولة بالسكان برقعة جغرافية تتجاوز 39 مليون كيلومتر مربع.
ضربة موجعة للمعسكر الشرقي
رغم محاولات موسكو التقليل من شأن قرب انضمام السويد وفنلندا للناتو بعد تخلي أنقرة عن معارضتها لهذا القرار إثر تفاهمات تمت بين الطرفين، فإن الخطوة تمثل ضربة كبيرة للروس، إذ تزيد من أقدام الناتو داخل المعسكر الشرقي، وهو الشبح الذي يطارد بوتين ودفعه لغزو أوكرانيا قبل 4 أشهر ونصف، ودفعه لاحتلال شبه جزيرة القرم قبل 8 سنوات.
قد تكون ثمة خلافات بين الحالتين الأوكرانية والسويدية الفنلندية (الإسكندنافية)، وأنه من غير الموضوعي إسقاط ما يحدث في أوكرانيا (الحديقة الخلفية للروس)على المشهد الإسكندنافي، لكن أطلسة المزيد من الكيانات والقوى شرق أوروبا يمثل في حد ذاته تهديدًا لوجستيًا وأمنيًا للنفوذ الروسي الساعي للتمدد على أكثر من مسار خلال السنوات الأخيرة.
آراء تذهب إلى أن انضمام منظمة “شنغاي” مع تحالف “البريكس” بما لهما من ثقل دولي غير مسبوق، إذ يمثلان نحو 60% من مساحة أوراسيا، وتهيمن على 50% من سكان العالم، وتشكل أكثر من 20% من الاقتصاد العالمي، يؤهلهما لمنافسة الناتو والاتحاد الأوروبي
الرئيس الروسي وفي مؤتمر صحفي عقب قمة بحر قزوين في تركمانستان، التي جمعت روسيا وأذربيجان وإيران وكازاخستان وتركمانستان، في 29 يونيو/حزيران الماضي، أكد أن بلاده لا يزعجها انضمام السويد وفنلندا إلى حلف “الناتو”، لكنه حذر من أنها سترد على أي “تهديدات”.
مضيفًا “لا يوجد شيء يمكن أن يزعجنا بشأن انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، إذا كانوا يريدون الانضمام، فقط يجب أن نفهم بوضوح ودقة بينما لم يكن هناك تهديد من قبل، في حالة نشر وحدات وإقامة بنية تحتية عسكرية هناك، سيتعين علينا الرد بشكل متماثل وإثارة نفس التهديدات في تلك الأراضي التي نشأت منها التهديدات بالنسبة لنا”.
الرد الروسي كان أكثر دبلوماسية مما توقعه كثيرون خاصة بعد سلسلة التحذيرات المتصاعدة التي أطلقها بوتين بشأن تمدد نفوذ الغرب شرقًا، فيما وصفه مراقبون بأنه “غامض”، وهو ما أثار العديد من التساؤلات عن سر هذا الغموض الذي فسره البعض بأنه متأرجح بين الدبلوماسية المؤقتة وانتهاج سياسة العصا والجزرة، ليظل الباب مفتوحًا على كل الاحتمالات التي يتصدرها العمل في مسار مواز لمواجهة الناتو عبر تكتل آخر يضم أكبر عدد من القوى، ووقع الاختيار هنا على “البريكس” للقيام بتلك المهمة.
البريكس.. ناتو الشرق
هل يمكن لتحالف “البريكس” أن يكون ندًا قويًا لـ”الناتو”؟ وهل يمتلك المؤهلات التي تساعده على القيام بهذا الدور الذي يعول عليه المعسكر الشرقي في كسر الغطرسة الغربية؟ الباحث والخبير في الشؤون الروسية، مسلم شعيتو، يؤكد أن هذا التحالف يمكنه أن يلعب دورًا موازيًا لمجموعة السبع والمنظومة الأوروبية برمتها.
ويرى الباحث أن الظروف الحاليّة مواتية لتفعيل المجموعة وتطوير مضامير نشاطها لا سيما في المسار التجاري المالي، في ظل العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، منوهًا في حديث مع “سكاي نيوز عربية” أن كل المقومات التنافسية الآن متوافرة للبريكس لمضاهاة التحالفات الغربية، وأبرزها اتساعها الجغرافي الذي يشمل آسيا وإفريقيا، بجانب قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية القوية، وحضورها الديموغرافي الهائل، إضافة إلى مساعيها لتوسيع دائرة الاستقطاب وضم بلدان وكيانات أخرى جديدة كمجموعة “شنغهاي”، وهو ما يساعدها على القيام بالمهام الموكلة إليها.
آراء تذهب إلى أن انضمام منظمة “شنغاي” مع تحالف “البريكس” بما لهما من ثقل دولي غير مسبوق، إذ يمثلان نحو 60% من مساحة أوراسيا، وتهيمن على 50% من سكان العالم، وتشكل أكثر من 20% من الاقتصاد العالمي، يؤهلهما لمنافسة الناتو والاتحاد الأوروبي، وفي ضوء الترتيبات الأخيرة وحالة التشكيك في ثقل الغرب في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا يمكن لهذا التحالف الجديد أن يتفوق على نظيره الغربي في العديد من المعارك الجانبية.
الآونة الأخيرة بدأت موسكو في تكثيف مساعيها لتوسعة خريطة التحالف، رأسيًا من خلال تطوير العلاقات مع شركاء بريكس اقتصاديًا ولوجستيًا والبحث عن آليات بديلة للتحويلات المالية بهدف خفض الاعتماد على الدولار واليورو ومنافسة الغرب اقتصاديًا، وأفقيًا عبر استقطاب بعض الدول الجديدة ذات الثقل الاقتصادي والسياسي وعلى رأسهم الخصمين، السعودية وإيران.
هل تنجح مساعي استقطاب السعودية وإيران؟
في تقرير نشره موقع “نيوز ويك” وترجمه “الخليج الجديد” كشف عن مساعي موسكو وبكين تحقيق نوع من “التوزان الجيوسياسي” العالمي، وفرض نموذج تعدد القطبية، من خلال استقطاب الرياض وطهران، لما يتمتعان به من قدرات كبيرة يمكنها تعزيز المعسكر الشرقي في مواجهة نظيره الغربي.
وفي حديثه للموقع أشار الخبير في الشؤون الدولية في معهد “ماكدونالد-لورييه” في كندا، ماثيو نيبول، أن التحالف الذي تنتوي روسيا والصين تدشينه يمكنه من الناحية النظرية دعم الروابط الاقتصادية بين أعضائه، مستفيدًا من الثغرات التي أحدثتها العقوبات الأمريكية المفروضة على بعض دول المجموعة، وهو ما يمكن أن يكون أرضية مشتركة للانطلاق، مستدركًا أنه توجد “عقبات كبيرة يجب تجاوزها” لكن ذلك لا ينفي أن منظمتي “شنغهاي” و”بريكس” يمكن أن يكون لهما دور كبير في إعادة تشكيل النظام العالمي.
بحسابات الربح والخسارة، لا شك أن مساعي استقطاب السعودية ستواجه بعراقيل وتحديات، خاصة أن المملكة تحاول خلال الآونة الأخيرة فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة بعد إعلان الأخيرة عن زيارة رئيسها للرياض خلال الشهر الحاليّ
اختيار إيران والسعودية تحديدًا لم يكن عشوائيًا، فبعيدًا عن قدراتهما الاقتصادية واللوجستية، فإن هناك أرضية مشتركة تجمعهما ودول التحالف، تتعلق بتوتر العلاقات مع الغرب لا سيما واشنطن، فعلى المستوى السعودي تعاني العلاقات مع الولايات المتحدة من توتر شديد منذ تولي جو بايدن السلطة، وتحيا حالة من فقدان الثقة في أعقاب انسحاب واشنطن من دول المنطقة وتقليل الضمانات التي كانت توفرها لدول الخليج بصفة عامة، الأمر الذي دفع السعوديين للبحث عن بدائل تحالفية أخرى لتعويض الانسحاب الأمريكي التدريجي، هذا بجانب تطابق رؤية البريكس مع رؤية ولي العهد السعودي المتعلقة بتنويع اقتصاد البلاد المعتمد على النفط.
أما على الجانب الإيراني فالأمر ربما يكون شبه محسوم، في ظل ارتماء طهران الكامل داخل أحضان المعسكر الشرقي منذ سنوات، باحثة عن الحاضنة الاقتصادية لها في ظل العقوبات الأمريكية المفروضة التي أثرت سلبًا على الاقتصاد الإيراني، ما دفع طهران للبحث عن بدائل جاهزة حتى لو كان المقابل ارتهان القرار السياسي.
وبحسابات الربح والخسارة، لا شك أن مساعي استقطاب السعودية ستواجه بعراقيل وتحديات، خاصة أن المملكة تحاول خلال الآونة الأخيرة فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة بعد إعلان الأخيرة عن زيارة رئيسها للرياض خلال الشهر الحاليّ، واحتمالية عقد لقاء مع ولي العهد في محاولة لإخماد الخلافات القديمة وتعزيز الشراكة المستقبلية.
مع الوضع في الاعتبار أنه رغم كل تلك التوترات التي تنتاب العلاقات السعودية الأمريكية، فإن القواسم المشتركة بينهما أكبر بمراحل من نقاط الخلاف، إذ ما زالت النخب الحاكمة في المملكة ترى في البيت الأبيض البوابة الكبرى لشرعنة أي نظام، ويملك من الأدوات ما تعرقل به وصول ولي العهد لكرسي الحكم، ولعل تصريح دونالد ترامب السابق حين قال إن العاهل السعودي لا يمكنه البقاء في الحكم أكثر من أسبوعين دون دعم أمريكي أكبر دليل على ذلك، إذ تعززت العلاقات بعد هذا التصريح بصورة غير متوقعة وأبرمت عشرات الاتفاقيات وضخت المملكة المليارات داخل السوق الأمريكي.
وفي المحصلة، ستمارس روسيا والصين أكبر مغرياتهما الممكنة لتشجيع السعودية على الانضمام لتحالفهما، وتسعيان لتذليل كل العقبات التي تحول دون إتمام تلك الخطوة التي من المتوقع أن تتعامل معها المملكة بتحفظ شديد في محاولة منها للحفاظ على توازن علاقاتها مع المعسكرين الشرقي والغربي، فيما تبقى زيارة بايدن المتوقعة للشرق الأوسط ومنها السعودية علامة فارقة في تحديد إمكانية انخراط الرياض في البريكس وشنغهاي أم لا.