احتضن فندق كيمبنسكي بقلب العاصمة السويسرية، جنيف، الأحد 7 أغسطس/آب الحاليّ، لقاءً جمع وفدي مصر والصين، لمناقشة مبادلة الديون الصينية على القاهرة المقدرة بنحو 8 مليارات دولار بأصول مصرية إستراتيجية، في الغالب ستكون عبارة عن موانئ ومطارات، حسب ما نشرته العديد من وسائل الإعلام.
وتطرق اللقاء الذي استمر 3 أيام إلى الحديث عن توسيع حجم المبادلات بين البلدين ليشمل أصول تقدر بنحو 10 مليارات دولار، ليصل إجمالي ما حصلت عليه مصر من الصين بنهاية العام الحاليّ نحو 18 مليار دولار، في تطور لافت بشأن إدارة الدولة المصرية لملف الدين الذي تحول إلى كابوس يضاجع منامات المصريين، بعدما وصل إلى 158 مليار دولار بنهاية مارس/آذار الماضي، بحسب تقرير أصدره البنك الدولي مطلع شهر يوليو/تموز 2022.
الحديث عن اللجوء إلى الأصول المصرية لسداد الدين ليس جديدًا، فالبداية تعود إلى أبريل/نيسان 2019 حين سجلت وزارة المالية المصرية أدوات الدين المحلي الحكومي من سندات وأذون خزانة في ضوء مذكرة تفاهم موقعة مع شركة الخدمات المالية الأوروبية “يورو كلير” لتكون مؤهلة للمقاصة الأوروبية وبيعها أمام المستثمرين الأجانب، وإن كانت قد أجلت تلك الخطوة فيما بعد لعدة أشهر.
مخاطر عدة يحملها هذا التوجه المصري الجديد في التخلص من ثقل الديون عبر رهن أصول البلاد والتخلي عنها في سبيل تبييض وجه النظام الحاليّ من التزامات مادية عالمية، فيما تتصاعد المخاوف من تكرار سيناريو الصين – سريلانكا، ما قد يعرض السيادة المصرية للخطر ويضع اقتصادها الوطني تحت رهن الخارج.
وتلتزم القاهرة بسداد نحو 47 مليار دولار قيمة أقساط وفوائد الدين في الفترة بين أبريل/نيسان 2022 حتى نهاية مارس/آذار 2023، منها 16 مليار دولار في الربع الثاني من هذا العام (من أبريل/نيسان حتى يونيو/حزيران) و12 مليار بنهاية الربع الثالث (يوليو/تموز حتى سبتمبر/أيلول) و6 مليارات بنهاية الربع الرابع (أكتوبر/تشرين حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول) ثم 13 مليار دولار بنهاية الربع الأول (يناير/كانون الثاني حتى مارس/آذار) من عام 2023.
سياسة ليست مفاجئة
العامان الأخيران تحديدًا شهدا عددًا من الإرهاصات التي كانت تنبئ بتلك النتيجة، حيث الحل الأسهل للخروج من هذا المأزق بعدما وصلت الأمور إلى طريق مسدود، في ظل فشل السياسات الاقتصادية المتبعة في إخراج مصر من تلك الورطة التي حذر منها الاقتصاديون كثيرًا، لكن دون جدوى.
ويبدو أن التخلي نسبيًا عن مركزية الاقتصاد كان الخيار الوحيد أمام النظام بعدما وضع يده على معظم المجالات في محاولة لتعزيز سيطرته السلطوية بما يؤمن له الطريق نحو أطول فترة حكم ممكنة، وذلك عبر مسارين متوازيين: الأول بيع أسهم بعض الشركات لدى القطاع الخاص المصري، والثاني بيع أصول الدولة للخارج، سواء كانت شركات أم صناديق سيادية تابعة لدول بعينها.
ففي أغسطس/آب 2021 أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، نية الدولة لطرح أسهم شركة العاصمة الإدارية الجديدة في البورصة المصرية، بهدف جمع ما يقارب 4 تريليونات جنيه خلال عامين، في محاولة لسد العجز الناجم عن سياسة الاستدانة والوفاء بالتزامات الدولة الداخلية والخارجية، خاصة بعد تراجع رصيد الاحتياطي النقدي الأجنبي، الذي سجل نحو 37.082 مليار دولار، بنهاية مارس/آذار الماضي، متراجعًا بنحو 3.91 مليار دولار عن فبراير/شباط الماضي، أي بنحو شهر واحد فقط.
الرؤية اتضحت أكثر في أبريل/نيسان الماضي حين أعلنت القاهرة عن إيداع أسهم عدد من الشركات الحكومية والأصول المملوكة للدولة في البورصة المصرية للتداول، منها شركتان تابعتان للجيش، بأصول بقيمة 9 مليارات دولار للخضوع لعملية التسييل مرحليًا، وأخرى فورية بقيمة 15 مليار دولار.
وقبل ذلك بشهر واحد نشرت وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية، تقريرًا لها، كشفت خلاله تفاصيل اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق أبو ظبي السيادي، يتضمن بيع أصول مملوكة للدولة المصرية في عدد من الشركات للصندوق الإماراتي هي: أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية ومصر لإنتاج الأسمدة “موبكو”، (أهم شركتين في قطاع الأسمدة) والإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع بقيمة ملياري دولار، إلى جانب شراء 18% من أسهم البنك التجاري الدولي (CIB) البنك الأكبر بالقطاع الخاص في مصر، وحصة في شركة فوري للمدفوعات الإلكترونية.
صندوق مصر السيادي.. علامة استفهام
في أغسطس/آب 2018 أعلنت الحكومة المصرية عن تدشين صندوق سيادي مصري يعرف باسم “ثراء” برأس مال قيمته مليار جنيه، وبعد عامين من انطلاقه تم نقل عدد من الأصول العقارية العملاقة لملكية الصندوق أبرزها أرض الحزب الوطني المنحل على كورنيش النيل المطل على ميدان التحرير وأراضي الديوان العام لوزارة الداخلية وملحق معهد ناصر الطبي المطل على النيل ومجمع التحرير بوسط العاصمة.
وفي سبتمبر/أيلول 2019 شكلت الدولة لجنة تحت مسمى “لجنة حصر الأصول غير المستغلة” هدفها إعداد خريطة بقائمة الأصول المملوكة للدولة وغير المستغلة حاليًّا، وقد بلغت في أول حصر لها 3692 أصلًا في 24 محافظة و5 وزارات، ليبلغ إجمالي ما يمتلكه الصندوق حاليًّا من أصول الدولة الممنوحة له قرابة 30 مليار جنيه، فيما تفرع عنه أربعة صناديق فرعية يصل رأس مالها إلى 120 مليار جنيه.
وبعد تأزم الوضع الاقتصادي في ظل ضغوط صندوق النقد الدولي لتمرير سياسات إصلاحية تضمن له وفاء مصر بالتزاماتها في سداد القروض الممنوحة، أعلن الصندوق عن بيع بعض من أصول الدولة لسداد جزء من هذا الدين، وكان ذلك في يونيو/حزيران 2020، ومنذ ذلك الوقت بدأ العقد الأصولي المصري في الانفراط.
قبل ذلك بعام واحد فقط دشن صندوق مصر السيادي وشركة أبو ظبي التنموية القابضة منصة استثمارية مشتركة بقيمة تصل إلى 20 مليار دولار للاستثمار في مجموعة من القطاعات والأصول، وكانت باكورة أعمالها استحواذ الشركة الإماراتية على حصص مملوكة للحكومة المصرية في 5 شركات مدرجة في البورصة، في صفقة قدرت بقيمة ملياري دولار.
التعديلات التي أدخلها مجلس النواب على قانون “صندوق مصر السيادي” في يونيو/حزيران 2020، أجهضت حق الشعب في رقابة أصول الدولة
وفي أبريل/نيسان الماضي وقع الصندوق السيادي المصري اتفاقية مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي لتعزيز الاستثمارات السعودية في مصر، وضخ قرابة 10 مليارات دولار في صورة حزمة من المشروعات، فيما أثير الحديث مجددًا عن استحواذ السعودية على أسهم في عدد من الشركات المصرية وهو ما تحقق بالفعل خلال الأشهر الثلاث الأخيرة، أبرزها استحواذ الصندوق السعودي على حصص في 4 شركات مصرية (شركة أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية وشركة مصر لإنتاج الأسمدة وشركة الإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع وشركة إي فاينانس للاستثمارات المالية والرقمية) بقيمة 1.8 مليار دولار.
ومن البعد العربي إلى الإقليمي الدولي، ففي الشهر ذاته، أبرم الصندوق اتفاقية ثلاثية مع شركة مالطا للاستثمارات الحكومية وبنك فرنسا للاستثمار العام، لتكون نواة لإنشاء (مؤسسة صناديق الثروة السيادية في أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا) في مدينة فاليتا، عاصمة مالطا، في خطوة أثارت الكثير من التكهنات بخصوص مستقبل أصول مصر التي باتت المورد الوحيد لدى الصندوق السيادي المصري.
الديباجة الأولى ومنظومة اللوائح الأساسية الخاصة بتدشين الصندوق كانت مثار تساؤلات وتخوفات عدة، إذ وضعت كل الأمور في قبضة رئيس الجمهورية، بحسب الباحثة الاقتصادية المصرية، ماجدة حسني، التي استشهدت في مقال لها بالمادة السادسة من قانون الصندوق التي تنص على أن “لرئيس الجمهورية حق نقل ملكية أي من أصول الدولة غير المستغلة إلى الصندوق أو أي من الصناديق التي يؤسسها، والمملوكة للصندوق بالكامل بناء على العرض من رئيس الوزراء والوزير المختص، وكذلك الأصول المستغلة فتكون كالأصول غير المستغلة بإضافة الاتفاق مع وزير المالية والتنسيق مع الوزير المعني”، لافتة أن ذلك يعني أن “كل الأصول المصرية سوف تنتقل تباعًا إلى ملكية وإدارة الصندوق السيادي الذي بدأ في طرح بعضها للبيع إما لسداد الديون أو لمقايضتها بالأصول”.
ولفتت الخبيرة الاقتصادية إلى أن التعديلات التي أدخلها مجلس النواب (البرلمان) على القانون في يونيو/حزيران 2020، أجهضت حق الشعب في رقابة أصول الدولة التي كانت الحصن الحصين الحائل دون تغول سياسة الخصخصة التي تبناها الرئيس الأسبق حسني مبارك، حيث كان يسمح للمواطنين برفع دعاوى قضائية ضد بيع الدولة أصولها للقطاع الخاص، لكن اليوم الوضع بات مختلفًا، إذ اقتصر حق الطعن في ممارسات الصندوق السياسي على الجهة المالكة للأصل والجهة المنقولة إليها الملكية فقط، مستبعدة الشعب في ممارسة حقه السابق والدستوري.
منوهة أن تلك التعديلات جاءت بعد إطلاق السيسي وولي عهد أبو ظبي حينها، محمد بن زايد، الرئيس الحاليّ للإمارات، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 ما وصفاها بـ”منصة استثمارية إستراتيجية مشتركة” بقيمة 20 مليار دولار، مناصفة عبر شركة أبو ظبي التنموية القابضة وصندوق مصر السيادي.
الأمر ذاته مع صندوق “تحيا مصر” الذي أنشأه السيسي في يونيو/حزيران 2014، لجمع التبرعات من الداخل والخارج، وضم بعض أصول الدولة لديه بقرارات رئاسية دون دراسة أو بحث، وذلك لإنفاقها على بعض المجالات الداخلية، ولا يخضع لأي نوع من الرقابة على أوجه إنفاقه التي يتحكم بها الرئيس دون غيره.
السيادة ومستقبل الاقتصاد.. تخوفات كبيرة
تخطط الحكومة المصرية لبيع أكثر من 65% من أصول الدولة إلى القطاع الخاص، في إطار سياسة التخارج التي تتبناها الدولة في ضوء وثيقة “سياسة ملكية الدولة” التي أعلنها في يونيو/حزيران الماضي، وهي الوثيقة التي تكشف موقف الدولة من القطاعات الاقتصادية المختلفة وأصولها المملوكة لديها خلال السنوات الخمسة المقبلة.
الوثيقة قوبلت بالرفض من بعض الكيانات الحزبية والنخب السياسية، إذ اعتبرها القيادي بحزب “الكرامة” عماد حمدي، بأنها بشكلها الحاليّ هي تحقيق شروط صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بمنح القطاع الخاص الفرصة في المشاركة تحت مظلة الدولة، منوهًا أن تلك الإستراتيجية لا تراعي الظروف الاقتصادية والاجتماعية للدول النامية مثل مصر وفق تصريحاته لموقع “مدى مصر“.
أما حزب “الكرامة” ففي بيان له أرجع هذا التوجه الجديد إلى ما أسماه “الانحياز لسياسات الاستدانة بشكل غير مسبوق”، ما كان له من تداعيات كارثية على الاقتصاد المصري، أبرزها مضاعفة حجم الدين لأكثر من 400% خلال 8 سنوات فقط، بجانب فقدان الإدارة والتخطيط وغياب فقه الأولويات في التعامل مع المشروعات، إذ أنفقت الدولة الجزء الأكبر من ميزانيتها في مشروعات تفتقر إلى الجدوى، ما تسبب في قفزات كبيرة في معدلات البطالة والتضخم وتهاوي العملة المحلية وفقدانها لقيمتها الشرائية ومعها زيادة أعداد الفقراء.
وقد أثارت سياسة بيع أصول الدولة لسداد ديونها الكثير من التخوفات، فبجانب التداعيات الاقتصادية السلبية التي يدفع المواطن ثمنها غاليًا، التي ربما تفرغ مصر من أصولها وثرواتها عامًا تلو الآخر، هناك مخاوف أكثر خطورة، تتعلق بقتل طموحات البلاد ووأد أحلام الشعب في نهضة وطنه، كما هو الحال في حلم “منافسة موانئ العالم في قدراتها اللوجستية” في ظل ما تنعم به مصر من موانئ ذات إمكانيات وقدرات كبيرة، تطل على بحرين من أكبر بحار العالم، الأحمر والأبيض المتوسط، بما يمكنها من منافسة موانئ العالم الشهيرة، وهو الحلم الذي وأدته الإمارات بهيمنتها على الموانئ المصرية في إطار سياسة التخارج والخصخصة، مقابل حفنة من الدولارات، ما أثار غضب قطاع كبير من المصريين.
حين ترهن الدولة أصولها من أجل سداد ديونها فإنها بذلك تلقي برأسها تحت مقصلة الدائنين، وهو ما يستتبعه ارتهان سياسي واقتصادي
التخوف الأبرز من تلك الإستراتيجية يتعلق بتهديد سيادة الدولة المصرية واستقلالية قرارها الوطني، فحين ترهن الدولة أصولها من أجل سداد ديونها فإنها بذلك تلقي برأسها تحت مقصلة الدائنين، وهو ما يستتبعه ارتهان سياسي واقتصادي، وإن كان بشكل غير مباشر، يجعل مستقبل البلاد على المحك، وهناك الكثير من النماذج التي سقطت في هذا الفخ ومن الصين ذاتها التي يبدو أن الأمر تحول لديها إلى إستراتيجية لتعزيز نفوذها لدى الدول التي تقرضها، مستغلة الأزمات الاقتصادية التي تواجهها.
يراهن النظام الحاليّ على عامل الوقت في تمرير إستراتيجيته الجديدة، فتبييض وجهه والتخلص من ربقة الديون هو الهدف الأول الذي يسعى له في أقصر وقت ممكن، بصرف النظر عن أدوات هذا التخلص وتداعياته التي من المتوقع أن يتلمس المواطن تأثيراتها مستقبلًا، بما يعطيه الوقت الكافي حتى لو كانت الأجيال القادمة هي الضحية التي ستدفع الفاتورة بأكملها.
اعتاد نظام عبد الفتاح السيسي النظر تحت الأقدام دون تبني أي رؤى مستقبلية، بحثًا عن مجد شخصي أكثر منه مراعاة لمصالح الدولة العليا، وهو ما أعلنه الرئيس بذاته حين أكد عدم اعتماده على دراسات الجدوى في بحث المشروعات والخطط التي تتم في معظمها بالأمر المباشر من الجهات العليا دون نقاش أو جدال، وعليه فإن استتباب الوضع حاليًّا هو الأهم حتى لو كان القادم أكثر سوءًا، وهو ما يفسر تبني السلطات الحاكمة لسياسة الاقتراض والاستدانة متوسطة وطويلة الأجل.
وفي الأخير.. لن تكون الصين الدولة الوحيدة التي ستبيع مصر لها أصولها من أجل سداد ديونها، فالقائمة طويلة: 11.2 مليار دولار لصندوق النقد الدولي و10.6 مليار دولار للبنك الأوروبي، فيما تمتلك الدول العربية 21.4% من إجمالي الديون المصرية: 8.3% للسعودية و8.1% للإمارات و5% للكويت، بينما تساهم أكبر 5 بنوك أعضاء فى دول نادى باريس بقيمة 9.4 مليار دولار (3 مليارات دولار من ألمانيا و2.5 مليار من اليابان و1.5 مليار من فرنسا و1.3 مليار دولار من أمريكا و1.1 مليار من بريطانيا)، بحسب إحصاءات البنك المركزي في بداية 2020، ما يعني أن اختيار الحل السهل لسداد الديون عبر بيع أصول الدولة سيكون كارثيًا وهو ما يحذر منه الخبراء والمحللون دون أي استجابة من الحكومة.