عندما تستمع إلى المركب الإضافي “سلاح الجو” مخصصًا بالإشارة إلى دولة ما، يطرأ إلى ذهنك مباشرة معان ومفردات تنتمي إلى مجال: الطيار، الطائرات المقاتلة، المروحيات، المسيرات، القواعد الجوية، التأمين الإستراتيجي، تكلفة الطلعة، لكن يبدو أن ذلك تغير قليلًا في “الجمهورية الجديدة” بمصر.
إذ بات سلاح الجو المصري، في النطاق الإستراتيجي الشمالي الغربي، مشرفًا، مع مقاولين وعمال وشركات خاصة، على واحد من أبرز المشروعات الزراعية التي تتبناها الحكومة، باقتراح السيسي، تحت اسم: “مستقبل مصر”.
ما القصة؟
أحد أبرز المشروعات، التي توصف بأنها قومية، نظرًا لتوسع أغراضها وحجم تكلفتها وعدد العاملين بها، هو ذلك المشروع الذي دشن السيسي مؤخرًا موسم حصاد القمح منه بالقرب من الساحل الشمالي الغربي لمصر، في المنطقة الواقعة في نطاق محافظات الإسكندرية والبحيرة ومطروح، تحت اسم مستقبل مصر، الذي يتفرع عن “الدلتا الجديدة”.
ما يتذكره الرأي العام عن تلك المناسبة تحديدًا، هي التصريحات التي أطلقها السيسي، يمينًا ويسارًا، خلال الافتتاح الذي تجاوزت مدته 3 ساعات، شانًا خلالها هجومًا على أشخاص ومواقف لم يسمها، لكن المصادر الإعلامية اجتهدت في فهمها وتحليلها.
على رأس تلك التصريحات، المرسلة إلى مجهول، كان استنكار السيسي لقيام أحدهم – لم يُسمه – بالتحدث إلى الشعب المصري، واضعًا قدمًا فوق أخرى، متهمًا إياه بالحديث في موضوعات كبرى دون علم أو فهم أو “مذاكرة” بتصريح السيسي، فيما فسر حينها بأنه تعريض بالمقابلة المصورة التي أجراها النائب البرلماني المعارض أحمد طنطاوي مع “بي بي سي”، ووجه خلالها نقدًا لاذعًا للطريقة التي يحكم بها السيسي البلاد.
اقتصر دور الوزراء المدنيين المعنيين بالملف على التعقيب على كلمة مدير المشروع، مشيدين بجهوده والقوات المسلحة، في إخراجه إلى النور
في نفس السياق والمناسبة، كان السيسي قد استنكر جزع بعض الفئات في المجتمع المصري من غلو أسعار بعض المنتجات، مذكرًا إياهم بما حدث للرسول وصحابته، حينما حوصروا أعوامًا في شعاب مكة، ما اضطرهم إلى أكل “ورق الشجر”، وهو ما لم يصل إليه المصريون بعد، إذ يدشنون مشاريع عملاقة في ظروف عالمية صعبة، وفقًا للسيسي.
العقيد بهاء الغنام
كانت تلك هي القشرة الخارجية التي غلفت المقابلة وسلط عليها الإعلام الضوء بكثافة، ربما فاقت الحدث الأبرز، وهو تدشين موسم حصاد القمح في تلك المنطقة الزراعية الجديدة كليًا، التي تستهدف، بحسب البيانات الرسمية، زراعة أكثر من مليون فدان، بتكلفة إجمالية قد تصل إلى 300 مليار جنيه مصري مبدئيًا كما قال السيسي.
اللافت أن من قدم العرض التقديمي الرئيس والمطول عن المشروع لم يكن وزير الزراعة ولا وزير الموارد المائية والري ولا وزير التموين، وإنما قدم العرض التقديمي ضابط طيار يدعى بهاء الغنام، كان على رتبة “مقدم” حينها، ثم ترقى حاليًّا ليصبح “عقيدًا”، بصفة رسمية هي: “المدير العام المسؤول عن مشروع مستقبل مصر”.
وكما قدم العقيد بهاء نفسه، في ثوبه الجديد شكلًا وموضوعًا، حيث يرتدي الزي المدني خلال متابعة المشروع، فإنه يشرف، ممثلًا عن القوات الجوية، التي كان يرأسها في ذلك الوقت الفريق طيار محمد عباس الذي حضر بالزي العسكري، على الأعمال التي يقوم بها الجيش والوزارات والجهات المحلية المعنية وشركات القطاع الخاص المساهمة في المشروع الذي سيشغل عمالة غير مباشرة، بحلول 2024، قد تصل إلى 300 ألف عامل، وفقًا للعقيد.
كأي مسؤول في المجال الزراعي، تحدث العقيد طيار بهاء الغنام، لمدة ساعة تقريبًا، عن تفاصيل فنية دقيقة تخص اختيار التربة وطرق الري الحديث وانتقاء التقاوي والتركيز على تنويع المحاصيل والصوب الزراعية وتعظيم الاستفادة الاقتصادية من المشروع، حتى إن الوزراء المدنيين المعنيين بالملف اقتصر دورهم على التعقيب على كلمة مدير المشروع، مشيدين بجهوده والقوات المسلحة، في إخراجه إلى النور.
وبالرجوع إلى تاريخ المشروع، سنجد أن السيسي قد كلف ذلك الضابط بحلول أبريل/نيسان 2017 تقريبًا بإدارة المشروع، ومنذ ذلك الوقت، والسيسي يجتمع به، حيث ظهر الغنام في بعض اللقاءات مرتديًا زيه العسكري الدال على طياري سلاح الجو، وذلك إضافة إلى إسناد متابعة مشروعات زراعية عملاقة له، مثل مشروعات الصوب الزراعية في المنيا وبني سويف والفيوم.
لماذا ضابط؟
كما شرح السيسي بشكل رئيس في تلك المناسبة، فإن ذلك المشروع جزء من عدة مشروعات متكاملة تهدف إلى إعادة تخطيط الديموغرافيا المصرية، على أسس جديدة، مختلفة عن الفلسفة السابقة التي تبنتها الجمهورية القديمة في مشروعاتها، بحيث تراعي مشروعات السيسي الأبعاد الأمنية والاقتصادية الخاصة بتعظيم الربح والتكامل والسرعة الهائلة في التنفيذ.
أبرز تلك المشروعات التي تعيد رسم خريطة البلاد، هي العاصمة الإدارية الجديدة، التي تضم مقرات منيفة لحكم البلاد وإدارتها شرقًا بتكلفة مبدئية تصل إلى 45 مليار دولار أمريكي، ومشروع الدلتا الجديدة غربًا الذي تشرف القوات الجوية على نصفه ممثلًا في “مستقبل مصر” غربًا بتكلفة 300 مليار جنيه، إضافة إلى مشروع إعادة رسم الريف المصري، الذي قال السيسي إن تكلفته قد تصل إلى تريليون جنيه.
تتولى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة الإشراف على تنفيذ تلك المشروعات التي تُسند إلى شركات مدنية متعاونة مع الجيش من الباطن
ويتأرجح دور الجيش في تلك المشروعات ما بين الإشراف والمشاركة في التنفيذ والملكية، إلا أن الثابت فيها جميعًا أن هناك دورًا معتبرًا للجيش، وهو ما يمتد أيضًا إلى مشروعات إعادة تخطيط شمال سيناء (شرق) بما يحول دون اتخاذها منطلقًا لجماعات التمرد المسلح ذات الصفة القبلية والإسلامية مجددًا.
تتولى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة الإشراف على تنفيذ تلك المشروعات التي تُسند إلى شركات مدنية متعاونة مع الجيش من الباطن، ويمتلك جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للجيش شركات كبرى مساهمة في تلك المشروعات، كما تأسست شركات عسكرية متخصصة لتنفيذ حلم السيسي الشخصي في إعادة رسم البلاد على أسس أمنية وربحية فيما أطلق عليه “الجمهورية الجديدة”، وذلك على غرار شركة العاصمة الإدارية التي يرأسها لواء وتمتلك 49% من أعمال العاصمة الجديدة.
من بهاء إلى بهاء!
يذكرنا اسم الضابط بهاء الغنام الذي أسند إليه السيسي المشروع الزراعي العملاق غرب البلاد، بضابط آخر، بصفة عسكرية أعلى، كان السيسي قد أسند إليه، في الأعوام الأخيرة، طيفا واسعًا من المهمات المدنية، في ملف إدارة القطاع الصحي، وهو اللواء بهاء زيدان.
خلع اللواء زيدان زيه العسكري، حيث كان لواءً طبيبًا ومديرًا لمجمع الجلاء الطبي العسكري في القاهرة، إلى أن أسند إليه السيسي حقيبة مستحدثة هي “هيئة الشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي والتكنولوجيا”، التي أمر السيسي بإنشائها أغسطس/آب 2019، ولا يزال اللواء زيدان قابعًا على رأسها.
تحتكر تلك الهيئة المستحدثة مؤخرًا إبرام التعاقدات الحكومية الخاصة بشراء المستلزمات الطبية من داخل البلاد وخارجها، وتنفرد بوضع الميزانيات المخصصة لذلك، وهي هيئة ربحية، زاد الحديث عنها خلال جائحة كورونا، لإشرافها أيضًا على المخازن والمستودعات الطبية بطول البلاد وعرضها.
بعكس ما تروجه السردية الرسمية عن وجود خطة تدريجية للتخارج العسكري من القطاعات المدنية، لا سيما تلك القطاعات الخاصة بالاقتصاد والمال، فإن التحركات الرئاسية، في الأسابيع الأخيرة، لا تشي إلا بمزيد من التوسع العسكري
تشي تلك الوقائع كذلك بأن هناك خطة رئاسية لتذويب المسافة بين العسكري والمدني، من المنبع، على نحو يصب في صالح العسكري كليًا، إذ تتزامن تلك الخطوات مع نشاط مكثف من الجهات التعليمية العسكرية للتوسع في الكليات المدنية، إضافة إلى تدشين كلية طب عسكرية متخصصة، وصولًا إلى اعتماد السيسي قرارًا أثار ضجة كبيرة في الأوساط المصرية يتعلق بتعزيز شهادات خريجي الكليات العسكرية بشكل رأى فيه المدنيون تعديًا على مساحاتهم.
يتيح الإجراء الأخير الذي أعلن عنه رسميًا منتصف يوليو/تموز الماضي، لخريجي الكليات العسكرية، الجمع بين شهاداتهم المتخصصة التي درسوها في الكليات العسكرية على مدار 4 أعوام، وشهادات مدنية رفيعة تتطلب – وحدها – في الجامعات المدنية التابعة لوزارة التعليم العالي مسارًا دراسيًا لمدة 4 أعوام.
كأن يحصل طالب الكلية الحربية، في نهاية سنته الرابعة على شهادة البكالوريوس في “العلوم السياسية”، إلى جانب البكالوريوس في العلوم العسكرية، دون أن يخوض مسارًا دراسيًا إضافيًا مثل زملائه الذين يطمحون في الجمع بين أكثر من شهادة، مما يخل بتكافؤ الفرص ويعضد موقف النخب العسكرية الحاكمة للبلاد.
لا تراجع عن العسكرة
بعكس ما تروجه السردية الرسمية عن وجود خطة تدريجية للتخارج العسكري من القطاعات المدنية، لا سيما تلك القطاعات الخاصة بالاقتصاد والمال، فإن التحركات الرئاسية، في الأسابيع الأخيرة، لا تشي إلا بمزيد من التوسع العسكري، إشرافًا وتنفيذًا وملكية، في جسد الاقتصاد المصري المريض.
حضر اجتماعات إطلاق تلك المشاريع القيادات العسكرية الكبرى المعاونة للسيسي مثل اللواء أمير سيد مستشاره لشؤون التخطيط العمراني واللواء أركان حرب هشام السويفي رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة
أبرز المشروعات الكبرى التي أعلنها السيسي خلال الأيام الماضية، وتتسم بصبغة عسكرية، بعد افتتاح موسم حصاد القمح الذي أشرف عليه الضابط عقيد بهاء الغنام، هي مزيج من الأموال المضخوخة في قطاعات البتروكيماويات والألبان والأجبان والأعلاف والقطاع الصحي.
فقد كشف السيسي، بالتزامن مع وثيقة تقليص ملكية الدولة التي أطلقتها الحكومة مؤخرًا لبيع حصص في أصول مصرية لمستثمرين خارجيين بغرض تدبير اعتمادات مالية دولارية لسد الديون العاجلة، عن مشروع ضخم في قطاع الألبان على مساحة 40 ألف متر مربع في الإسكندرية، بالإضافة إلى مشروع البولي إيثيلين في الصعيد.
إلى جوار السيسي، فقد حضر اجتماعات إطلاق تلك المشاريع القيادات العسكرية الكبرى المعاونة للسيسي مثل اللواء أمير سيد مستشاره لشؤون التخطيط العمراني واللواء أركان حرب هشام السويفي رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة واللواء وليد أبو المجد مدير عام جهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، دون مشاركة من أي شخصية مدنية، من الوزراء أو المحافظين المعنيين بتلك الملفات، وهو ما يكشف الأدوار الجديدة للوزراء المدنيين في الجمهورية الثانية، كـ”سكرتاريا” للضباط.