بعد اقتحام رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، أرئيل شارون، المسجد الأقصى، اندلعت ثاني انتفاضة معاصرة شهدتها القضية الفلسطينية في 29 سبتمبر/ أيلول 2000، وأخذت شكلًا مغايرًا لما كانت في الانتفاضة الأولى المندلعة عام 1987.
فبينما كانت الأولى مهدًا لانطلاقة أحزاب المقاومة الفلسطينية كحماس والجهاد الإسلامي، جاءت الانتفاضة الثانية لتشهد انخراطًا على صعيد الفصائل الفلسطينية أو حتى الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية بالذات، في وقت تواجد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على رأس حركة فتح ورئاسة السلطة ومنظمة التحرير.
وكبّدت الانتفاضة الثانية، أو انتفاضة الأقصى، “إسرائيل” خسائر فادحة على المستويات كافة، نتيجة للمشاركة الفلسطينية الواسعة فيها، حيث قُتل 1069 جنديًّا ومستوطنًا وجُرح 4500 آخرين، إلى جانب تكبُّد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر هائلة.
إحدى العلامات المميزة التي شهدتها الانتفاضة الثانية، كانت مشاركةً من عناصر في الأجهزة الأمنية الفلسطينية في عمليات المقاومة وردّ اعتداءات الاحتلال، ولعلّ تميُّزها أن انخراط العناصر جاء بعد 7 أعوام من توقيع اتفاقية أوسلو، وما نجم عنها من إنشاء سلطة فلسطينية تُمحى من أبجدياتها فكرة المقاومة، وتتجه نحو السلمية مع الاحتلال.
هذا فضلًا عن فشل مسار المفاوضات، بالذات فيما يتعلق بكامب ديفيد الثانية في مطلع سبتمبر/ أيلول 2000، أحد مسبّبات الانخراط الرسمي لقوى الأمن الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، والمشاركة في تنفيذ عمليات إطلاق نار مباشرة تجاه جنود جيش الاحتلال.
العقيدة الأمنية من أوسلو حتى شرارة الانتفاضة
ألزم اتفاق أوسلو، الذي تمَّ توقيعه عام 1993، واتفاق طابا، عام 1995، السلطة الفلسطينية بمحاربة “الإرهاب” وجعلها مسؤولة عن اتخاذ الإجراءات المناسبة ضد “الإرهابيين”، من خلال التعاون أمنيًّا مع الاحتلال.
وقد حرصت السلطة الفلسطينية منذ تشكيلها وحتى اندلاع انتفاضة الأقصى، في أكتوبر/ تشرين الأول 2000، على الالتزام بالتعاون الأمني مع “إسرائيل”، حتى تقلِّص من المسوغات التي يمكن أن تستند إليها “إسرائيل” في عدم التزامها باستحقاقاتها في الاتفاقات.
وفي إطار التعاون الأمني الهادف لاحتواء عمليات المقاومة المسلحة، شنَّت السلطة خلال هذه الفترة حملات اعتقال طالت قادة نشطاء حركات المقاومة، على رأسها حركة حماس، حيث بلغت ذروتها في شتاء عام 1996، حين تمَّ اعتقال 2000 من قادة وعناصر الحركة، إلى جانب إغلاق مؤسساتها.
وفي أعقاب فشل مؤتمر كامب ديفيد، الذي جمع، في يوليو/ تموز 2000، وفدَي منظمة التحرير برئاسة عرفات و”إسرائيل” برئاسة رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود باراك، إحراز أي تقدم على صعيد المفاوضات، أدرك عرفات الضرورة لتغيير نمط العلاقة مع “إسرائيل” من أجل تحسين مكانته في المفاوضات.
شرارة الانتفاضة.. بيئة مساعدة وانخراط للأجهزة في المقاومة
مع اندلاع شرارة انتفاضة الأقصى عام 2000، عمدت قيادة السلطة في ذلك الوقت إلى جباية أثمان من الاحتلال، لإقناع قيادتها بإبداء مرونة في مواقفها من الصراع، وذلك عبر توفير بيئة تساعد على تعزيز العمل المقاوم بشقَّيه، الشعبي والمسلح.
وكان من أبرز ملامح سلوك السلطة الفلسطينية في الانتفاضة وقف التعاون الأمني تمامًا، حيث باتت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، التي كانت تدير التعاون الأمني مع “إسرائيل”، جزءًا رئيسيًّا من الفعل المقاوم ضد الاحتلال خلال الانتفاضة.
ومن الأمثلة على العمليات التي قامت بها الأجهزة الأمنية الفلسطينية، عملية وقعت في أكتوبر/ تشرين الأول 2000، حين تمَّ إيقاف جنديَّين إسرائيليَّين بلباس مدني واقتيادهما إلى النقطة الشرطية الفلسطينية الرئيسية، حيث تعرّضا للضرب ومن ثم القتل، في اليوم ذاته شنّ الاحتلال غارات جوية على أهداف أمنية تابعة للسلطة الفلسطينية، ودُمِّرت المباني الأمنية بالكامل.
شهدت هذه الانتفاضة انخراط عناصر كبيرة من الأجهزة الأمنية في كتائب شهداء الأقصى، الذراع العسكرية لحركة فتح التي موّل عرفات عملياتها في ذاك الوقت، قبل أن يشنَّ الاحتلال عملية السور الواقي عام 2002 في مارس/ آذار.
وأعاد في هذه العملية احتلال كل مدن الضفة، وحاصر مقرّ عرفات الرسمي، حيث طرح الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الابن، في سبتمبر/ أيلول عام 2002 خطة لحلّ الصراع، أطلق عليها خطة “خارطة الطريق”، حيث ركّز معدّو الخطة على أن تشمل المرحلة الأولى منها تعديل القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية، وإعادة مأسسة التعاون الأمني على أسس جديدة لتكون أكثر فاعلية في مواجهة المقاومة، من خلال تقليص صلاحيات عرفات -الذي اتُّهم بأن دورًا له في تفجير انتفاضة الأقصى- عبر استحداث منصب رئيس وزراء، وتوحيد الأجهزة الأمنية ذات العلاقة بمواجهة “الإرهاب” تحت إدارة رئيس الوزراء الجديد.
ورغم موافقة عرفات نظريًّا على الخطة، وهو ما سمح بتعيين محمود عباس رئيسًا للوزراء ومحمد دحلان وزيرًا للأمن الداخلي وسلام فياض وزيرًا للمالية في مارس/ آذار 2003، إلا أن عرفات الذي كان محاصرًا أبقى فعليًّا على جميع الصلاحيات في يده، ما اضطر كلّ من عباس ودحلان للاستقالة، ما أفضى إلى عدم حدوث تحول جذري على واقع التعاون الأمني حتى وفاة عرفات وانتخاب عباس خلفًا له.
عقيدة أمنية جديدة: خطة دايتون
مع صعود رئيس السلطة محمود عباس إلى السلطة، أقدم على تبنّي سياسة التنسيق الأمني ليس فقط بفعل تأثير “الإصلاحات الهيكلية” التي أدخلتها “خارطة الطريق”، بل أيضًا بفعل طابع المواقف الأيديولوجية التي يتبنّاها عباس، والتي تعارض بشكل مطلق العمل المسلح ضد الاحتلال، إلى جانب ذلك دافع عباس عن التعاون الأمني مع “إسرائيل” بوصفه “مصلحة وطنية” فلسطينية، بغضّ النظر عن السلوك الإسرائيلي إزاء الفلسطينيين.
ويعود رفض عباس للمقاومة المسلحة لأنه يؤمن بالمفاوضات والحلول السلمية سبيلًا لحل الصراع مع “إسرائيل”، إلى جانب إيمانه بأهمية التحرك في الساحة الدولية لتأمين اعتراف أممي بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
ومن أجل تعزيز بيئة التعاون الأمني، عمدت الولايات المتحدة لأول مرة إلى لعب دور فاعل في تنظيم ومأسسة التعاون الأمني بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية، ففي مارس/ آذار 2005 شكّلت الولايات المتحدة مجلسًا لتنسيق التعاون الأمني بين السلطة و”إسرائيل”، بقيادة الجنرال الأميركي كيث دايتون، الذي تولى شخصيًّا مهمة الإشراف على إعداد وتدريب أجهزة السلطة الأمنية، لتحسين قدرتها على إحباط العمليات المسلحة للمقاومة.
لم يعمل دايتون على مأسسة التعاون الأمني بين الاحتلال والسلطة وجعله أكثر جدوى فحسب، بل حرص على أن تسهم دورات التدريب التي أشرف عليها في فرض عقيدة أمنية جديدة على المؤسسة الأمنية في السلطة، بحيث يفضي تشرُّب منتسبي الأجهزة الأمنية الفلسطينية تلك العقيدة إلى “صناعة الفلسطيني الجديد”، الذي يرى في إحباط العمل المقاوم ضد الاحتلال مصلحة وطنية له.
وأسهمَ تفجُّر الانقسام الفلسطيني الداخلي، الذي انتهى بسيطرة حركة حماس على قطاع غزة المحاصر في يوليو/ تموز 2007 وسيطرة فتح على الضفة الغربية، في توفير بيئة مناسبة لتعزيز التعاون الأمني، حيث منحَ “إسرائيل” الفرصة لابتزاز قيادة السلطة وإجبارها على إبداء أكبر قدر من التعاون الأمني، بحجّة أن التعاون في مواجهة حركات المقاومة ضرورة لضمان بقاء حكم فتح، وعدم السماح لحماس بتكرار “نجاحاتها” في الضفة.
حضور جديد.. ململة جديدة للأجهزة الأمنية
مع تصاعُد الهبّات الفلسطينية منذ عام 2015 حتى عام 2022، شهدت الساحة الفلسطينية تنفيذ عمليات كان بعض منفذيها من عناصر الأجهزة الأمنية، لعلّ من أبرزهم الشهيد مازن عريبة من جهاز المخابرات العامة، الذي نفّذ عملية إطلاق نار على سيارة لجيش الاحتلال قرب حاجز حزما العسكري، أدّت إلى إصابة جندي إسرائيلي بجراح بتاريخ 3 ديسمبر/ كانون الأول 2015.
ومن ثم عملية الشهيد المقاتل أمجد السكري من جهاز الشرطة الفلسطينية، الذي نفّذ عملية اقتحام حاجز بيت إيل العسكري بتاريخ 31 يناير/ كانون الثاني 2016، ما تسبّب في إصابة 3 جنود من جيش الاحتلال الإسرائيلي، ثم عاد الشهيد محمد تركمان ليواصل مسيرة السكري بتنفيذ عملية مماثلة على الحاجر ذاته في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 باشتباك مع 3 جنود أيضًا.
وفي 10 يونيو/ حزيران 2021، اشتبك الشهيدان تيسير عيسة وأدهم عليوي من جهاز الاستخبارات العسكرية خلال عملية اغتيال الشهيد جميل العموري على يد وحدة خاصة لجيش الاحتلال، ثم أخيرًا العملية النوعية التي شارك بها العسكري أحمد عابد من جهاز الاستخبارات العسكرية على حاجز الجلمة، والتي أدّت إلى مقتل ضابط كبير وإصابة آخرين في 14 سبتمبر/ أيلول 2022.
ويعكس ما يصدر هذه الفترة من انتهاكات الأجهزة الأمنية، رغم حالة التغيير في العقيدة الأمنية لها، أن بعض كوادرها لا يزالون يؤمنون بحقهم في مقاومة الاحتلال وتنفيذ عمليات ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي، خصوصًا مع تصاعد الجرائم الإسرائيلية في الضفة.
ويخشى الاحتلال من أن تؤدي مشاركة عناصر من الأجهزة الأمنية في كتائب المقاومة المختلفة في مناطق شمال الضفة، إلى مزيد من الانخراط خلال الفترة المقبلة، ما من شأنه أن يرفد الأذرع العسكرية بالكوادر المدرَّبة عسكريًّا على السلاح.