دون سابق إنذار أو تمهيد مسبق، خرج رئيس مجلس السيادة السوداني والقائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان، في كلمة متلفزة مساء الإثنين 4 يوليو/تموز 2022، معلنًا عددًا من الإجراءات التي أصابت المشهد السياسي بالارتباك، على رأسها انسحاب المؤسسة العسكرية من المفاوضات الجارية حاليًا على مستوى الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية الإفريقية (إيغاد)).
وأوضح الجنرال أن إبعاد الجيش عن المفاوضات يأتي بهدف إفساح المجال للقوى السياسية المدنية للجلوس على طاولة واحدة من أجل الوصول إلى أرضية مشتركة يمكن بعدها تشكيل حكومة من الكفاءات الوطنية المستقلة التي ما إن تتشكل حتى سيتم حل مجلس السيادة الحاليّ وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من القوات المسلحة والدعم السريع يتولى القيادة العليا للقوات النظامية، ويكون مسؤولًا عن مهام الأمن والدفاع وما يتعلق بها من مسؤوليات تستكمل مهامه بالاتفاق مع الحكومة التي سيتم تشكيلها.
ويتزامن هذا التطور اللافت مع اتساع وتيرة الاحتجاجات الشعبية التي لم تتوقف من 30 يونيو/حزيران الماضي وأسفرت عن سقوط عدد من القتلى (9 متظاهرين وفق لجنة الأطباء المركزية) بجانب إصابة أكثر من 600 آخرين، وسط إصرار على التمسك بالمطلب الأبرز وهو إزاحة العسكر عن حكم البلاد.
انسحاب الجيش من المعادلة السياسية، رغم أنه مطلب جماهيري منذ إسقاط نظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، لكن الكيفية التي أعلن بها عن تلك الخطوة وتوقيتها الحساس، فضلًا عن السياق العام الملتهب والأقرب للفوضى، في ظل انسداد الأفق السياسي وغلق المجتمع الدولي لصنابير الدعم وتعقد الحسابات الإقليمية والدولية، أثار الكثير من الشكوك إزاء هذا القرار الذي قد يراه البعض نقلة نوعية في مسار الإصلاح السياسي ونقل السلطة لمدنيين، فيما يعتبره آخرون فخًا جديدًا يُزيد من نفوذ العسكر ويشرعن كل الإجراءات التي تمت منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 وحتى اليوم.
ضغوط داخلية
القراءة الأولى لهذا القرار المفاجئ تذهب في اتجاه الضغوط الداخلية التي تتعرض لها المؤسسة العسكرية السودانية ومجلس السيادة الانتقالي طيلة الآونة الأخيرة، وهي الضغوط التي تفاقمت بعدما كشف العسكر عن نيتهم الحقيقية في الاستئثار بحكم البلاد خلال انقلاب البرهان الأخير.
ومنذ ذلك الحين لم يهدأ الشارع السوداني يومًا دون احتجاجات أو حراك سياسي يطالب بإسقاط الانقلاب وعودة الجنرالات إلى ثكناتهم وتسليم السلطة لحكومة مدنية كهدف رئيسي لثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، الأمر تصاعد إلى عصيان مدني وإضرابات متتالية أصابت المشهد برمته بحالة من الشلل التام.
تأزم الوضع أكثر مع انسحاب “قوى الحرية والتغيير”، أبرز المكونات الثورية وشريك الحكم السابق، من المفاوضات الأخيرة، قابله دعوات متتالية لعدم مغادرة الشارع، وهو ما وضع المؤسسة الأمنية بشقيها العسكري والشرطي في مواجهة مباشرة مع الشعب قابلة لكل السيناريوهات، وهذا ضغط آخر.
حين أراد البرهان ومعه نائبه وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذهاب إلى أصدقاء السودان من القوى الإقليمية، السعودية والإمارات ومصر تحديدًا، خلال الزيارات المكوكية التي أجراها الجنرالات مؤخرًا، لم يجنيا منها المأمول، إذ ظلت وعود الأصدقاء أسيرة النوايا والتعهدات دون خطوات ملموسة
الوضع الملتهب داخليًا كان عاملًا مهمًا في دفع العسكر لإعادة التفكير في إستراتيجية التوغل داخل مفاصل الدولة السياسية، وهو ما يعني أن خطاب البرهان استند وبطريقة برغماتية بحتة على قراءة الخريطة الأمنية بشكل دقيق، وكان الاختيار الانسحاب التكتيكي قبل الانزلاق إلى الفوضى والاحتراب الأهلي الذي قد يُفقد الجنرالات كل المكاسب التي حققوها على أنقاض ثورة ديسمبر/كانون الأول.
فعلا كأنها أمطرت بشراً ?✌️#مليونية30يونيو#متابعات_الثورة pic.twitter.com/GRqeL4WUKa
— lord (@nubiankinglord) June 30, 2022
وأخرى خارجية
وبالتوازي مع التهاب المشهد الداخلي تواجه المؤسسة العسكرية الحاكمة في السودان ضغوطًا خارجيةً مكثفة منذ الانقلاب الأخير الذي أطاح بالحكومة التي كان يرأسها عبد الله حمدوك، الصديق المقرب لدوائر صنع القرار في الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية، وهو ما وضع البرهان ورفاقه بين فكي كماشة، الداخل والخارج.
حاول الجنرال الحاكم أكثر من مرة تجاوز تلك الضغوط عبر خطابات شعبوية حادة، وصلت إلى حد التهديد بطرد مبعوث الأمم المتحدة، لكنها الإستراتيجية التي لم يكتب لها النجاح في ظل تمادي رقعة الاحتجاجات الداخلية، فيما ازداد الموقف تأزمًا مع لجوء المؤسسات العالمية المالية إلى ممارسة الضغوط ذاتها، حيث العمل على إعادة عزل السودان مرة أخرى وحرمانه من المنح والمساعدات والتحفيزات التي فُكت قيودها مؤخرًا.
وكان من أبرز إفرازات تلك الضغوط إعلان مجموعة نادي باريس (أكبر الدائنين للسودان) تعليق قرارها السابق بإعفاء السودان من ديونه المقدرة بنحو 64 مليار دولار، وهو القرار الذي أرجعته إلى الانقلاب العسكري، لتواجه البلاد شبح الحرمان من إسقاط الجزء الأكبر من ديونها الخارجية.
حتى حين أراد البرهان ومعه نائبه وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذهاب إلى أصدقاء السودان من القوى الإقليمية، السعودية والإمارات ومصر تحديدًا، خلال الزيارات المكوكية التي أجراها الجنرالات مؤخرًا، لم يجنيا منها المأمول، إذ ظلت وعود الأصدقاء أسيرة النوايا والتعهدات دون خطوات ملموسة، كل هذا شكل ضغطًا كبيرًا على المؤسسة العسكرية التي وجدت نفسها في مأزق بينما كرة النار تتأرجح يمينًا ويسارًا.
هروب للأمام
الانسحاب التكتيكي من المشهد الذي أعلنه البرهان هو في حقيقته خطوة استباقية لتكريس مرحلة ما بعد الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين 2021، حيث هيمنة العسكر على الساحة وفرض كلمتهم الأولى والأخيرة على مقدرات السلطة، وكل ما سواهم ينخرط تحت إشرافهم ورقابتهم بما فيهم القوى المشاركة في المفاوضات بشتى انتماءاتها.
ومن منطقة الدفاع باغت العسكر الجميع بهجمة مرتدة عبر هذا الموقف المربك، الذي حولهم من انقلابيين إلى أصحاب السلطة العليا، بل تجاوز ذلك إلى تكرمهم بإعطاء القوى المدنية فرص الحوار على أرضية واسعة، دون أي مضايقات من المؤسسة العسكرية التي نصبت نفسها السلطة الفوقية التي تجب تحتها كل السلطات الفرعية.
تبقى قرارات 4 يوليو/تموز الحاليّ مفتوحة على كل الاحتمالات، ومقبول قراءتها بأكثر من رواية، وتخضع لمعايير التقييم الزمني والظرفي خلال المرحلة المقبلة، الكرة الآن باتت في ملعب القوى السياسية
وبدلًا من مواجهة اتهامات الكيانات المدنية للعسكر بتحميلهم مسؤولية الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت بعد الثورة وعلى رأسها جريمة فض اعتصام مقر القيادة العامة، وما تلاها من اعتقالات وهيمنة على السلطة وإزاحة المكون المدني، ثم مطالب الثوار بتقديمهم للمحاكمة والزج بهم في السجون، فاجأ العسكر بهذا التحرك الجميع لينقلبوا على كل تلك الاتهامات التي يرى البعض أنها ربما تصبح والعدم سواء في ظل صفقة ربما يتم إبرامها بين المكونين المدني والعسكري مستقبلًا.
وكعادة الحوارات التي تطلقها النظم السلطوية في المنطقة، بات من الواضح أن البرهان أصبح أكثر حنكة سياسية عما كان عليه بداية تسلمه السلطة، إذ يعلم يقينًا أن حوار كهذا من شأنه سحب البساط من تحت أقدام الحراك الاحتجاجي الغاضب الذي ينظر لفكرة الحوار السياسي منذ الإعلان عنها على أنها “مسرحية هزلية”، حتى لو شاركت فيها كيانات أممية وإقليمية، تستهدف حماية العسكر من الملاحقات القضائية والأمنية على الجرائم المرتكبة منهم بحق الشعب.
صحيفة السوداني: اللجنة المستقلة للتحقيق في فض اعتصام القيادة العامة تعلن توقف عملها بعد الاستيلاء على مقر اللجنة بواسطة قوات أمنية
— Waleed Ahmed (@alkangr) March 7, 2022
فخ جديد
ترك الساحة للقوى المدنية المتناحرة وغير المتوافقة في هذا التوقيت هو فخ جديد يدشنه جنرالات المؤسسة العسكرية سيكون له من التداعيات ما ستقود البلاد إلى مزيد من العسكرة، هذا بخلاف أن الانسحاب في حقيقته انسحاب شكلي، فهناك قوى مشاركة في المفاوضات داعمة ومدعومة من الجيش، وهي القوى التي أيدت انقلاب البرهان، ما يجعل فكرة “مدنية الحوار الخالصة” فكرة منقوصة.
ويرى الباحث السياسي السوداني محمد المبروك، أن الحديث عن تدشين مجلس عسكري بعد تشكيل الحكومة الجديدة بحسب بيان البرهان، يشير إلى أن هذا المجلس سيكون فوق السلطة المدنية، لافتًا في حديثه لـ”الجزيرة” أن ذلك “أمر غير مقبول”، ولا بد من عدم انفراد الجيش والدعم بقيادة هذا المجلس وضرورة مشاركة القوى المدينة في تسمية مديري إدارات الهيئات القيادية في الشرطة والجيش، على حد قوله.
فيما شكك القيادي بقوى الحرية والتغيير، عروة الصادق، في صدق قرارات البرهان، منوهًا أن الهدف الرئيسي هو خلط الأوراق، مستغلًا حالة الفوضى وفقدان معظم القوى للخبرات الكافية، بحيث يصعد للمسرح السياسي من أسماهم “أصوات الانقلابيين وفلول النظام البائد”، بما يصيب التيار المدني بحالة من التشاكس والتناحر، الأمر الذي يجهض أي مفاوضات مستقبلية ويجعل من الاتفاق أمرًا صعبًا، بما يصب في النهاية في صالح العسكر الذي سيكون استدعاؤهم للمشهد مرة أخرى نتيجة منطقية لتلك المقدمات الفوضوية.
هناك تيار يتزعمه القيادي في حزب الأمة القومي الصديق الصادق المهدي، يرى أن خطاب البرهان يقبل التأويل على أكثر من جانب، فرغم ما به من فخاخ وإشارات سلبية، فإنه يتضمن مؤشرات إيجابية يمكن أن تكون أرضية لنقاش الأحزاب والتيارات السياسية بما يحقق أهدافها نحو سلطة مدنية خالصة وهو المطلب الثوري الأبرز.
في الأخير.. تبقى قرارات 4 يوليو/تموز الحاليّ مفتوحة على كل الاحتمالات، ومقبول قراءتها بأكثر من رواية، وتخضع لمعايير التقييم الزمني والظرفي خلال المرحلة المقبلة، الكرة الآن باتت في ملعب القوى السياسية وهي الخطة التي يراهن عليها الجنرالات لتفويت الفرصة على المدنيين (من خلال التناحر والخلافات المتوقعة بينها والفشل في التوصل إلى اتفاقات مشتركة) واستدعاء العسكر للمشهد مرة أخرى، فهل يستغل الشارع السوداني تلك المكرمة غير المقصودة لتحويلها من مجرد فخ لإيقاع الثوار إلى سلم لتحقيق مطالبهم الأساسية التي على رأسها إزاحة المؤسسة العسكرية عن السلطة بصورة نهائية؟