يطلّ شهر أغسطس/ آب على السوريين حاملًا معه ذكريات موجعة، إذ ارتكب فيه نظام الأسد مجزرتان مهولتان على أطراف العاصمة، إحداهما كانت عبر قصف الغوطة الشرقية ومدينة المعضمية في الريف الغربي بالأسلحة الكيماوية عام 2013، قُتل فيها ما يزيد على 1500 إنسان اختناقًا؛ ومجزرة مدينة داريّا التي راح ضحيتها أكثر من 700 إنسان أعدموا بأسلحة فردية وبيضاء، بعد اقتحام قوات الأسد وشبيحته للمدينة، وعامًا إثر عام يضجّ سؤال العدالة في أذهان الضحايا وذويهم.
تعمل بعض المنظمات السورية، ومنها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، على تطويق نظام الأسد قانونيًّا وحقوقيًّا، وتوثيق الانتهاكات التي يرتكبها منذ 11 عامًا، وتقديمها لجهات دولية ووسائل إعلام.
في هذه المساحة، نستضيف السيد فضل عبد الغني، الحقوقي السوري ورئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أبرز منظمة حقوقية سورية، ونبحث معه آفاق ملف العدالة السورية وجهود منظمته في سبيل ملاحقة الجناة وإنصاف الضحايا.
أسس فضل عبد الغني، الشبكة السورية لحقوق الإنسان في يونيو/ حزيران من عام 2011، وهي تُعنى بتوثيق أنماط انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا وتحليلها وإصدار تقارير دورية بشأنها، ولديها شراكات عديدة مع عدة هيئات بالأمم المتحدة ومنظمات دولية، مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، إضافة إلى كونها مصدرًا لعدد من وزارات الخارجية حول العالم وطيف واسع من وسائل الإعلام الدولية.
خلال عمر الثورة، شهد شهر أغسطس آب بعضًا من أفظع المجازر، أشهرها مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية ومجزرة داريا في الغوطة الغربية، هل يوجد ملف متكامل تعملون عليه لتوثيق تلك المذابح؟
حاولنا توثيق أكبر عدد ممكن من المجازر التي وقعت، وهذا مهمة الشبكة الأساسية، حيث هذا العمل مختلف عن عمل المؤسسات والمنظمات الدولية التي تأخذ حادثة أو أكثر وتعمل عليها، أما في الشبكة فكوننا مؤسسة وطنية تسعى لمراقبة الأحداث بشكل يومي ووثقنا مئات المجازر في سوريا، لم يقتصر التوثيق على المجازر الكبرى بل نعمل على ما هو أقل، ابتداءً من الضربات التي توقع 5 قتلى فما أكثر، هذا بالنسبة إلى المجازر عدا عن توثيق الانتهاكات الأخرى.
نشرنا تقارير عن عشرات المجازر، والذي صدر هو جزء بسيط عن المعلومات المتواجدة لدينا، لكن نتيجةً لعدم وجود قدرة لوجستية لم ننشر تقارير عن كل المجازر، في حين قمنا بأخذ عيّنات عن أكبر المجازر ووثقناها وأصدرنا فيها نشرات، وأغلب هذه المذابح موثقة على أساس التاريخ وأعداد الضحايا والبقعة الجغرافية التي وقعت بها، مع جمع المواد المرئية المتوفرة بالإضافة إلى تفاصيل أخرى، وبهذا نستطيع إعطاء تصور يفيد بعمليات التعويض لاحقًا، والمفروض أن يبدأ (في حال بدأ) من المناطق الأكثر تضررًا.
نحن أيضًا تقع علينا مسؤولية كبرى أمام توثيق انتهاكات الأطراف الأخرى، مثل قوات المعارضة والقوات الكردية، لأنها في الأصل خرجت ضد النظام المتوحّش الذي ارتكب مختلف الانتهاكات ضد الشعب، والمأمول من هذه الأطراف ألّا تنتهك حقوق الإنسان، لكننا في الشبكة نمايز بين الأطراف، وذلك لأن من التضليل في الكلام أن نقول إن كل الأطراف ارتكبت انتهاكات ونقف، وهذه الصيغة هي عبارة عن خطاب غوغائي.
فالأطراف ليست متساوية مع بعضها، حيث يوجد حجم أكبر من الانتهاكات من المتسبّب الرئيسي وهو النظام السوري، إذ إنه بقي لفترة طويلة في بداية الأمر وحده من يرتكب الانتهاكات، في حين لم يكن يوجد فصائل أو تشكيلات، إضافة إلى أنه استعمل قوة الجيش والقوى الأمنية لارتكاب الانتهاكات والمجازر.
هذا الأمر لا يعني عدم إدانة تجاوزات الأطراف الأخرى، فالانتهاك مدان بحدّ ذاته، ولكن يجب علينا أن نضع الأمور في نصابها ونسلّط الضوء على أساس المشكلة.
تحدثتَ عن نشر تقارير، ما وتيرة إصدارها؟
نحن مستمرون منذ 10 سنوات بإصدار حصيلة يومية للضحايا والانتهاكات مثل الاعتقال والاختطاف، إضافة إلى وجود تقارير شهرية عمّا يحصل في البلاد، ثم نتبع ذلك بتقرير سنوي شامل لإحصاءات الانتهاكات والضحايا، وفي مارس/ آذار من كل عام نصدر تقريرًا شاملًا عن السنوات السابقة بدءًا من عام 2011.
بالتزامن مع ما سبق، يوجد تقارير تصدر آنيًّا، تتناول أنماطًا أخرى من الانتهاكات التي توثق الحالات الفردية أو قصف المشافي والمدارس أو التهجير القسري، أو حتى الحديث عن البراميل المتفجرة.
ماذا بشأن مجازر الكيماوي؟
السلاح الكيميائي محظور دوليًّا، والنظام السوري هو الوحيد الذي استخدمه بعد اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية عام 1996، ولم نتوقع أن يتجرّأ ويستعمله ضد شعبه، ونحن أصدرنا أكثر من 40 تقريرًا عن استخدام النظام للأسلحة الكيميائية.
وثّقنا الاستهدافات الكيميائية حسب المحافظات التي استخدمت فيها، وعدد المرات، وكمّ عدد الضحايا، بالإضافة إلى نوع السلاح الذي اُستخدمت فيه، ومَن الجهة المنفذة.
يشار إلى أن النظام السوري وتنظيم “داعش” هما الوحيدان اللذان نفّذا هجمات بهذا النوع من الأسلحة (222 ضربة)، حيث استعان النظام بهذا السلاح 217 مرة فيما استخدمته “داعش” 5 مرات، ونحن بصدد إصدار تقارير دائمة عن هذه الحالات والتعليق على تصريحات من المنظمات الدولية المعنية بهذا الأمر.
كما أننا أيضًا نلفت نظر المجتمع الدولي في كل ذكرى سنوية للمجازر الكبرى التي حصلت بالسلاح الكيماوي، مثل مجزرتَي الغوطة الشرقية وخان شيخون، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن السلاح الكيماوي لم يقتل العدد الأكبر من السوريين، إلا أنه هو سلاح رعب وإرهاب لأنه يقتل كل الناس خنقًا ودون تمييز بالعمر، علاوة على ذلك هو سلاح محظور بموجب 3 قرارات صادرة من مجلس الأمن.
السلاح الكيمياوي هو سلاح دمار شامل، مثلًا في العراق كان هناك شبهة الحيازة على أسلحة دمار شامل وتصنيعها من قبل نظام صدام حسين، حينها تدخّل المجتمع الدولي دون الرجوع لمجلس الأمن، أما في سوريا فقد ثبت بأدلة قاطعة من منظمات دولية أن نظام الأسد استخدم هذه الأسلحة ضد شعبه، لكننا لم نرَ أي ردع ضد النظام السوري لمحاسبته على ذلك.
هل هناك حراك حقوقي ضد مرتكبي تلك المذابح في المحافل الدولية؟ لماذا الملاحقة تقتصر في أغلب الأحيان على الجنود والعسكريين الصغار، لماذا لا تطال المحاكمات شخصيات أساسية كبرى نافذة مثل بشار الأسد وعائلته ومساعديه؟
نحن نعلن في تقاريرنا عن الأفراد المتورّطين في هذه المجازر لفضحهم وتعريتهم، في حين نعمد إلى استهداف الأفراد لأنه نوع من أنواع المحاسبة، ونشرنا تقارير عن أبرز الضباط والمسؤولين عن الجرائم.
أما عن الشق الثاني من السؤال، فذلك لأن هذه المحاكمات تحاسب المتواجدين في أراضي الدول التي تقيم هذه الإجراءات القانونية، في حين أن المسؤولين الكبار يقيمون في سوريا ولا يسافرون إلى تلك الدول، والمحاسبة تحتاج إلى اعتقال ومحاكمة حتى يصدر حكم قضائي ضد الأشخاص المدّعى عليهم.
أين وصلت قضية المحاكمات التي تتمّ في أوروبا ضد مرتكبي جرائم الحرب، وهل يمكن البناء عليها في أعمال أكبر منها لاحقًا أم أن الأمر أكثر تعقيدًا؟
لا، الأمر ليس معقدًا، الناس لديها الحق في فهم ما يجري، ولكن يوجد سبب أساسي وراء هذا الأمر، وهو أن البعض ممّن اشتغل بهذه المحاكمات دفع المتابعين لها إلى لاعتقاد بأن المتوقع منها نتائج كبيرة وكثيرة، لكن في الأساس المرجوّ منها هو وضع حجر صغير في طريق العدالة ليس إلا، ولو أن العاملين في هذا المجال وضّحوا للناس وبيّنوا ما هي النتائج الحقيقية المتوقعة، حينها لن يكون هناك كل هذا الكمّ من التساؤلات وانتظار نتائج كبرى.
طبعًا، لا نقول إن تلك المحاكمات ليست مهمة وليست نوعًا من أنواع المحاسبة ولن تساهم في تعرية النظام، لكن هذا الكلام سقفه محدود بمعنى أن هذا المسار لن يصل إلى الضباط والمسؤولين الكبار في النظام السوري، ولن يوقف التعذيب في السجون، كما أنه لن يمنع النظام عن استخدام الأسلحة المحرّمة دوليًّا، نحن بحاجة إلى خطاب متوازن من أجل عدم تحطيم آمال السوريين الذين ينتظرون تحصيل حقوقهم.
على المؤسسات التحلي بالنزاهة والشفافية والمصارحة، ويجب عدم تضخيم الأمور من قبل العاملين على قضايا معينة، نحن كمنظمات ليس لدينا الإمكانات الكبيرة لكننا نبذل أكبر قدر ممكن في مسار العدالة.
يتحدّث ناشطون سوريون عن المحاكمات التي تحصل في أوروبا بوصفها “عدالة انتقائية”، كيف ترى أنت الموقف؟
يوجد صحة في جانب من هذا السؤال، نعم هي انتقائية لأنه ليس كل المجرمين الكبار متواجدين في دول لديها الولاية القضائية، وهي بالفعل تنتقي المتواجدين على أراضيها، كما أنها تعتمد على وجود الأدلة ضد هؤلاء الأشخاص أم لا.
هذه التفاصيل لم توضَّح للسوريين، ما أدّى إلى تشوُّه وضرب المسار في بعض الأحيان، ودعنا نكون صريحين، يوجد بعض الأشخاص المتصدّرين شوّهوا المعنى العام للقضية، رغم أهميتها وحيويتها وضرورة استمرارها، والحديث هنا عن مسار المحاكمات وليس المسار الحقوقي ككل.
لنتكلم عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ما هي الآليات تتبعونها؟ وكيف تقيّم دوركم في تقديم الصورة للعالم حول ما يجري في سوريا؟
نحن بحاجة إلى التعاون مع مؤسسات أخرى لتتكامل، لأننا نعمل بمستوى حقوقي وليس بمستوى جنائي، وهي بحاجة إلى تضافر الجهود مع مؤسسات تعمل بالملفات ذاتها من أجل بناء دعوى.
كما أننا بذلنا جهدًا بإمكاناتنا المتاحة، ونأمل أن نكون ساهمنا بإيصال معاناة وحقوق السوريين إلى الدول والمنظمات المعنية، الشبكة حاولت جهدها، إذ إنها باتت مصدرًا أولًا عن حالة حقوق الإنسان في سوريا للخارجية الأمريكية والخارجية الألمانية والخارجية الفرنسية والبريطانية والهولندية والدنماركية، وأيضًا لعدد من هيئات الأمم المتحدة.
اعتمدت عدة وكالات في الأمم المتحدة على بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وكانت مصدرًا أساسيًّا لها عن الانتهاكات التي وقعت في سوريا، كالمفوضية السامية لحقوق الإنسان (OHCHR)، ولجنة التحقيق الدولية المستقلة (UN-COI)، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة (UN-IIIM)، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UN-OCHA)، وآلية الرصد والإبلاغ عن الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال في حالات النزاع المسلح بقيادة اليونيسف (UNICEF)، ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW)، والفريق العامل المعنيّ بالاختفاء القسري التابع للأمم المتحدة (WGEID)، وعدد من المقرِّرين المعيّنين من قبل مجلس حقوق الإنسان (UNHRC).
نأمل أن نكون عكسنا الواقع، لكن هل غيّرنا؟ هذا الأمر ليس بيدنا، نحن حاولنا توصيف الأمور التي سجّلناها بأكبر قدر ممكن من الجهد، ونأمل دائمًا أن نوفَّق بتقديم الأفضل لأهلنا وبلدنا، لأن سوريا والسوريين يستحقّان بذل الجهد والتعاطف، وبحاجة لمئات المؤسسات من أجل إيصال قضيتهما وتوثيق معاناتهما.
السوريون باتوا يعلمون حجم الحملة الروسية على المنظمات السورية ومنها الشبكة السورية لحقوق الإنسان ومنظمة الخوذ البيضاء لإضعاف مصداقيتهما، كيف تواجهون هذه الحملة المستمرة التي تحاول إضعافكم؟ وهل يوجد تنسيق مع المنظمات السورية الأخرى؟
مواجهة الحملة الروسية يتمّ عبر التمسُّك ورفع المعايير المنهجية والسير على هذا الطريق بثبات، بحيث نتلافى وجود أي خلل بالحوادث التي نعمل عليها، ولا تستطيع روسيا أن تنقض أو تكذّب أي حادثة سجّلناها ووثقناها، حيث إننا لسنا سياسيين ولا نأتي بإحصاءات عشوائية، وإلى اليوم لم تستطع روسيا أن تناقض ما نشرناه، وهذا هو مصدر قوتنا.
الأذرع الإعلامية الروسية تصف الشبكة بأنها مدعومة من الغرب ومنحازة، وبإمكانها أن تقول ما تشاء دون إثبات، لسنا معنيين بالردّ على كل من يتهمنا ويوجّه الكلام إلينا، نحن نردّ من خلال عملنا ونتقبّل النقد المهني، ولدينا الجرأة على الاعتذار عن الأخطاء.
كما أنه يوجد تواصل مع منظمات سورية للتنسيق، ويوجد اجتماعات مستمرة مع منظمة الدفاع المدني “الخوذ البيضاء”، كما يوجد تنسيق بيننا، بالإضافة إلى شراكة وتعاون منذ سنوات، في الوقت ذاته لدينا تفاهمات مع عدة منظمات محلية ودولية.
يوجد سؤال مكرر دائمًا، هل من جدوى من العمل الحقوقي؟ خاصة أن الأيام تمرّ ولم يحصل أي اختراق على المستوى الحقوقي ضد النظام؟
نحن نقوم بما علينا، أما التغيير فليس بين أيدينا إنما بين أيدي السياسيين ونحن نحمّلهم المسؤولية، مهمتنا أن نقول إننا لسنا بخير وما زلنا نُقصَف ونُشرَد وما زال النظام موجودًا، أما التغيير خارج نطاق سيطرتنا، لكننا نسعى بأن يكون هناك حماية للمدنيين، وفي حال لم تتحقق هذه الأمور لا يعني أن الأصل ليس صحيحًا، لكن يوجد سقف معيّن نتيجة لتعقيدات الأوضاع الدولية.
ما أهمية العمل الحقوقي في ظل انكفاء الدول عن النظر إلى القضية السورية كأزمة ساخنة، والتعامل مع نظام الأسد كأمر واقع بغضّ النظر عن كل ما حصل؟
من أجل ذلك يجب أن يفعّل المسار الحقوقي وألّا نيأس، أكيد لن نتركهم يعيدوا علاقتهم مع النظام، وأما عن أن التعامل مع النظام السوري أصبح أمرًا واقعًا، فهي عبارة خرجت من النظام نفسه للترويج، والبعض بات يتبنّى هذه العبارة.
هل ترى أن عملكم الحقوقي والكشف عن انتهاكات بشار الأسد قادر على الحد من التطبيع مع نظامه؟
نعم أعتقد هذا إلى حد كبير، الحراك الحقوقي نجح في مفاصل معيّنة من لعب هذا الدور، لذلك إن الكثير من الدول التي كانت بعيدة عن القضية السورية وتصوّت إلى جانب النظام في المحافل الدولية، غيّرت مواقفها بعد الاطّلاع على حجم الانتهاكات التي يقوم بها النظام.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أن الدول التي تقف إلى جانب النظام هي بالأصل عبارة عن أنظمة ديكتاتورية، ولا يتعدى عددها الـ 10، بالإضافة إلى أنها في أدنى السلَّّم بالنسبة إلى حقوق الإنسان، مثل روسيا والصين، ومن الطبيعي أن تساند الأسد.