أثار فوز حزب “فراتيلي ديتاليا” (إخوة إيطاليا) بزعامة جورجيا ميلوني، في الانتخابات العامة التي جرت بإيطاليا في 25 من الشهر الحاليّ، قلق الجاليات والأقليات الدينية في البلاد وفي المقدمة منها الجالية المسلمة، في ظل ما يتبناه الحزب الفائز وزعيمته من مواقف مناهضة للهجرة وتطالب بغلق كامل للحدود أمام المهاجرين واللاجئين.
وقد نجح الحزب ذو الجذور الفاشية في الحصول على أكثر من 26% من الأصوات وفق النتائج الأولية، بما يمكنه بالتحالف الائتلافي مع حزبي رابطة الشمال بقيادة اليميني المتطرف ماتيو سالفيني، وحزب سيلفيو برلسكوني “فورزا إيطاليا”، من الفوز بأغلبية المقاعد البرلمانية ويسمح له بتشكيل الحكومة التي من المرجح أن تكون ميلوني على رأسها.
بهذا الفوز تعود الفاشية لحكم إيطاليا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، فيما يترقب المسلمون ما يمكن أن تسفر عنه سياسات هذا الائتلاف اليميني المتطرف ومدى التزامه بالخط السياسي الحمائي الذي يتبناه ومن المرجح أن تكون تداعياته كارثية على كل الجنسيات والأعراق غير الإيطالية المقيمة في البلاد.
يزحف اليمين الراديكالي في أوروبا بخطوات متسارعة خلال الآونة الأخيرة، وهو ما يمكن الوقوف عليه ميدانيًا مع كل استحقاق انتخابي تشهده أي من بلدان القارة العجوز، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات عن تغير المزاج الأوروبي تجاه الشعبويين، ودوافع الهرولة مرة أخرى لهذا التيار وتصاعد حضوره بما يعيد الأجواء إلى ما كانت عليه في 2015 حين شهد قوميو أوروبا أكبر تنامٍ لهم في العصر الحديث، وعلى الجانب الآخر الارتداد المخيف لهذا التنامي على الجالية المسلمة التي باتت محاصرة خلال السنوات الأخيرة بين فكي الإسلاموفوبيا والاندماج الذي يهدد هويتها.
? بعد السويد، حقق اليمين المتطرف انفراجة جديدة له في #أوروبا، بفوز جورجيا ميلوني في الانتخابات التشريعية الأحد في #إيطاليا، حيث ستُتاح لحزب تعود جذوره إلى الفاشية الجديدة فرصة حكم البلاد للمرة الأولى منذ عام 1945. #فرانس_برس pic.twitter.com/qkTDnwpvbA
— فرانس برس بالعربية (@AFPar) September 26, 2022
صعود اليمين المتطرف مجددًا
لم تكن إيطاليا الحالة الوحيدة أوروبيًا لصعود اليمين المتطرف، إذ يمكن اعتبارها امتدادًا لحالة الزخم الراديكالي التي تحياها القارة الأوروبية خلال العام الأخير، ففي السويد على سبيل المثال نجح التحالف اليميني المؤلف من المعتدلين والليبراليين والديمقراطيين المسيحيين والديمقراطيين السويديين في الحصول على 176 مقعدًا في البرلمان مقابل 173 للتكتل اليساري من أصل 349 مقعدًا، في الانتخابات التي جرت مؤخرًا.
النتائج كانت صادمة للنخبة السياسية في السويد، ما دفع رئيسة الوزراء وزعيمة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ماغدالينا أندرسون، لتقديم استقالتها، فيما تذهب التكهنات إلى احتمالية تشكيل زعيم المحافظين السويديين، جيمي أكيسون، للحكومة المقبلة بل ورئاستها، وهو المناهض قلبًا وقالبًا للهجرة.
ومن السويد إلى ألمانيا، حصل حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف على 10% من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية الألمانية الأخيرة التي جرت في سبتمبر/أيلول العام الماضي، الأمر ذاته في فرنسا، حيث حصلت مارين لوبان، زعيمة حزب التجمع الوطني، على 41.8% في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة التي جرت أبريل/نيسان الماضي وفاز بها إيمانويل ماكرون للمرة الثانية، وفي يونيو/حزيران الماضي نجح حزب لوبان في الحصول على 89 مقعدًا في البرلمان الفرنسي، وهو من المرات القليلة التي يحقق فيها اليمين المتطرف هذه النسبة من المقاعد.
وفي المجر، فاز حزب “فيدسيز” اليميني الراديكالي بنسبة 52.73% من الأصوات، في الانتخابات التي جرت قبل 5 أشهر، ما سمح للشعبوي فيكتور أوربان بإعادة انتخابه رئيسًا للوزراء للمرة الرابعة بعدما حصل حزبه على أغلبية الثلثين في تلك الانتخابات، وسط تنامٍ واضح للتيار الشعبوي.
المد اليميني يواصل صعوده بشكل كبير في بلدان أخرى، على رأسها هولندا حيث يواصل حزب “الحريات” بزعامة المتطرف خيرت فيلدرز حضوره الشعبي، الأمر كذلك في النمسا وحزب “الحرية” اليميني، وفي الدنمارك هناك حزب “الشعب الدنماركي” ثالث أقوى كتلة سياسية داخل البرلمان، فيما يواصل حزب “الفجر الذهبي” اليوناني (صنفه القضاء اليوناني كمنظمة إجرامية) تقدمه الملحوظ على المستوى الشعبي، رغم حصوله على نسبة 7% في الانتخابات الأخيرة التي جرت عام 2015، وهو الموقف ذاته إزاء حزب “القانون والإنصاف” في بولندا.
الاقتصاد كلمة السر
هناك العديد من الأسباب والدوافع التي أدت إلى تنامي صعود الشعبوية في أوروبا مرة أخرى بعد النجاح النسبي في تقليم أظافرها إثر تغولها عام 2015، وتتأرجح تلك الدوافع بين اجتماعية تميل إلى الجانب العنصري المرتبط بالسياسات الحمائية التي يفضلها المواطن الأوروبي في مواجهة أبناء الألوان العرقية الأخرى، وأخرى ذات بعد اقتصادي بحت، وهي الأكثر حضورًا بصفة عامة.
رئيس المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، جاسم محمد، أشار إلى 3 أسباب رئيسية وراء هذا التنامي، الأول يتعلق بما تحياه أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا التي تستند في خططها وبرامجها في الأساس على انتقاد برامج الحكومات الأوروبية والسياسات الاقتصادية التي تنفذها.
أما السبب الثاني متعلق بالأوضاع الاقتصادية المتدهورة في القارة العجوز، ما يجعل الفرصة سانحة أمام شعارات اليمين المتطرف، فيما أرجع السبب الثالث إلى هذا التوجه الذي بدأ يترعرع داخل الشارع الأوروبي والرافض لسياسات اللجوء والهجرة التي تتبعها عدد من دول أوروبا، وهو الأمر الذي يتوافق مع برامج الأحزاب اليمينية المعادية للهجرة، بحسب تصريحاته لـ”سكاي نيوز”.
ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد نار الشعبوية اشتعالًا، فقفزت معدلات التضخم والأسعار والبطالة ومعها زادت نسبة الضرائب وانهارت الكثير من العملات، أبرزها اليورو الذي تراجع بقوة أمام الدولار الأمريكي، هذا في الوقت الذي لم تتعاف فيه أوروبا من تداعيات جائحة كورونا التي أصابت الاقتصاد بحالة من الشلل قرابة العامين وأكثر.
أي مصير ينتظر المسلمين؟
لا شك أن لهذا التصاعد اليميني صداه الأليم على الجالية المسلمة في أوروبا بصفة عامة، إذ إن جراح 2015 لم تلتئم بعد، فيما تأتي رياح المستجدات الدولية بما لا تشتهي سفن المسلمين هناك، فتميل معظم شعوب القارة إلى سياسة الانكفاء المرحلي لعبور الأزمة الراهنة التي تهدد الدول كافة، غنيها وفقيرها.
ورغم أنه لا يوجد إحصاء دقيق لعدد المسلمين في القارة العجوز، فإن بعض التقديرات الخاصة الصادرة عن مراكز الإحصاء المعنية تشير إلى أن العدد يتجاوز 50 مليون مسلم يشكلون قرابة 5.2% من سكان أوروبا، كما ذهب مركز الأرشيف الألماني للإسلام (معهد دي)، فيما ذهب مركز بيو الأمريكي للأبحاث أن عددهم في دول الاتحاد الأوروبي فقط يقدر بنحو 25.8 مليون شخص في 30 دولة يشكلون 4.9% من سكان أوروبا في 2016، كاشفًا أن تلك النسبة قد تصل إلى 8% بحلول 2030.
وتتصاعد مخاوف المسلمين من سيطرة الأحزاب المتطرفة على السلطة في بلدان أوروبا، خاصة أن قادة تلك الأحزاب لا يجدون حرجًا في التعبير عن كراهيتهم للمسلمين والتصريح علانية باستهدافهم كأحد أدوات الخطاب الشعبوي المستخدم للحصول على دعم اليمنيين لأغراض سياسية، وهو ما يعزز قلق الجاليات الأجنبية ويدفع بعضها إلى التفكير جديًا في الرحيل كما حدث مع بعض العائلات المسلمة في فرنسا وهولندا خلال الآونة الأخيرة.
ومن المتوقع خلال الآونة المقبلة تضييق الخناق على الأقليات بصفة عامة في الدول التي تهيمن عليها الأحزاب الراديكالية أو التي تواصل تمددها الداخلي حتى إن لم تصل إلى سدة الحكم بشكل مباشر، كفرنسا وألمانيا وهولندا والمجر والسويد وأخيرًا إيطاليا.
وقد تشمل الإجراءات التعسفية بحقهم خلال الفترة القادمة، عرقلة منح وثائق الإقامة وتضييق الخناق على بناء المساجد وفرض رقابة مشددة على نشاط الجمعيات الخيرية الإسلامية ومنع التجمعات العرقية بصفة عامة.
هذا الخناق المتوقع تشديده على المسلمين لا شك أنه سيعيق عملية الاندماج داخل المجتمع الأوروبي بصورة كبيرة، وهي المعضلة الرئيسية التي تواجه الأقلية المسلمة هناك خلال العقود الماضية، الأمر الذي قد ينجم عنه زيادة معدلات استهداف المسلمين بجرائم عنصرية مباشرة.
وكانت وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية قد كشفت في استطلاع رأي أجرته عام 2016 على عينة تبلغ 10 آلاف مسلم في 15 دولة أوروبية، أن قرابة 92% من المسلمين عانوا من التمييز العنصري بسبب دينهم (53% منهم تعرض لشكل من أشكال الاستهداف بسبب أسمائهم المسلمة و39% بسبب ردائهم ولباسهم الإسلامي، أما 94% من النساء فتعرضن للتمييز بسبب حجابهن).
تكشف التقارير الدورية التي تصدرها الجهات الأمنية المعنية في أوروبا زيادة وتيرة معدلات الجرائم ضد المسلمين تحديدًا بصورة ملفتة للنظر، حيث بلغت الجرائم العنصرية ضد المسلمين في بريطانيا في 2021 قرابة 2703 جرائم، فيما ارتفعت معدلات جرائم الكراهية بصفة عامة خلال السنوات الماضية بنسبة 40%، كان نصيب المسلمين منها أكثر من 52%، كما جاء في تقرير سابق لـ”نون بوست“.
في ضوء المستجدات الأخيرة التي تشهدها الساحة السياسية الأوروبية من استعادة الأحزاب اليمينة المتطرفة لنفوذها مرة أخرى، مستغلة الظرف الاستثنائي الذي يمر به العالم، فإن واقع المسلمين وبقية الأقليات الأخرى في بلدان أوروبا سيكون محفوفًا بالمخاطر والتهديدات، ويتوقف هذا على سرعة هذا التنامي للشعبويين من جانب، وقدرة التيار الوسطي على كبح جماحهم من جانب آخر، وذلك قبل الولوج في مستنقعات ربما تدفع القارة العجوز ثمنها باهظًا جدًا في ظل الفوضى التي تخيم على الأجواء في الوقت الحاليّ.