أبرمت تركيا وحكومة الوحدة الوطنية الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة عددًا من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجال التنقيب عن النفط والغاز، على هامش الزيارة التي قام بها وفد تركي الإثنين 3 أكتوبر/تشرين الأول 2022 إلى طرابلس، ضم وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو ووزير الطاقة والموارد الطبيعية فاتح دونماز ووزير الدفاع خلوصي أكار ووزير التجارة محمد موش ورئيس دائرة الاتصال برئاسة الجمهورية فخر الدين ألطون ومتحدث الرئاسة السفير إبراهيم قالن.
وتعد مذكرة التنقيب تلك هي الأولى من نوعها منذ توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا في البحر المتوسط والمبرمة بين الحكومة التركية وحكومة الوحدة في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وسط تأكيد ممثلي الحكومتين على المضي قدمًا في ترجمتها إلى إجراءات وممارسات من شأنها تعزيز التعاون بين البلدين في شتى المجالات.
الاتفاقية أحدثت حالة من الجدل على المستويين الخارجي والداخلي، إذ قوبلت برفض مصري يوناني واضح، رد عليه وزير الخارجية التركي بأنه ليس من حق أي دول أخرى التدخل في تلك الصفقة التي قالت عنها وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، إنها واحدة من عدة اتفاقات ضمن مذكرة تفاهم بشأن قضايا اقتصادية تهدف إلى استفادة البلدين.
وفي بيانين منفصلين اعترض البرلمان الليبي الذي يتخذ من شرق البلاد مقرًا له، وحكومة فتحي باشاغا المدعومة من رئيس البرلمان عقيلة صالح ومعسكر الشرق، على هذه الخطوة التي يرون أنها لا بد أن تتم عبر رئيس الدولة أو البرلمان، وليس عن طريق حكومة منتهية الولاية.
تعزيز أنقرة للتعاون مع حكومة الدبيبة المنتهية ولايتها، بحسب موقف المعسكر الشرقي وحليفيه مصر واليونان، بالتزامن مع الجهود الدبلوماسية المبذولة قطريًا للتوصل إلى أرضية مشتركة بين المعسكرين، ربما يُدخل الأزمة الليبية نحو منعطف جديد، قد يُسرع الخطى للتوصل إلى خريطة طريق سريعة تقود إلى انتخابات عاجلة أو تعيد الأمور إلى نقطة البداية مرة أخرى.
قلق مصري يوناني
تثير الخطوة التركية الأخيرة وما سبقها من خطوات تقارب واضحة مع حكومة الوحدة، قلق كل من القاهرة وأثينا، فالصفقة الحاليّة ومن قبلها اتفاق ترسيم الحدود سيسمحان لأنقرة بتأكيد حقوقها في مناطق واسعة من شرق المتوسط، وهو ما يهدد مصالح مصر واليونان (اللتين تشهد علاقتهما بتركيا توترات شديدة خلال السنوات الأخيرة) بصورة أكبر، الاقتصادية والأمنية والسياسية، حيث يرون في التواجد التركي في الملعب الليبي خطرًا يستوجب التصدي له ومناهضته بشتى السبل ولو عبر تفاهمات سياسية.
وبعد ساعات قليلة من المؤتمر الصحفي الذي عقده وزيرا خارجية تركيا وحكومة الوحدة الليبية وأعلنا فيه عن مذكرات التفاهم المبرمة، غرد وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس، مستنكرًا ما حدث، ومشددًا على أنه ونظيره المصري سامح شكري يعتبران حكومة طرابلس فاقدة للشرعية التي تخولها توقيع اتفاق كهذا، كاشفًا أنه سيتوجه إلى القاهرة لإجراء مشاورات بشأن هذا التطور.
تُلقي تركيا بخطوتها الأخيرة تلك حجرًا كبيرًا في مياه السياسة التركية الراكدة، هذا الحجر قد يُسرع من الانفراجة ويدفع كل الدول الوسيطة والإقليمية للتخلي عن صمتها
وعلى الجانب المصري، صرّح المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية بأن وزيري الخارجية المصري واليوناني أكدا أنه ليس من صلاحيات حكومة الوحدة المنتهية ولايتها في طرابلس إبرام أي اتفاقات دولية أو مذكرات تفاهم، مضيفًا أن الوزيرين اتفقا على استمرار المباحثات بينهما ومناقشة العديد من الملفات على رأسها الملف الليبي الذي يحتل مكانة كبيرة في حجم العلاقات بينهما.
هل تحرك المياه الراكدة؟
بينما كانت كل المؤشرات تذهب باتجاه انفراجة قريبة في ظل جهود الوساطة الإقليمية المتعددة ومسارات المفاوضات والمباحثات المكوكية بين طرفي الأزمة في البلاد وخطوط الاتصال المفتوحة بين الجنرال خليفة حفتر وحلفائه عقيلة صالح وفتحي باشاغا من جانب، والدبيبة وفريقه من جانب آخر، جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ تشبث كل طرف بموقفه، رافضًا التزحزح قيد أنملة واحدة، فتحولت ليبيا إلى دولة ثنائية الاتجاه، كيان واحد ذو رأسين متناقضين، مزدوجة الحكومة، متعددة الفصائل المسلحة، مقسمة الهيكل العسكري الموحد.
وفي الوقت الذي كان يؤمل فيه البعض بتبريد درجة توتر المشهد بعد التفاهمات التي جرت بين القاهرة وأنقرة بصفتهما القوتين الأكثر تأثيرًا على الساحة حاليًّا، والنجاحات التي تحققت فعليًا والمتجسدة في صور عدة أبرزها تبادل الزيارات والتنسيق المسبق بين وزارتي الخارجية هنا وهناك، إذ بالأمور تسير إلى مزيد من التعقيد.
ويتمسك الدبيبة بمنصبه كرئيس للحكومة، فيما يتشبث باشاغا برئاسة حكومته البديلة المدعومة من البرلمان، رغم العراقيل التي تواجهه في تولي مهامه الجديدة، والرفض الشعبي الواضح من المعسكر الغربي، إذ طُرد أكثر من مرة في أثناء محاولة دخوله طرابلس التي كانت على بعض أمتار قليلة من أن تتحول إلى ساحة حرب أهلية جراء إصرار باشاغا على دخولها عنوة.
من أسباب هرولة أنقرة لضمان تلك الحقوق وإسراع الخطى لإدخال اتفاقية الترسيم حيز التنفيذ مع حكومة الوحدة رغم تداعيات تلك الخطوة على مسار الأزمة الليبية بصفة عامة، الاتفاقيات التي أبرمتها وما زالت تبرمها شركات النفط الأوروبية
هذه الوضعية الساخنة بطبيعة الحال كانت أرضية خصبة للجنرال المتقاعد خليفة حفتر للعودة للمشهد مرة أخرى، مستفيدًا من حالة الانقسام تلك، وهو ما يمكن قراءته من خلال جولاته الخارجية التي بدأها مؤخرًا لبعض المناطق في الوسط والجنوب لكسب دعمهم وتأييدهم له، وذلك بعدما شعر أنه ورقة منتهية الصلاحية بالنسبة لحلفائه.
وتُلقي تركيا بخطوتها الأخيرة تلك حجرًا كبيرًا في مياه السياسة التركية الراكدة، هذا الحجر قد يُسرع من الانفراجة ويدفع كل الدول الوسيطة والإقليمية للتخلي عن صمتها من أجل الدفع نحو حل سريع يقضي بانتخابات تفرض الاستقرار وإنهاء حالة الانقسام، استنادًا إلى رغبة الدول الإقليمية التي لا يرغب بعضها في تعزيز النفوذ التركي ليبيًا وتقليل هذا الحضور قدر الإمكان، ولن يكون ذلك إلا بالتوصل إلي حل مرضٍ لجميع الأطراف، لكنه في الناحية الأخرى قد يزيد هذا التحرك من تأزم الموقف، حال التزام الأطراف الأخرى بمواقفها دون إبداء أي مرونة تذيب الجليد المتراكم حاليًّا، الأمر الذي قد يعيد الملف برمته إلى مربع الصفر مرة أخرى، ما لم يكن هناك تدخل دولي مباشر.
الاقتصاد والسياسة.. تركيا تسرع الخطى
تحاول أنقرة تعزيز حضورها داخل ليبيا لتحقيق أهداف عدة، المسار الأول اقتصادي في المقام الأول ومتعلق بالتعاون من أجل الحصول على حقوقها في المتوسط، النفط والغاز، إذ إن قرابة 40% من المواقع المحتمل ظهور النفط بها في ليبيا توجد في المنطقة التي سيتم تفعيل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بها كما أشار وزير النفط والغاز الليبي محمد عون، في تصريحات صحفية له، كاشفًا من خلالها أن معدلات إنتاج النفط في بلاده “تسجل حاليًّا 1.2 مليون برميل في اليوم، إضافة إلى تصدير نحو 300 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي يوميًا إلى إيطاليا”.
ومن أسباب هرولة أنقرة لضمان تلك الحقوق وإسراع الخطى لإدخال اتفاقية الترسيم حيز التنفيذ مع حكومة الوحدة رغم تداعيات تلك الخطوة على مسار الأزمة الليبية بصفة عامة، الاتفاقات التي أبرمتها وما زالت تبرمها شركات النفط الأوروبية خاصة شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية ومعهما عدد من الشركات الأخرى للتنقيب عن الغاز والنفط داخل ليبيا، فقد كشفت الآونة الأخيرة عن تفاهمات بين حكومات تلك الشركات بشأن الحصول على النصيب الأكبر من كعكة النفط الليبي، في محاولة لطي صفحات النزاع بينهما الذي أفقدهما الكثير من الفرص على مدار السنوات الماضية، وهو ما أقلق الجانب التركي بشكل كبير ودفعه للتحرك في هذا المسار.
الحضور المميز لليبيا في سوق الطاقة جعلها مطمعًا للكثير من شركات النفط العالمية، حيث يعمل بها حتى اليوم عشرات الشركات من مختلف دول العالم
وتحتل ليبيا المرتبة الخامسة عربيًا في إنتاج النفط باحتياطي يبلغ نحو 48.36 مليار برميل، فيما بلغ احتياطيها من الغاز ما يقارب 54.6 ترليون قدم مكعبة، يضعها في المرتبة الـ21 عالميًا من احتياطيات الغاز، فيما يشكل النفط الذي اكتشف لأول مرة في ليبيا عام 1958 وبدأ إنتاجه رسميًا عام 1961 قرابة 94% من موارد البلاد.
وصل ذروة الإنتاج الليبي من النفط خلال فترة الثمانينيات، حين تجاوز 3 ملايين برميل يوميًا، وهو الرقم الذي تحاول المؤسسة الوطنية للنفط العودة إليه أو الاقتراب منه خلال الفترة المقبلة بعد العديد من الاكتشافات التي تمت خلال السنوات العشرة الأخيرة، فيما يتصدر حقل الشرارة قائمة الحقول الأكثر إنتاجًا بمعدل 300 ألف برميل يوميًا (25% من معدل الإنتاج الحاليّ) تليه حقول الواحة ومسلة والنافورة بـ100 ألف برميل يومًا لكل منها، ثم بقية الحقول (الفارغ وأبو الطفل والعطشان و103 وآمال وجخرة وتيبستي والفيل والغاني والغولف والوفاء والبوري والمنصة البحرية توتال DP3 والمنصة البحرية صبراتة) وتنتج جميعها قرابة 100 ألف برميل يوميًا.
هذا الحضور المميز لليبيا في سوق الطاقة جعلها مطمعًا للكثير من شركات النفط العالمية، حيث يعمل بها حتى اليوم عشرات الشركات من مختلف دول العالم، نجحت في الحصول على عقود امتياز في مجال النفط والغاز، بعضها يعمل في مجال التنقيب والآخر في الإنتاج والثالث في التصنيع والتكرير فيما يعمل القسم الرابع في الصيانة والخدمات.
ومن أبرز الشركات العاملة في ليبيا، بجانب توتال الفرنسية وإيني الإيطالية، شركة بريتش بتروليوم البريطانية وتات نفط الروسية وشركة سي إن بي سي الصينية، بجانب بعض الشركات العربية على رأسها شركة سوناطراك الجزائرية التي علقت نشاطها جزئيًا في ليبيا منذ الثورة عام 2011، رغم أنها كانت قد حصلت على عقد امتياز مليء بالنفط قرب الحدود الجزائرية الليبية.
دومًا ما كان يصاحب أي خطوة تركية في الملف الليبي تحريك لمياهه الراكدة، وهو ما كان جليًا خلال السنوات الأربعة الأخيرة، وفي ضوء ما سبق، فإن التحرك التركي الأخير لا شك أنه سيكون له تداعياته على خط المسار السياسي للأزمة الليبية، وهو ما يمكن استطلاعه من خلال ردود الفعل الأولية التي من المتوقع أن تتبعها تحركات ومباحثات واتصالات أخرى مع الجانب التركي من جانب وبقية الأطراف المتداخلة في الملف من جانب آخر.