في 14 يونيو/حزيران الماضي، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، أمام البرلمان، تشكيل لجنة تتولى دراسة ملف مفاوضات السلام مع جبهة تحرير تيغراي (TPLF) على أن يقودها نائبه ديميقي ميكونين الذي يشغل في الوقت ذاته منصب وزير الخارجية.
يمثل هذا التصريح إقرارًا صريحًا من أحمد بأنه لا يوجد حل عسكري للصراع المتطاول مع الجبهة التي وصفها في منشورٍ سابق وجد انتقادات شديدة، بـ”السرطان” و”الحشائش الضارة”، وهو المنشور الذي حذفته منصتا فيسبوك وتويتر، معتبرتان أنه يُشكل انتهاكًا لسياسات المنصات الخاصة بالتحريض على العنف ودعمه.
من اقتصادات إفريقيا الواعدة إلى مربع العزلة
الحرب الدموية التي تحالف فيها آبي أحمد مع رئيس النظام الإريتري إسياس أفورقي إلى جانب متشددي قومية الأمهرة لم تسفر فقط عن مقتل مئات آلاف المدنيين والعسكريين، بل تسببت في ارتكاب انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان تمثلت في القتل خارج نطاق القانون والتعذيب الوحشي واستخدام الاغتصاب كسلاح حرب، كما تدمّرت البنية التحتية في 3 أقاليم على الأقل شملتها الحرب التي شوّهت صورة أحمد بشكل كبير بعدما كان العالم ينظر إليه باعتباره صانع سلام، كما أخرجت الحرب إثيوبيا من قائمة أكثر الاقتصادات الإفريقية الواعدة، بل وأعادتها إلى مربع العزلة والعقوبات الغربية.
كان “نون بوست” من أوائل المنصات الإعلامية التي تنبأت بعدم مقدرة رئيس الوزراء الإثيوبي على حسم المعركة عسكريًا مع جبهة تحرير تيغراي، لعدة أسباب منها أن معظم جنرالات الجيش الإثيوبي المؤهلين عسكريًا تعود جذورهم إلى الإقليم، وقد فُصلوا من الجيش الفيدرالي في عملية تطهير قام بها آبي أحمد على فترات متقاربة، فعادوا إلى إقليمهم ليدربوا المجندين الجدد، إضافة إلى امتلاك جبهة تحرير تيغراي عتادًا عسكريًا كبيرًا احتفظت به في مقلي عاصمة الإقليم منذ سقوط نظام الدرغ “منغستو”، وبعد الحرب التي خاضتها TPLF مع حليفها السابق النظام الإريتري بين عامي 1998 و2000.
ومع أن تقرير “نون بوست” نُشر بعد اندلاع الحرب بيومين فقط، حيث لم تتوافر حينها المعلومات عن مشاركة الجيش الإريتري في الهجوم، فإن معظم النقاط التي تنبأ بها التقرير تحققت، وأبرزها انغماس إثيوبيا في مستنقع الكراهية وكثرة جرائم القتل على أساس العرق مثل المجزرة الأخيرة التي شهدها إقليم أوروميا حيث قُتل نحو 200 شخص تعود أصولهم إلى إقليم أمهرة، وقد أشارت التقارير إلى أن استهداف الضحايا تم بسبب انتمائهم العرقي.
آبي كان حليفًا لجبهة تحرير تيغراي
آبي أحمد – الذي يخوض منذ قرابة عامين حربًا وحشيةً ضد الجبهة – كان أحد أبرز حلفائها لفترة طويلة، إذ انضمّ منذ المراهقة إلى النضال المسلح ضد الديكتاتور الماركشسي منغستو هايلي مريام بعد وفاة شقيقه الأكبر، فقد كان آبي عضوًا ملتزمًا في حزب الأورومو الديمقراطي الذي كان في ذلك الوقت تنظيمًا صغيرًا ضمن جيشٍ متحالفٍ قوامه نحو 100 ألف مقاتل، بقيادة جبهة تحرير تيغراي التي كان مقاتلوها الأكثر عددًا وتدريبًا عسكريًا.
بعد سقوط نظام منغستو عام 1991، خضع آبي لتدريب عسكري رسمي في غرب وليغا وكُلف بالخدمة هناك، كان عمله في قسم الاستخبارات والاتصالات، ثم أصبح عضوًا في قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في كيغالي، قبل أن يقرر ترك العسكرية ليصبح سياسيًا، كانت أعلى رتبة عسكرية حصل عليها آبي هي رتبة العقيد.
وخلال فترة حُكم الجبهة الثورية الديمقراطية بقيادة جبهة تحرير تيغراي شغل آبي عدة مناصب مرموقة منها مدير وكالة أمن شبكة المعلومات، ثم وزير العلوم والتكنولوجيا وأخيرًا نائب حاكم إقليم أوروميا.
لكن الخلافات تفجّرت بين آبي أحمد وجبهة تحرير تيغراي بعد فترة قصيرة من توليه الحكم في 2018، بعد أن أفرج عن آلاف السجناء السياسيين من السجون الإثيوبية لأجل تحقيق الانفتاح السريع للمشهد السياسي، ففي مايو/أيار 2018 فقط، أفرج عن أكثر من 7.600 معتقل في منطقة أوروميا، كما أطلق سراح أندارا غاتشاو سيغي، قائد غنبوت 7 الذي حُكم عليه بالإعدام بتهم إرهابية، بالإضافة إلى 575 معتقلًا، وفي اليوم نفسه، أُسقطت التهم عن زميل أندارغاتشاو، “برهانو نغا” وكذلك عن السياسي الأورومي البارز جوهر محمد.
لاحقًا، وعندما أجرى آبي أحمد أول تغيير لمدير المخابرات الوطنية، في تعديلٍ هو الأول من نوعه، اعتبرت جبهة تحرير تيغراي هذا القرار بمثابة استهداف لها باعتبار أن المنصب منذ وصول الائتلاف الذي قادته إلى الحكم عام 1991 ظلّ من نصيبها.
وبعد فترة قليلة من إقالة مدير جهاز المخابرات القوي قيتاشو أسفا، عادت حوادث الاغتيالات الغامضة، فقد قُتل رئيس الأركان سعري مكونن – أصوله من تيغراي -، والجنرال المتقاعد جيزاي أبيرا، إلى جانب مقتل حاكم إقليم أمهرا أمباتشو مكونن، في ظرف ساعات معدودة، وجه بعض النشطاء المعارضين لآبي أحمد أصابع الاتهام إلى الحكومة الإثيوبية نفسها بالضلوع في هذه الحوادث الغامضة التي قدمت لها السلطات تفسيرات لم تكن مقنعة لكثيرين.
أبرز محطات الحرب
لن نخوض كثيرًا في أحداث حرب نوفمبر/تشرين الثاني 2020، فقد تناولناها في مقالاتٍ سابقةٍ، لكن لا بأس من أن نشير إلى أبرز محطاتها:
– بنهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2020 سيطر الجيشان الإثيوبي والإريتري والقوات الإقليمية والمليشيات المتحالفة معهما على معظم أراضي إقليم تيغراي بما في ذلك العاصمة مقلي، باستثناء منطقة الوسط التي تحفها الجبال الشاهقة، في ذلك الحين قال رئيس الوزراء آبي: “يسرني أن أعلن أننا أكملنا وأوقفنا العمليات العسكرية في إقليم تيغراي”، غير أن دبرصيون جبرميكائيل زعيم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي قال في رسالة نصية لرويترز إن قواته لم تستسلم، وأضاف في رسالته “وحشيتهم لن تزيدنا إلا إصرارًا على محاربة هؤلاء الغزاة حتى النهاية”.
– أصعب الفترات التي مرّت بها قوات الجبهة بحسب الجنرال صادكان جبريتنساي كانت في شهر يناير/كانون الثاني 2021، حين قال: “كنا على وشك مواجهة الهزيمة الماحقة، كنا فارين ومحاصرين بين تضاريس جبلية في جنوب تيغراي، وكان الكثير من مقاتلينا اليافعين يسيرون حفاة ولم يكن لديهم من الأسلحة سوى تلك التي تُحمل في اليد”.
– لكن قوات الإقليم التي أُعيد تنظيمها وتجميع صفوفها من جديد تحت مسمى “قوات دفاع تيغراي”، شنّت هجومًا مضادًا كبيرًا في مايو/أيار ويونيو/حزيران 2021، سُمي “عملية ألولا” على اسم جنرال من تيغراي اشتُهر في القرن التاسع عشر، أسفر الهجوم عن مكاسب هائلة في غضون أيام، انتهى باستعادة السيطرة على مقلي عاصمة الإقليم ومعظم المدن الرئيسية، كما تمكنت قوات تيغراي من أسر آلاف الجنود الإثيوبيين.
– التقدم المذهل الذي أحرزته قوات تيغراي أغرى القيادة السياسية والعسكرية لها بالمضي قدمًا نحو استعادة السيطرة على أراضي جنوب الإقليم التي كانت تقع تحت قبضة قوات أمهرة الإقليمية والمليشيات المساندة لها، فتمكنت من السيطرة على تلك المناطق بسهولة في يوليو/تموز 2021، ثم تمددت القوات التيغرانية إلى داخل إقليم أمهرة لتسيطرعلى مدن إستراتيجية حتى اقتربت من مدينة دبري برهان التي تبعد عن العاصمة أديس أبابا بنحو 130 كيلومترًا فقط، وسط نداءات مكثفة من المنظمات والسفارات لرعاياها طالبةً منهم المغادرة بأقصى ما يمكن، بينما كان آبي أحمد يستنفر مواطنيه للدفاع عن العاصمة.
– لكن موازين الأمور تغيرت مرة أخرى، فقد استنجد آبي أحمد بحلفائه، إذ ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن المعركة التي اقتربت من أديس أبابا، حُسمت لصالح آبي أحمد ضد جبهة تحرير “تيغراي”، وكان الدور الأبرز فيها للطائرات المسيرة دون طيار، التركية والإيرانية والإماراتية، لتتراجع قوات تيغراي نحو 434 كيلومترًا إلى الشمال، خاسرة جل المكاسب التي حققتها خلال العام الماضي، ومع ذلك بقيت حالة اللا حرب ولا سلم مستمرة، فقد فشل رئيس الوزراء آبي أحمد في تدمير جبهة تحرير تيغراي، كما فشلت الجبهة كذلك في الإطاحة بآبي.
آبي أحمد رفض في السابق كل الوساطات
كانت قيادات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي قد أعربت منذ البداية عن استعدادها لحل الصراع مع حكومة آبي عن طريق التفاوض، مشترطةً فك الحصار المفروض على الإقليم منذ بداية الحرب وانسحاب القوات الإريترية وقوات إقليم أمهرة من أراضي غرب تيغراي وإعادة الخدمات الأساسية مثل الاتصالات والكهرباء والخدمات المصرفية.
على النقيض من موقف جبهة تحرير تيغراي، رفضت الحكومة الإثيوبية كل الوساطات لحل الصراع من البداية، إذ بنى رئيس الوزراء رؤيته للحرب الدموية على أنها “عملية لإنفاذ القانون”، ورفض كل الضغوط والوساطات الخارجية، بما في ذلك الوساطة التي تقدم بها السودان، إلى جانب وساطة الاتحاد الأوروبي الذي عين وزير خارجية فنلندا بيكا هافيستو، العام الماضي مبعوثًا خاصًّا لحل الصراع الإثيوبي، وعيّن وزير الخارجية الأمريكي السفير السابق جيفري فيلتمان مبعوثًا خاصًا إلى القرن الإفريقي، كما أعلن الاتحاد الإفريقي تعيين الرئيس النيجيري السابق، ممثلًا أعلى له في القرن الإفريقي.
هناك العديد من الأسباب التي دفعت رئيس الوزراء الإثيوبي وحكومته إلى هذا التغيير الدراماتيكي، نرصد أبرزها فيما يلي:
أضرت الحرب الوحشية بسمعة آبي أحمد الذي قدّم نفسه في الفترة الأولى من حكمه كـ”رجل سلام”، خاصة بعد أن نال جائزة نوبل للسلام عام 2019، إثر توقيعه لاتفاق مع الرئيس الإريتري عام 2018، وقد اتضح لاحقًا أن هذا الاتفاق كان بمثابة تدشين تحالف عسكري بينهما ضد إقليم تيغراي.
امتدت الحرب إلى أقاليم مجاورة “عفر وأمهرا” بعد أن توغلت قوات تيغراي في الإقليمين وتورطت كذلك في ارتكاب انتهاكات ضد المدنيين “وفق منظمات حقوقية”، كما ارتفع حجم النزوح الداخلي في إثيوبيا إلى أرقام غير مسبوقة، بفعل الاضطرابات والمناوشات التي شملت معظم الأقاليم: أوروميا، أمهرا، بني شنقول، عفر، الصومال إلى جانب تيغراي بالطبع.
وتسببت الحرب في ضربة كبيرة لما يعرف بـ”معجزة إثيوبيا الاقتصادية” التي أسست لها جبهة تحرير تيغراي، وحتى في العامين الأولين من حكم آبي أحمد قبل اندلاع الحرب التي أفضت إلى خسارة ما قدره مسؤولون “بمليارات الدولارات” من النمو الضائع والطرق والمصانع والمطارات المدمرة.
كما سحب المانحون الأجانب ـ بعد اندلاع الحرب في 2020 ـ مليارات الدولارات من الدعم المالي، وفي مطلع العام الحاليّ، شددت واشنطن العقوبات الاقتصادية بشكل أكبر، ما أنهى وصول إثيوبيا إلى السوق الأمريكية دون تعرفة جمركية وهدد ذلك آلاف الوظائف في صناعة النسيج المزدهرة.
بعد الحرب، شهدت إثيوبيا ارتفاعًا كبيرًا في التضخم وارتفاعٍ متواصلٍ في أسعار المواد الغذائية وكل السلع، إلى جانب تفاقم أزمة النقص الحاد في النقد الأجنبي حيث وصل سعر الدولار الأمريكي رسميًا إلى 53 برًا إثيوبيًا، وفي السوق السوداء قارب الـ88، مقارنةً بـ37 و45 قبل اندلاع الحرب.
يمكن أن يؤدي الوقف الدائم لإطلاق النار بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير تيغراي إلى تحرير أكثر من 4 مليارات دولار من التمويل المجمد، وفقًا للمسؤولين، كما سيؤدي ذلك إلى تخفيف النقص الحاد في النقد الأجنبي، بحسب آبي سانو، رئيس البنك التجاري الإثيوبي المملوك للدولة، أكبر بنك في البلد، الذي أضاف قائلًا: “دون سلام، لا يوجد اقتصاد”.
ونذكر كذلك أن حكومة آبي أطلقت قبل فترة حملة عسكرية في إقليم أوروميا للقضاء على جيش تحرير أورومو كان يفترض أن تستغرق شهرًا للقضاء على الجيش، لكن العملية دخلت شهرها الرابع من دون نتيجة واضحة على الأرض.
مخاوف من اندلاع ثورة جياع
يتضح من السرد أعلاه أن معظم الأسباب المحتملة التي دفعت رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى قبول مبدأ التفاوض مع الجبهة الشعبية، كانت أسبابًا اقتصاديةً، ربما خوفًا من اندلاع ثورة جياع نتيجة للوضع الاقتصادي المتدهور وارتفاع التضخم في بلدٍ يزيد سكانه على 120 مليون نسمة، وما السيناريو السيرلانكي ببعيد.
يستبعد العديد من المراقبين أن يكون رئيس الوزراء الإثيوبي قد اتخذ هذه الخطوة رغبة منه في إحلال السلام وإنهاء معاناة شعب تيغراي، فالذي يشن حربًا وحشيةً كهذه بالتواطؤ مع جيش أجنبي “الإريتري”، ويحاصر مواطنيه لدرجة منع دخول الغذاء والدواء إلى جانب قطع الخدمات الأساسية عنهم، لا يمكن أن يكون ضميره قد استيقظ بشكل مفاجئ وقرر أن ينهي هذه المعاناة التي استمرت لما يقارب العامين.
الثقة منعدمة بين الطرفين
كما أن الثقة منعدمة بين حكومة آبي أحمد وجبهة تحرير تيغراي، خاصة أن المطالب التي دفعت بها الأخيرة من رفع الحصار واستعادة الخدمات لم يتم تنفيذها حتى الآن، مع ملاحظة أن هناك العديد من التحديات التي تُصعّب المفاوضات المزمعة مثل قضية مستقبل إقليم تيغراي في ظل النزعة الانفصالية القوية لمواطني الإقليم في الداخل وفي الخارج، فلم تكن حرب نوفمبر/تشرين الثاني هي الأولى التي تشنها الحكومة الإثيوبية على الإقليم، فقد حدث ذلك مرتين من قبل: الأولى في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي لقمع تمرد عام 1943، والمرة الثانية تكررت بين عامي 1983 و1985 في عهد الديكتاتور الماركسي منغستو هيلا مريام الذي حاول سحق المقاومة في تيغراي بحرق المحاصيل وتدمير مخازن الحبوب وذبح الماشية.
هناك أيضًا، قضية أخرى معقدة تنتظر الحل، وهي أراضي غرب تيغراي التي استولت عليها حكومة إقليم أمهرا بدعم من القوميين المتشديين الذي يرون أن هذه الأراضي تتبع لهم في الأساس، وأن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي استولت عليها بعد استلامها السلطة عام 1991م وضمتّها إلى الإقليم بشكل غير قانوني، بينما تتمسك القيادة الحاليّة للجبهة باستعادة الوضع كما كان عليه قبل الـ4 من نوفمبر/تشرين الثاني، أي أنها لن تتنازل عن هذه المنطقة المعروفة بخصوبة أراضيها الزراعية.
وعليه يمكن أن نخلص إلى أن أي مفاوضات وشيكة – إذا جرت – بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي ستُفضي إلى مجرد هدنة مؤقتة، تستعد خلالها أطراف الصراع لجولةٍ أخرى من الحرب الدموية، ما لم يحدث شيء غير متوقع يغير مجريات الأحداث بشكل كامل.