تمر السياسة التركية في سوريا بتحديات ومنعطفات جوهرية تشي بإمكانية تحول تركيا نسبيًا عن مواقفها التي تبنتها تجاه الثورة السورية وطبيعة العلاقة مع نظام الأسد، في ظل استدارة تركيا عبر خطٍ جدلي نحو الحديث عن “الحوار الهادئ غير المشروط” مع النظام، وسط توافد التسريبات والتصريحات العلنية بشأن إمكانية التطبيع والمصالحة مع النظام، بعد أكثر من عقد على مقاطعة تركيا للنظام واتخاذها موقفًا صارمًا ضده ووقوفها إلى جانب السوريين وثورتهم.
ويبدو أن قضية الحوار التركي مع النظام أصبحت مع مرور الزمن توجهًا تركيًا عامًا تشترك فيه معظم القوى والأحزاب السياسية التركية ولو بدرجات متفاوتة، وهو ما يمكن تلقفه من ألسنة الساسة الأتراك بمختلف توجهاتهم السياسية الذين تحدثوا عن ضرورة الحوار مع النظام و”المصالحة بين النظام والمعارضة” لإيجاد حل ينهي الأزمة السورية، التي بدأها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عبر كشفه عن محادثة قصيرة أجراها مع وزير خارجية نظام الأسد فيصل المقداد، داعيًا إلى “مصالحة بين النظام والمعارضة بطريقة ما”.
ليتبعها الرئيس التركي بتأكيده أنه “يتعين الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا وأنه لا يمكن التخلي عن الحوار بين الدول، ويمكن أن يتم في أي وقت، ويجب أن يتم”، وعزز هذه التصريحات زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي الذي اعتبر أن “خطوات بلاده في سوريا قيمة ودقيقة والتصريحات البناءة والواقعية لوزير الخارجية التركية تمثل متنفسًا قويًا للبحث عن حل دائم”.
حظيت الثورة السورية باهتمام تركي بالغ فاق مثيلاتها من ثورات الربيع العربي من حيث تشارك تركيا وسوريا في حدود برية هي الأطول لتركيا بما يقارب 900 كيلومتر مربع، وما يمثله ذلك من تهديدات
وتكثر التحليلات والتأكيدات عن انسجام هذه الانعطافة التركية تجاه النظام مع مسار التطبيع والتهدئة الذي أطلقته أنقرة في إطار ترميم علاقاتها مع دول عديدة كالإمارات والسعودية ومصر و”إسرائيل”، وهو ما يصفه البعض بعودة تركيا إلى سياسة تصفير المشاكل “Zero Problem Policy” التي خطها البروفيسور أحمد داوود أوغلو في كتابه “العمق الإستراتيجي”.
ليُفتح الباب مجددًا أمام جملة من التساؤلات المفتوحة والصعبة التي تنتظر الإجابة عنها والمتعلقة إلى حدٍ ما بمستقبل السياسة التركية في سوريا في ضوء التحولات والتقلبات التي تشهدها السياسة الداخلية والخارجية التركية بالتزامن مع تغييرات إستراتيجية تخيم على المشهد الإقليمي والدولي والانعكاسات المحتملة على الملف السوري.
“نون بوست” وضمن ملف “سياسات تركيا في سوريا”، يسلط الضوء على تقلبات السياسة التركية إزاء الملف السوري بدءًا بدعوة النظام إلى الإصلاح الجذري، مرورًا بدعم قوى الثورة والمعارضة دعمًا مفتوحًا والدعوة لإسقاط النظام، ومن ثم انخراطها العسكري المباشر في سوريا وتفاعلها مع مجريات الحل السياسي المشروط برحيل الأسد، وانتهاءً بدعوات الحوار.
وذلك في إطار البحث وسبر الموقف التركي والتعمق في فهم السياقات التي تصوغه وتشكل تفاصيله، بحيث تشكل منطلقًا لاستشراف مستقبل سياسة تركيا ودورها في سوريا، وما قد يترتب على ذلك من تأثير مباشر على مسار الملف السوري عمومًا الذي بات يرتبط مصيره ومستقبله إلى حد ما ارتباطًا عضويًا بطبيعة الموقف التركي، نظرًا للدور التركي الفاعل والمهم والمؤثر في سوريا.
تمهيد
أحدثت ثورات الربيع العربي هزة إستراتيجية عميقة تجاوز تأثيرها المنطقة العربية وأخلت بتوازنات كانت قائمة لعقود، وهددت سياسات مختلف الفواعل الدولية، وفرضت تحديات على الطموحات الإقليمية لقوى دولية، وشكلت فرصة لقوى أخرى لإعادة تموضعها وترتيب تفضيلاتها السياسية والإستراتيجية تجاه المنطقة.
وقد شكلت هذه الثورات بدورها اختبارًا صعبًا وتحديًا مركبًا للسياسة التركية الخارجية نظرًا لحجم الاستثمار التركي السياسي والاقتصادي والثقافي في المنطقة، ووضعتها على طرفي نقيض بين الحفاظ على علاقاتها وتحالفاتها مع الأنظمة الحاكمة أو الانحياز إلى ثورة الشعوب العربية، فضلًا عن تشكل رؤية لدى صانع القرار التركي بضرورة استغلال الفرصة الإستراتيجية التي جلبتها المتغيرات المصاحبة لثورات الربيع العربي في تعزيز موقع تركيا ودورها في المنطقة وأخذ دور ريادي قيادي مهم في النظام الإقليمي الآخذ بالتشكل حينها.
وما يمكن أن يخولها ذلك من تحقيق تجانس وتشابك أكبر مع محيطها، وهو ما يفسر ربما التغير الملموس في السياسة الخارجية التركية لتكون أكثر مبادرة ونشاطًا وانخراطًا في القضايا المختلفة، إذ كانت المواقف التركية في الإطار العام أقرب إلى الشعوب الثائرة وأبعد ومتضادة مع الأنظمة، لكل قضية حساباتها الخاصة وتعقيداتها المختلفة، وتحولت تركيا إلى طرف فاعل ومركزي مؤثر في المشهد الإقليمي على عكس سياستها الخارجية المنكفئة على نفسها منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، لا سيما في ظل استدعاء شرائح عربية واسعة للدور التركي كـ”نموذج ملهم” لدول الربيع العربي والاستفادة من التجربة والخبرة التركية في صوغ نظام سياسي ديمقراطي.
وحظيت الثورة السورية باهتمام تركي بالغ فاق مثيلاتها من ثورات الربيع العربي من حيث تشارك تركيا وسوريا في حدود برية هي الأطول لتركيا بما يقارب 900 كيلومتر مربع، وما يمثله ذلك من تهديدات وتحديات مشتركة ومصالح اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية بين الطرفين، إضافة إلى كون سوريا بوابة تركيا للعالم العربي على مختلف الأصعدة الجغرافية والتجارية والاقتصادية والسياسية، فضلًا عن تشابه الخريطة المذهبية والعرقية على طرفي الحدود السورية التركية، وتشارك البلدين الحساسية تجاه الملف الكردي ولو بدرجات مختلفة، لتتحول المسألة السورية إلى شأن داخلي تركي مع تطور الأحداث وتشابكها وتعقدها في سوريا، وهو ما زاد الحالة السورية أهمية مضاعفة بالنسبة لتركيا ودورها الإقليمي في المنطقة.
تركيا ودعوات الإصلاح السياسي في سوريا
مع اندلاع شرارة الثورة السورية عام 2011، التي اقتصرت أهدافها بداية على الدعوات لإصلاح النظام وتحقيق تغيير ملموس على بنيته وهيكليته، حرصت القيادة التركية على دعوة النظام للانفتاح وإحداث الإصلاحات اللازمة والنزول لمطالب الشارع السوري، وإقناعه بضرورة التجاوب مع المطالب الشعبية، وتبني خطاب متوازن بين قوى الثورة والنظام.
فقد سارعت وزارة الخارجية التركية في التعليق على الأحداث ببيان رسمي في 25/03/2011 مشددة فيه على”العلاقات الراسخة التي تربط تركيا بسوريا”، معربةً عن “الأسى لحوادث الوفاة والجروح التي حصلت”، مؤيدةً “قرارات الأسد بشأن ضرورة التوصل إلى المتورطين في الأحداث وتقديمهم إلى العدالة وإطلاق سراح المعتقلين”، وأعربت عن “امتنانها للخطوات الإصلاحية التي أعلنها المسؤولون السوريون بشأن الاستجابة لمطالب الشعب المشروعة واتخاذ خطوات إصلاحية في الحقول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية”.
ويمكن القول إن تركيا حاولت تحقيق توازن بين اعتبارات ومحددات حساسة متعددة في آنٍ واحد عند اتخاذ موقفها تجاه الوضع في سوريا، وحرصت على الجمع بين مصالحها الإستراتيجية والإيفاء بالوعود والمبادئ والشعارات التي رفعتها المتمثلة بدعم خط التغيير، كما أن ضغطها الفعلي على نظام الأسد ودعوتها المتكررة له لإحداث إصلاحات سياسية في سوريا، الذي ظهر مع اتصالات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان حينها على الأسد وزيارات أحمد داوود أوغلو المتكررة لسوريا التي حملت بعض الرسائل للأسد في محاولة لإقناعه بضرورة المسارعة في عملية الإصلاح لاحتواء الأزمة الداخلية، وإبداء استعداد تركيا لتأمين الدعم اللازم لعملية الإصلاح، وزيارة وفد يرأسه رئيس جهاز الاستخبارات التركية حاقان فيدان إلى سوريا، يُظهر مدى الاهتمام الخاص المبكر الذي أبدته تركيا بما يجري في سوريا، وهو ما ينسجم بطبيعة الحال مع مسار دعم تركيا لحركات التغيير في العالم العربي واحترام إرادة الشعوب ورغبتهم في الديمقراطية والحرية، الذي اعتبره داوود أوغلو “مسارًا طبيعيًا للأمور”.
وفي ذات السياق يكشف هذا الموقف التركي المتوازن نسبيًا حجم التخوفات التركية من تداعيات الوضع في سوريا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا سلبًا على تركيا في حال خرجت الأوضاع عن السيطرة وتطورت إلى مواجهات عسكرية شبيهة بالحالة الليبية، وما قد يؤديه ذلك من نتائج سلبية على الداخل التركي وعلى سياستها ودورها الإقليمي التكاملي مع المحيط العربي، وعلى الاستثمارات السياسية والاقتصادية التركية في سوريا، التي نسجتها تركيا بعد عقد من جهود متواصلة دؤوب في بناء علاقة جيدة مع سوريا التي شملت عشرات الاتفاقيات الاقتصادية من بينها الاتفاق على إنشاء منطقة تجارة حرة تجمع تركيا وسوريا والأردن ولبنان عام 2010.
فشل دعوات الإصلاح ومرحلة الضغط المحدود على النظام
بدا أن الدعوات التركية الدؤوب والحثيثة لنظام الأسد لإجراء إصلاحات سياسية ملموسة يحتوي فيها الغضب الشعبي المتصاعد ضده، بدأت تفقد زخمها وأهميتها في ظل تجاهل النظام وتعنته تجاه عملية الإصلاح، لتنحو اللهجة التركية تجاه الأسد نحو شيء من الشدة والتململ مع الاحتفاظ بمضمون الدعوة للإصلاح والتأكيد على أنها الحل الوحيد للأزمة السورية، داعية النظام لعدم إهدار فرصة التغيير السلمي وضرورة وقف أعمال العنف ضد المتظاهرين والمسارعة بتطبيق إصلاحات جذرية قبل تحول الملف السوري إلى ملف دولي يناقش في مجلس الأمن، وهو ما سيعقد المشهد السوري ويصعب التوصل لحلول جذرية عملية.
حيث أصدرت وزارة الخارجية التركية بيانًا آخر في 24 أبريل/نيسان 2011 بعد سقوط مئات الضحايا والجرحى في صفوف المدنيين، دعت فيه النظام “للامتناع عن الاستخدام غير المناسب والمفرط للقوة وتوظيف الأساليب المناسبة للتعامل مع الاحتجاجات الشعبية ومتابعة جهد الإصلاح بعزم وتنفيذها دون إبطاء”.
وظهر هذا التململ بوضوح مع انتقال الخطاب التركي لانتقاد الممارسات الأمنية للنظام ضد المتظاهرين السلميين، فقد كذب أردوغان لأول مرة في مقابلة تليفزيونية رواية النظام لما يجري في سوريا قائلًا: “لا يوجد مندسون ولا عصابات مسلحة كما تقول دمشق، معلوماتنا بهذا الخصوص مختلفة تمامًا. عدد القتلى تجاوز الألف، ولا نريد أن نعيش مجازر حماة وحلبجة وحمص مرة أخرى، من الخطأ أن يقتل النظام شعبه”.
كما استضافت تركيا حينها عددًا من المؤتمرات للمعارضة السورية، كان أحدها بعنوان “إسطنبول من أجل سوريا” وآخر في مدينة أنطاليا تحت مسمى “المؤتمر السلمي للتغيير” حضره ما يقارب 300 معارض سوري من الداخل والخارج ومن مختلف الانتماءات والتوجهات السياسية.
ويبدو أن التبدل التدريجي في الموقف التركي من الأزمة السورية يعود في مجمله إلى عدة عوامل بدأت تفرض نفسها على الدبلوماسية التركية، فقد بدا أن المشهد السوري الداخلي بدأ يأخذ مسارًا أقرب إلى العنف والتصعيد في ظل تعنت مطلق للنظام وعدم تجاوبه مع دعوات الإصلاح ومماطلته وخداعه، الأمر الذي أفقد تركيا الثقة في جدية الوعود التي طرحها النظام للإصلاح والتعامل بجدية ومرونة مع المتطلبات الشعبية، وسلوكه بدلًا من ذلك مسار البطش والقمع وسحق الاحتجاجات.
ومن جهة أخرى، كان لتبدل المناخ الدولي والإقليمي تجاه الأحداث في سوريا دورًا مهمًا كما يبدو في التأثير على موقف تركيا، حيث بدأت الولايات المتحدة والقوى الغربية تفرض بالتدريج عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على النظام منذ الأشهر الأولى للثورة السورية، لتبدأ دعوات تنحي الأسد ومطالبته بوقف إراقة الدماء ترتسم في تصريحات ومواقف مختلف القوى العربية والدولية، وهو ما دفع تركيا إلى تغيير موقفها والتناغم مع تحركات المجتمع الدولي والابتعاد نسبيًا عن دعوات الإصلاح التي تجاهلها النظام ورفضها، والتوجه نحو قطع العلاقات مع نظام الأسد والانخراط أكثر في عملية دعم المعارضة السورية السياسية والعسكرية لإسقاط الأسد وتحقيق التغيير المنشود، وهو ما سنناقشه بشيء من التفصيل في تقريرنا القادم.