عرف السودان في العقود الأخيرة انتشار الفساد بأشكاله المختلفة وضروبه الكثيرة، خاصة في ظل تزاوج الفساد السياسي والفساد الاقتصادي، ما جعل هذا البلد العربي يتصدّر قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم.
نتيجة هذا الفساد، زادت ثروة المسؤولين والطبقة الحاكمة على حساب الشعب، رغم حديث الحكومات المتعاقبة على البلاد عن تشكيل هيئات عليا للشفافية ومكافحة الفساد بصلاحيات واسعة، وتبني إجراءات حاسمة ضد الفساد.
مع الوقت تشكلت طبقة سياسية دمرت مفاصل الدولة وأخرجت رأس المال التقليدي من السوق واستبدلته بطبقة طفيلية يتزعمها رجال أعمال استفادوا من حالة العبث وتغول العسكر ودمج الحزب بالدولة، فأثرت وراكمت الثروات.
نحط الرحال هذه المرة ضمن ملف “الأوليغارشية العربية” لنون بوست في السودان للحديث عن الأوليغارشية التي تشكلت مع بدء حكم الرئيس جعفر نميري وسيطرت على مقدرات البلاد وتحالفت مع العسكر واقتحمت كل المجالات كالذهب وتجارته، واحتكرت تصدير ثروات البلاد.
بداية تشكل الأوليغارشية في السودان
صبيحة يوم 25 مايو/أيار 1969، أعلن العقيد أركان حرب جعفر نميري الذي يُنتسب إلى قبيلة الدناقلة في شمال السودان استيلاء القوات المسلحة السودانية على السلطة في البلاد، ليصبح بعد ذلك أول من حاز لقب رئيس جمهورية في السودان.
خلال فترة حكمه التي امتدت إلى مارس/آذار 1985، حاول النميري السيطرة على مفاصل الدولة وإحكام سيطرته عليها وإدارتها كأنها ملكية خاصة له، فحاول تقريب بعض الشخصيات السياسية والعسكرية إليه، فضلًا عن بعض رجال الأعمال.
أراد النميري من خلال تقريب رجال أعمال غير تقليديين إليه، خلق بطانة اقتصادية تدعمه وتقوي حكمه، في مواجهة محاولات الانقلاب المتكررة ضده وغضب الشارع المتصاعد ضد سياساته الأمنية والاقتصادية التي أربكت البلاد.
تواصل نهج تقرب السلطة من رجال الأعمال، حتى بعد سقوط حكم النميري واعتلاء عبد الرحمن سوار الذهب سدة الحكم وبعده أحمد الميرغني، ثم عمر البشير الذي دعم في سنوات حكمه الطويلة هذه السياسة، ما شكل طبقة من رجال الأعمال المسيطرين على اقتصاد البلاد.
تمتلك أوليغارشية السودان غالبية الصناعات الموجودة في البلاد، ومنها شركة جياد الصناعية التي تعمل في صناعة السيارات والشاحنات والدراجات النارية
دعمت الأنظمة المتعاقبة على حكم السودان منذ الاستقلال إلى يومنا هذا رجال الأعمال عبر خصخصة عدد من مؤسسات القطاع العام ومرافقه لصالحهم، رغم الخسائر الكبرى التي رافقت بعض عمليات الخصخصة وقدرت بمليارات الجنيهات.
طالت عمليات الخصخصة الخطوط الجوية السودانية، كما تم خصخصة المصارف المحلية وقبلها باعت الحكومة السودانية أسهمها في مصنع أسمنت ربك جنوبي العاصمة، وحصتها في مصنع أسمنت عطبرة شمالي الخرطوم، وشملت الخصخصة شركات في قطاعات الاتصالات وإدارة المياه.
كما اعتمدت الأنظمة منهج شراء العضوية بالمال مبكرًا منذ أيام الرئيس جعفر نميري، مستفيدة من تمويلات قدمها بنك فيصل الإسلامي، فانضمت شرائح من كبار ضباط القوات المسلحة إلى الحكام، ومعهم مجموعات كبيرة من رأس المال الناشئ منذ نهاية السبعينيات.
تحالف الأنظمة السياسية مع رجال العسكر ورجال الأعمال الجدد، سمح بتمدد الفساد داخل أروقة الدولة السودانية، وخلق مجموعات صغيرة يمكن أن يطلق عليها “الطبقة الأوليغارشية الحديثة في السودان”، حيث احتكرت السلطة والمال، بينما الشعب يعاني الفقر والتهميش.
لدعم هذه الفئة الجديدة، أصدر جعفر النميري مرسومًا بتشكيل “التعاونية الاقتصادية العسكرية” يحدد أهداف المؤسسة العسكرية في أربع نقاط وهي: استعمال الموارد العسكرية الفائضة لدعم اقتصاد البلاد وتجويد عيش أفراد القوات المسلحة وأعضاء أسرهم وتجهيز الجيش بالمعدات والأجهزة اللازمة وتحسين مستوى الأداء الإداري والتقني لأعضاء الجيش.
هذا المرسوم حول الجيش إلى طبقة ذات هوية اقتصادية-اجتماعية قائمة الذات ترتبط مصالحها بشكل بنيوي بمصالح النظام القائم ورجال الأعمال الداعمين له، وهو ما سمح بظهور فئة من رجال الأعمال هم في الأصل ضباط استعلامات أو أفراد من عائلاتهم يستغلون بشكل استباقي المعلومة الاقتصادية الحساسة وغير المتوافرة للعموم.
سمح هذا المرسوم وباقي التسهيلات التي تمنحها الدولة لهذه الفئة من رجال الأعمال باحتكار السوق والفرص وتكوين ثروات مالية كبيرة، مكنتهم من خلق نفوذ “وهمي” داخل المجتمع السوداني.
تدعم هذا الأمر أكثر في عهد الرئيس عمر البشير، فقد قرب إليه مجموعة من رجال الأعمال – هم في الأصل ضباط بالجيش والمخابرات – للسيطرة على البلاد وعلى قطاعات الدولة الربحية، على رأسها قطاع الاتصالات، ما ساهم في إطالة أمد حكمه لأكثر من 3 عقود.
حتى بعد الإطاحة بنظام البشير، بقي الوضع على حاله، فقد تحالفت هذه الفئة مع قادة العسكر والقادة الجدد للبلاد وبعض القوى المتمردة لحماية مصالحها وتوسيع نفوذها، رغم المظاهرات الشعبية الكبيرة المنددة بها والمطالبة بمحاسبتها.
المجالات التي تسيطر عليها
نتيجة هذه السياسات تشكل تحالف قوي بين المال والسلطة، فتكونت مجموعات صغيرة تسيطر على الشركات العامة والخاصة واحتكرت الإنتاج وتصدير الثروة والتمتع بعائداتها، تحت حماية الدولة وأجهزتها التي تسهر على حماية المحتكرين والمتنفذين.
برزت هذه الفئة خصوصًا في عهد عمر البشير، وتمدد نشاطها لمجالات عدة، إذ انتشرت الشركات التي تعود ملكيتها لضباط في الجيش تحولوا إلى رجال أعمال، في مجالات حيوية تشمل شركات الأمن الغذائي والكيميائيات والخدمات التقنية الطبية المحدودة والتأمين وإعادة التأمين.
كما عملت أيضًا في المجال البنكي وسيطرت على بنوك كبيرة مثل بنك أم درمان المدني الذي يتمتع بحماية من البنك المركزي ويمتلك أكبر رأس مال في البنوك التجارية السودانية، وغالبية أعضاء المؤسسة العسكرية يمتلكون حسابات فيه.
نتيجة هذا الفساد المستشري في أعمدة الدولة، دائمًا ما يحل السودان بالمراتب الأولى في ترتيب الدول التي يستشري فيها الفساد
كما تمتلك أوليغارشية السودان غالبية الصناعات الموجودة في البلاد، ومنها شركة جياد الصناعية التي تعمل في صناعة السيارات والشاحنات والدراجات النارية، وتمتلك هذه الفئة استثمارات كبيرة جدًا تقدر بعشرات مليارات الدولارات، ما جعلها تتحكم في السوق وتسيطر على كل شيء هناك.
زادت هيمنة هذه الفئة مع إقرار منظومة “الصناعات الدفاعية”، في أبريل/نيسان 2017، حين مكّن النظام هذه الهيئة من التوسع في النشاطات الاقتصادية المدنية، وجعلها فوق القانون، فالرئيس له أن يستثمر أموالها دون مراجعة من أي جهة.
بذلك توسع نشاط المؤسسة العسكرية ومن ورائها رجال الأعمال المسيطرين على اقتصاد البلاد، فشملت شركات عدة منها توباز للصناعات المعدنية وزادنا للاستثمار الزراعي والخرطوم للتجارة والملاحة وشيكان للتأمين.
نفهم من هنا أن الطبقة المحيطة بعمر البشير التي أطلقنا عليها الأوليغارشية السودانية سيطرت سيطرة شبه كاملة على السوق في هذا البلد العربي الغارق في الأزمات من تجارة دقيق الخبز حتى الصناعات الثقيلة.
تشير يعض التقديرات إلى وجود نحو 200 شركة كبرى في أيدي وزراء نظام عمر البشير الذين يوافقون على عقود مربحة لأفراد العائلة أو الحلفاء السياسيين أو شركاء الأعمال، وفي ظل عدم وجود لوائح إفصاح مالي محددة بوضوح للمسؤولين الحكوميين ولا أي قوانين لحرية المعلومات من شأنها أن توفر وصول الجمهور إلى البيانات التي يحتفظ بها النظام، فمن الصعب معرفة العدد الحقيقي للشركات التابعة لحاشية البشير.
الفساد عماد أوليغارشية السودان
بعد الإطاحة بنظام عمر البشير، كُشفت ملفات فساد عديدة محيطة بأوليغارشية السودان، كانت إحدى أكثر الممارسات المربحة لحاشية الرئيس عمر البشير طيلة فترة حكمه التي استمرت ثلاثة عقود هي جعل شركاتهم تعمل كوسطاء لتزويد السودان بالسلع الإستراتيجية بتمويل من خلال قروض حكومية من بنك التنمية الآسيوي أو من دول الخليج مثل الكويت وقطر أو المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة أو البنوك الإفريقية.
استخدمت جهات فاعلة علاقاتها السياسية لتحويل أجزاء كبيرة من هذه المنح والقروض الممنوحة بهدف تخفيف المشاكل الاقتصادية في السودان، لزيادة تجارتهم ومراكمة الثروة، يبرز هنا اسم نجل عمر البشير بالتبني الذي أدى احتياله إلى ديون تصل إلى 728 مليون دولار على السودان، فقد استخدم أيمن المأمون صلاته بالنظام لتأسيس شركة تؤمن عقودًا متعددة لاستيراد سلع بأسعار متضخمة.
أدى ذلك إلى ارتفاع تكاليف الأسمدة والمنتجات البترولية المكررة والسلع الاستهلاكية الأساسية الأخرى للمواطنين العاديين، كما أدى إلى ديون ضخمة على السودان، ويشير تحقيق استقصائي أجري في الغرض أن المأمون أنشأ إلى جانب طرف آخر من النظام وسطاء خليجيين وروابط بنخبة الحكومة السودانية لتأمين عقود ممولة من خطوط ائتمان ممنوحة للبلاد من بنك التجارة والتنمية لشرق وجنوب إفريقيا.
أيمن المأمون هو ابن اللواء مأمون حسن محجوب الذي كان صديقًا مقربًا من عمر البشير، وبعد وفاة حسن محجوب تبناه البشير وبدأ صعوده في مجال المال والأعمال عبر شراكة مع عبد الله البشير في كلية المدائن الطبية وشركة بدر فور سيزونز التي جرى تسجيلها في الإمارات.
من الأسماء البارزة أيضًا وزير الخارجية في عهد البشير علي كرتي الذي يطلق عليه “إمبراطور الأسمنت والحديد والأخشاب”، نتيجة استحواذه واحتكاره لتجارة مواد البناء في السودان، ما مكنه من كسب أموال كثيرة.
عمل كرتي في البداية قائدًا لقوات الدفاع الشعبي، ثم أصبح وزير الدولة للشؤون الخارجية قبل أن يصبح وزيرًا للخارجية، وساعده منصبه في التسويق التجاري على المستوى الداخلي والخارجي، فاستغل منصبه في الدولة للحصول على امتيازات عديدة والاستحواذ على أراضي الدولة مجانًا.
فساد علي كرتي، دفعه إلى التضييق على المؤسسات الحكومية العاملة في قطاع البناء حتى تستفيد شركاته من الأمر، وهو ما ساهم في إفلاس العديد من الشركات الحكومية على غرار شركة البحر الأحمر التي كانت تنافس شركات “كرتي”.
كما كشفت “أوراق باندورا” عن تحالف ضم رجالًا مقربين من البشير وكيفية السيطرة على أسهم مجموعة سوداتل للاتصالات بالسودان، إذ كشفت الوثائق كيف سيطر رجال البشير على عالم الاتصالات في السودان، على رأسهم رجلا الأعمال عبد الباسط حمزة وعبد العزيز عثمان، وتأسيسهما العديد من الشركات داخل البلاد وخارجها من ذلك شركات في جزر العذراء البريطانية، للتهرب من القانون.
بدأ عبد الباسط حمزة ضابطًا صغيرًا في القوات المسلحة، وهو ينتمي للحركة الإسلامية، في سنة 1985 انضم لمنظومة العمل الخاص في التنظيم العسكري، وتمكن عبر عمله من الدخول في ملفات حساسة، وسيطر على أموال تقدر بأكثر من ملياري دولار.
مكنه قربه من نظام عمر البشير من مجاورة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي حلّ في السودان هاربًا سنة 1993، تمكن حمزة من كسب ثقة ابن لادن وحصل نتيجة ذلك على إدارة مشروعات بنية تحتية نفذها زعيم القاعدة في السودان مثل طريق شريان الشمال الذي يربط العاصمة الخرطوم مع الولايات الواقعة شمال البلاد.
أواسط التسعينيات التحق عبد الباسط حمزة بجهاز الأمن والمخابرات، وتمكن من التغلغل في قطاعات عدة والاستحواذ على أراض حكومية في مناطق مميزة بالعاصمة الخرطوم إلى جانب الاستحواذ على الأراضي الزراعية، وذلك بمساعدة الحركة الإسلامية وأقارب البشير.
تحول حمزة في ظرف وجيز إلى رجل أعمال كبير، ينشط في العديد من القطاعات ويسيطر على عدد كبير منها أهمها قطاع الاتصالات الذي يدر أموالًا كثيرةً، حيث تم منحه سنة 2002 رخصة إدارة ثاني شبكة اتصالات التي انتقلت فيما بعد لشركة “إم تي إن”.
أما عبد العزيز عثمان، فهو الآخر إسلامي وعضو بحزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقًا، ترأس مجموعة سوداتل للاتصالات المحدودة (أكبر شركة اتصالات عامة في السودان) إلى جانب عبد الباسط حمزة، عمل عثمان كثيرًا مع نظام البشير ومكن النظام من التنصت على معارضيه ومراقبة تحركاتهم.
نتيجة ذلك، غنم عبد العزيز عثمان، الأموال الطائلة واستغل قربه من النظام لتحقيق امتيازات عديدة دون وجه حق، وفي عهد إدارته لسوداتل مع عبد الباسط حمزة، بيعت شركة موبيتيل العامة (شقيقة لسوداتل) بقيمة 1.3 مليار دولار، وذهب جزء كبير من الصفقة لصالح البشير.
تم استثمار هذه الأموال في غرب إفريقيا، لصالح عبد الباسط حمزة وآخرين وأسرة الرئيس السابق عمر البشير، ما مكنهم من جني أموال طائلة كان السودانيون في أمس الحاجة لها، لكن اهتمام هؤلاء كان مراكمة الثروة فقط.
قبل سنة أصدرت محكمة سودانية، حكمًا بالسجن 10 سنوات ضد رجل الأعمال عبد الباسط حمزة، فأدانته بتهم الثراء الحرام والمشبوه ومخالفة قانون غسل الأموال ومكافحة الإرهاب وعدم تقديمه إبراء ذمة مالية والإدلاء ببيانات كاذبة للموظف العام، وقبل ذلك، أصدرت لجنة إزالة تمكين نظام الثلاثين من يونيو/حزيران، وهي لجنة حكومية معنية بتفكيك نظام البشير، قرارًا بتجريد حمزة من كثير من ممتلكاته، وأصدرت قرارات فورية باسترداد نحو 1.2 مليار دولار أمريكي لصالح خزينة الدولة، وهي عبارة عن أسهم في شركة اتصالات وأراض سكنية وزراعية.
لم يكن حمزة رجل الأعمال الوحيد المتابع من القضاء السوداني، إذ يُتابع الزبير أحمد الحسن، أحد وزراء مالية النظام، الذي شغل منصب الأمين العام للحركة الإسلامية، في قضية تجاوزات إدارية تتعلق ببيع خط طيران هيثرو الذي يربط الخرطوم بلندن من دون توريد أمواله للخزينة العامة، ويحاكم معه في هذه القضية وزير المعادن كمال عبد اللطيف.
كما يتهم عبد اللطيف في قضايا أخرى منها الاستيلاء على أراض مجانًا والاستحواذ على أموال تابعة لشركات الوزارة، ما جعلها تسجل خسائر مالية كبرى أفقدتها مكانتها في السوق المحلي، كما يتهم بابتزاز مديري الشركات الخاصة.
أطلق نظام البشير العنان أمام جماعته للاستيلاء على ذهب البلاد، على غرار محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي”
فيما يواجه وزير آخر للمالية هو علي محمود، اتهامات باختلاسات في هيئة النقل النهري، كما يواجه ملفات فساد حاكم ولاية جنوب دارفور الأسبق الحاج عطا المنان، بينما يحاكم عثمان يوسف كبر بتهمة تجاوزات مالية في أثناء تقلده منصبه.
في دليل على فسادهم وحماية النظام لهم، لم يصرح جماعة البشير من وزراء وولاة ومحافظين ومستشارين، بذممهم المالية، طيلة ثلاثين سنة، فرغم صدور قانون الثراء الحرام عام 1989 وتكوين الهيئة المنفذة للقانون التي تأسست في نفس عام صدور القانون، لم يتقدم مسؤول لتبرئة ذمته المالية.
إلى جانب هؤلاء نجد مدير مكاتب رئيس الجمهورية في السودان الفريق طه عثمان الحسين، الذي نسج هو الآخر على منوال باقي الفريق المحيط بالبشير، وتنقل عثمان حسين بين مفاصل الدولة والحزب، إذ شغل منصب مدير مكتب الأمين العام للمؤتمر الوطني ثم انتقل إلى إدارة مكتب الرئيس عمر البشير بالحزب.
تمكن عثمان الحسين بفضل قربه من النظام من الاستيلاء على أموال طائلة دون وجه حق، كما سخر مقدرات الدولة لفائدة مصلحته الخاصة خاصة في نهاية الألفية الأولى، ما عاد بالسلب على الدولة السودانية التي كانت تعاني من أزمات عدة في تلك الفترة.
يتهم صديق البشير بامتلاك حسابات مفتوحة باسمه في المصارف الإماراتية والسعودية، ضمّت عشرات الملايين من الدولارات لا يُعرف مصادرها وحركة صرفها، كما يمتلك عددًا من الوحدات السكنية في منطقة جميرة بدبي.
هذا دون أن ننسى فساد عمر البشير الذي يتهم باختلاس مليارات الدولارات من خزينة الدولة وإدارة شركات تابعة له ولأسرته تعمل في استيراد السلع الاستهلاكية الأساسية والأسمدة والمنتجات النفطية للسودان عن طريق صفقات ممولة من قروض تسهيلات ائتمانية بلغت مئات ملايين الدولارات حصل عليها السودان من بنك التجارة والتنمية لدول شرق وجنوب إفريقيا.
وعادة ما تعمل شركات البشير وأسرته كوسطاء في التزويد بالسلع الإستراتيجية الممولة عبر القروض المقدمة لحكومة السودان من البنوك أو الدول، حيث يجنون أموالًا طائلة من تضخيم أسعار الشحن والأرباح الخاصة بهم في العقود التي يحصلون عليها بصورة شبه احتكارية.
وتشير تقديرات إلى أن حجم العقارات والممتلكات التي استولى عليها رجال نظام عمر البشير تتراوح بين 3.5 مليار و4 مليارات دولار، وقد تم مصادرة العديد من الشركات والعقارات والأراضي والفنادق والمراكز التجارية والمزارع التابعة لهم عقب سقوط نظام البشير.
نتيجة هذا الفساد المستشري في أعمدة الدولة، دائمًا ما يتصدّر السودان الدول الأكثر فسادًا، وفق “مؤشر مدركات الفساد”، الذي تعده منظمة الشفافية الدولية، إذ لا يهتم النظام بمكافحة الفساد، ذلك أنه أحد أسباب استدامة حكمه.
حميدتي.. عَصبُ الأوليغارشية
هناك اسم، برز في عهد عمر البشير وبعده أيضًا، نعني هنا محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي” الذي يقود مجموعة عسكرية تعرف باسم قوات الدعم السريع، فقد أطلق البشير العنان لحميدتي وجماعته للاستيلاء على ذهب البلاد، ما مكنه من جني أموال كثيرة تحت أعين الدولة.
وأشار تحقيق استقصائي إلى أن حميدتي يمتلك مع أسرته شركة تنقل سبائك ذهب بملايين الدولارات إلى دبي، وأكد التحقيق أن مجموعة الجنيد كانت في بعض الأحيان تتجاوز قواعد البنك المركزي المنظمة لتصدير الذهب وفي أحيان أخرى كانت تبيعه للبنك المركزي نفسه بسعر تفضيلي.
يُدير شركة الجنيد، أقارب حميدتي، وهي مجموعة ضخمة تغطي الاستثمار والتعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب، وتشرف على أعمال عديدة داخل السودان وخارجها، ولا يُعرف بالتحديد أصولها ولا مواردها.
استعمل حميدتي جزءًا من هذه الأموال لشراء أسلحة للبشير ولنفسه، حيث ضخ ما يقدر بملايين الدولارات لشراء أسلحة ومركبات لقوات الدعم السريع التي تجوب الشوارع بسيارات دفع رباعي مزودة بقذائف صاروخية ومدافع رشاشة.
من بين التجاوزات المالية أيضًا، القضية المتعلقة بإدخال بذور قمح فاسدة وغير مطابقة للمواصفات إلى البلاد وتوزيعها على مشروعين زراعيين مهمين، ما أخرجهما من دائرة الإنتاج، ونتيجة ذلك فشل الموسم الزراعي عام 2008، وبلغت قيمة التجاوزات المالية في هذه القضية نحو عشرة ملايين يورو.
كما جنى حميدتي الأموال الطائلة من الدولة، نتيجة قيامه بالأعمال الإجرامية الخارجة عن القانون، فدائمًا ما كانت توكل لمجموعة الجنجويد التي يقودها مهمة تصفية المعارضين وترويعهم، وتتهم المجموعة بارتكاب مجازر حرب في درفور.
في أبريل/نيسان 2019، سقط البشير نتيجة الاحتجاجات الشعبية المناهضة لحكمه، ظن السودانيون حينها أن الوضع سيتحسن وسيتم محاسبة رموز النظام الذين أجرموا بحق الشعب واستفردوا بثرواته ومقدرات البلاد المالية، لكن يبدو أن هذا الأمر لن يحصل، فقد سارع حميدتي بالسيطرة على الحكم وإعادة تنظيم الأوراق.
قرّب حميدتي قادة الجنجويد إليه وبعض رجال الأعمال ممن لم يسبق لهم أن عملوا مع نظام البشير، ومكنهم من مراكمة أموال ضخمة في ظل غياب المحاسبة والمراجعة المالية من الدولة، وتوجه القادة الجدد نحو الخصخصة مرة أخرى.
تمثل الخصخصة سبيل النظام لمكافأة رجال الأعمال المحيطين به، وأشار وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم، في يونيو/حزيران الماضي إلى أن الحكومة تتجه إلى خصخصة شركات يملكها الجيش، بدعوى تخفيف حدة الأزمة المالية والاقتصادية التي تعيشها البلاد، لكن واقع الأمر هو تمكين الأصدقاء من بعض الشركات.
تمتلك الدولة حاليًّا قرابة 650 شركة، وهو رقم جيد جدًا يمكن أن يغازل به حميدتي والماسكون بزمام السلطة، رجال الأعمال لضمهم لصفهم وضمان ولائهم الدائم لهم، فلا حكم مستقر دون بطانة اقتصادية موالية.
ويعمل حميدتي حاليًّا على وضع يده على معظم القطاعات المرتبطة بالاقتصاد، وأصبح قائد الجندويد أحد أبرز أركان تهريب الذهب إلى الخارج لا سيما الإمارات، وذلك عن طريق مجموعة “الجناد” المملوكة لأحد أقاربه، التي يضع يده على النسبة الكبرى من أسهمها.
ليس هذا فحسب، فقد امتدت يد حميدتي نحو الزراعة أيضًا، فهو يعلم أهمية هذا القطاع في اقتصاد البلاد، خاصة مع وفرة الأراضي الصالحة للزراعة بمساحات شاسعة غير مستغلة، ووفرة مياه الأنهار والأمطار، تمثل إيرادات القطاع الزراعي ما نسبته 48% من الناتج المحلي الإجمالي للسودان، وفقًا لبيانات رسمية عام 2017.
أصبح حميدتي من خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسميًا، يتحكم بأكبر الثروات في السودان، ثروات طائلة تحصل عليها من الدولة، دون أي مساءلة، حتى أصبح واحدًا من أغنى الرجال في السودان.
احتجاجات مناهضة
هذا الوضع كان من أبرز الأسباب التي أدت إلى انتفاضة السودانيين ضد نظام عمر البشير، لكن رغم سقوط البشير بقي الأمر على حاله بل ازداد سوءًا، إذ تكفل حميدتي بتعميق أزمة اقتصاد السودان ونهب الثروات ومراكمة الثروة.
نتيجة ذلك، قرر جزء كبير من السودانيين عدم العودة إلى بيوتهم وملازمة ساحات الاحتجاجات، علهم يتمكنون من تغيير الواقع قليلًا رغم صعوبة الأمر، فالوضع لم يعد يُطاق وفق عدد كبير من السودانيين، والبلاد تعيش حالة انهيار شبه كامل.
للسودانيين أسبابهم المقنعة للتظاهر، فهم يرون كيف تنهب فئة قليلة ثروات البلاد، ما جعلهم يواجهون وضعًا اقتصاديًا بالغ التعقيد، ما اضطر آلاف الأسر للتخلي عن شراء مستلزمات أساسية أو تخفيض كميتها للتمكن من مقابلة الضغط المعيشي المتزايد.
كما ازدادت نسبة الفقر في هذا البلد الذي ينعم بثروات طبيعية كثيرة، فتقول مفوضية الضمان الاجتماعي إن 77% من إجمالي السودانيين البالغ عددهم 40 مليون يقبعون تحت خط الفقر، لافتة أن دخل الفرد منهم لا يتجاوز 1.25 دولار يوميًا.
وتشير تقديرات المفوضية إلى أن مستوى الفقر قفز من 50% عام 1994 إلى 77% في الأعوام الأخيرة، فيما قدر خبراء آخرون أن المعدل الفعلي يتجاوز حاجز الـ80%، وهي الوضعية التي تنذر بمستقبل أسود للبلاد في حال لم يتم تدارك الأمر.
كمؤشر على تفاقم الوضع، تفاقمت ديون البلاد، فحسب التقرير السنوي لبنك السودان المركزي لعام 2019، بلغ إجمالي الدين الخارجي 51.2 مليار دولار، منها 26.4 مليار دولار فوائد تأخيرية، أي أن فوائد الدين تزيد على إجمالي قيمة أصل الدين بقليل.
يبدو إصلاح الاقتصاد الذي دمره فساد السلطة وتحالف المال بالسلاح، صعبًا بعض الشيء في السودان، في ظل تواصل الحال على ما هو عليه وتواصل وجود نفس مسببات الأزمة، لكن ذلك لا يعني التسليم بالأمر الواقع وترك الساحة فارغة لمن أجرم في حق البلاد وشعبها.