انخرطت تركيا في تشعّبات ومسارات معادلة الحل السياسي السوري بتقلباتها المرحلية كافة، وتفاعلت معها وفقًا لمعطيات ومتغيرات داخلية وخارجية أثّرت على دورها وسياستها تجاه الملف السوري، وما ترتّب على ذلك من انعكاس مباشر على موقفها تجاه الحل السياسي، الذي تبدّلت مفرداته وتحوّلت بنوده وحُرّفت عن مسار الحل السياسي الأول، الذي ابتدأ مع بيان جنيف 1 عام 2012، الذي يعدّ الحجر الأساس الذي ارتكزت عليه القرارات الدولية المتعلقة بالحل السياسي للقضية السورية حتى منتصف عام 2015.
إلى جانب فكرة المجموعات الأربع وبيانات فيينا 1+2 وأستانا وسوتشي المفروض من قبل روسيا كخطٍّ موازٍ لمسار جنيف، إذ استطاعت موسكو عقب تدخلها العسكري المباشر (إلى جانب عوامل داخلية وخارجية أخرى) من تحويل مسار الحل السياسي من فكرة هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية إلى مجرد الحديث عن تحقيق تغيير دستوري تتبعها عملية انتخابية، وهو ما عبّرت عنه اللجنة الدستورية التي تشكّلت عام 2019.
مجددًا، لعبت كوكبة من العوامل والمحددات الداخلية والخارجية في بلورة المقاربة التركية تجاه القضية السورية والحل السياسي المتعلق بها ضمن مسيرة تجاوزت عقدًا من الزمن، فتقلُّبات المشهد على الساحة السورية سياسيًّا وعسكريًّا، إلى جانب التغيّرات في المشهد الداخلي التركي، مع ما أصاب الموقف الدولي العام من تقلبات وتبدّلات تجاه الملف السوري؛ أدت إلى تموضع تركي متقلب متفاعل مع تلك المستجدات والعوامل والمتغيرات ضمن المشهد السوري.
موقف تركيا من مسار جنيف.. التناغم مع المظلة الدولية
هيمنت فكرة الانتقال السياسي على مسار الحل السياسي على مدى 3 أعوام (2012-2015)، والتي صدرت عن بيان جنيف لعام 2012 الذي انطلق من نقاط عديدة، وبقيت هي المحدد الأساسي لأي عملية تسوية سياسية في سوريا، والتي شملت تحقيق انتقال سياسي خلال جدول زمني محدد، في ظل بيئة آمنة ومحايدة تؤسّس لحوار وطني شامل يفضي إلى كتابة دستور جديد وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة.
وظلّت هذه الفكرة حاضرة في الوثائق والتصريحات المرتبطة بالملف السوري، وصولًا إلى قرار مجلس الأمن عام 2015 رقم 2254 الذي شدّد على أن “الشعب السوري هو من يقرر مستقبل البلاد”، ودعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية.
وبدا واضحًا التناغم والانسجام التركي مع هذا التعاطي الدولي تجاه الملف السوري والموقف من نظام الأسد، والذي تمثّل بحالة تأييد شبه جماعية من المجتمع الدولي للمطالب الشعبية، وبتمثيل نسبي جيد واعتراف دولي بقوى المعارضة (أخذ بالتراجع تدريجيًّا لاحقًا)، إضافة إلى وجود توجه دولي عام لفرض عقوبات سياسية واقتصادية ضد النظام، وهو ما ترافق مع تقدم سياسي وعسكري لقوى الثورة والمعارضة، فضلًا عن غلبة الظن حينها لدى القيادة التركية كما يبدو بأنَّ سقوط النظام بات مسألة وقت، لذا كان لا بدَّ من توثيق علاقاتها مع حلفاء وشركاء جدد لمرحلة ما بعد الأسد.
كما شرعت تركيا بتقديم دعم سياسي وعسكري وإعلامي وإغاثي ولوجستي لقوى الثورة والمعارضة، معززة قوة المعارضة على المستويَين السياسي والعسكري، واستضافت مبكرًا معظم قيادات المعارضة السياسية بمختلف تياراتها على أراضيها، واستضافت كذلك مختلف منصات واجتماعات المعارضة، وفقًا لهذه المقاربة المتمثلة بضرورة التركيز على خط إسقاط النظام الفاقد للشرعية وإحداث تغيير جذري في بنية النظام تحت مظلة المنظومة الدولية.
من جهتها، اعتبرت تركيا مسألة سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها هدفها الأساسي منذ أولى خطوات دعمها الجهود الدولية في المسار السياسي، وشددت على رفضها أي أجندات انفصالية ممثلة بمحاولات تشكيل دُوَيلة كردية، وركّزت على استبعاد الأسد عن أي دور في تشكيل مستقبل سوريا.
وتبنّت تركيا لاحقًا قرار الأمم المتحدة رقم 2254 لحلّ الصراع في سوريا بإشراف الأمم المتحدة، والذي نصَّ على دعوة ممثلي المعارضة السورية ونظام الأسد للدخول في مفاوضات لرسم مسار الانتقال السياسي الذي حدّده بيان جنيف، وسعت إلى تأمين وقف إطلاق نار يشمل مختلف الجغرافيا السورية ويوقف موجات اللجوء السوري إلى أراضيها ويمهّد لعودة اللاجئين إلى بلادهم، بعد أن بدأت تعاني من انعكاسات الأزمة السورية عليها داخليًّا وخارجيًّا.
أولى التغيرات الجوهرية التي أثّرت على الرؤية التركية تجاه الحل السياسي كانت حالة التقهقر الميداني والتراجع العسكري لقوى الثورة والمعارضة على وقع الضربات الروسية المكثفة.
واستطاعت تركيا حجز مقعد أساسي ضمن الفواعل الدولية المؤثرة على نتائج ومسار الحل السياسي وتشعّباته وتداخلاته، وذلك عبر إمساكها عدة أوراق قوة جعلت من الصعوبة بمكان استبعادها عن مناقشات ومحادثات العملية السياسية، أو تجاهل مصالحها الاستراتيجية العليا.
ولعلّ أهم هذه الأوراق نفوذها المتداخل المتين داخل أروقة مؤسسات وتيارات قوى الثورة والمعارضة السورية السياسية والعسكرية، والذي تجذّر عمليًّا بعد عمليتَي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، إضافة إلى تزايُد حجم حضورها وثقل وزنها في مختلف القضايا الإقليمية والدولية.
ورغم هذا التأثير والحضور التركي ضمن معادلة العملية السياسية في سوريا، إلا أنَّ السياسة التركية اصطدمت بمطبّات وصعوبات عرقلت نشاطها وحدّت من دائرة تأثيرها في المسار السياسي، وتحديدًا في جنيف الذي عُدّ حينها المسار الوحيد المرسوم لحلّ الأزمة السورية، والذي انطلق بتوافق أمريكي روسي شبه تامٍّ ضيّق مساحة المناورة أمام قوى الثورة والمعارضة وحليفتها تركيا، بعد أن تصاعد حجم التأثير الروسي على المسار مقابل تهميش لوفد المعارضة وإضعاف موقف ودور تركيا، التي بدأت تعاني من ضغوط خارجية وداخلية أثّرت عمومًا على دورها وتفاعلها مع المشهد السوري العام.
في السياق ذاته، بدأت جملة من المتغيرات الداخلية والدولية والإقليمية المتتالية بالتأثير على مسار العملية السياسية في سوريا، وعلى مواقف القوى الدولية تجاهها بما فيها تركيا، ولعلّ أولى هذه التغيرات الجوهرية التي أثّرت على الرؤية التركية تجاه الحل السياسي كانت حالة التقهقر الميداني والتراجُع العسكري لقوى الثورة والمعارضة على وقع الضربات الروسية المكثفة، ومن ثم التقارب التركي مع روسيا مقابل توتر علاقاتها مع الغرب، والتنسيق مع روسيا في عمليتَي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
إضافة إلى تراجع المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، عن التزاماته تجاه الملف السوري وانحسار دور الإدارة الأمريكية في الساحة السورية، وتزايد التركيز الدولي على الملف الإنساني (المساعدات الإنسانية وإغاثة الشعب السوري) والأمني (محاربة الإرهاب)، وتقاعس المجتمع الدولي وتجاهله اتخاذ أي ضغوط على مختلف الأطراف الفاعلة لتطبيق الحل السياسي المنصوص عليه في بيان جنيف 1 ثم قرار مجلس الأمن رقم 2254،
هذا فضلًا عمّا أصاب المعارضة السورية من تراجع ودفعها لتقديم تنازلات سياسية، وهو ما أدّى إلى إحداث تغيير في الأولويات التركية عبر انخراطها عمليًّا في مسارَي أستانا وسوتشي مع روسيا كموازٍ لخطّ جنيف، بعد أن تراجع دورها وتعرّض لانتكاسة ضمن المشهد السوري.
تركيا.. ومسار أستانا وسوتشي
بعد سقوط حلب بيد نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين أواخر عام 2016، سارعت روسيا وتركيا وإيران إلى عقد اجتماع ثلاثي في موسكو للاتفاق على مبادئ الحل في سوريا، واستحدثت الأطراف الثلاثة مسار أستانا الذي يُعنى بإيجاد حلّ للأزمة السورية ويسعى إلى وقف إطلاق النار لتهيئة أرضية مناسبة لتحقيق تقدم في مسار الحل السياسي.
إذ أوضحت بيانات جولات أستانا أنَّ هدف هذا المسار -وفق ما أعلن ضامنوه- هو “دعم إطلاق محادثات مباشرة بين النظام والمعارضة، وتدعيم حالة وقف إطلاق النار وإنشاء مناطق خفض التصعيد في عدد من المناطق، وقتال تنظيمَي “داعش” و”جبهة النصرة” وفصل مجموعات المعارضة المسلحة عنها”، وتولّت تركيا فيه ضمان مشاركة قوى الثورة والمعارضة السياسية والعسكرية وضمنت روسيا مشاركة نظام الأسد.
عمومًا، شهدَ مسار أستانا -إلى الآن- 18 جولة من المحادثات تخلّلها كثير من اللقاءات والمحادثات وقليل جدًّا من التقدم، ويبدو أنّ أهم ما تمَّ إنجازه عبر هذا المسار بين الدول الضامنة هو التوصُّل لاتفاق وقف إطلاق النار وإنشاء مناطق خفض التصعيد، وإطلاق اللجنة الدستورية عام 2018، وسط انتهاكات سافرة لنظام الأسد وحلفائه لاتفاقيات وقف إطلاق النار متّبعًا سياسة قضم مناطق سيطرة المعارضة السورية، كما تجنّب المسار تمامًا الولوج في قضايا رئيسية كطبيعة الحل النهائي والانتقال السياسي ومصير بشار الأسد.
وبالنظر إلى الموقف التركي الذي أخذ حينها بالتراجع ضمن المعادلة السورية، يمكن القول إن أنقرة سعت عبر انخراطها في مسار أستانا إلى الحفاظ وتثبيت دورها وتأثيرها في المشهد السوري، ما يتيح لها إعادة التموضع مجددًا لمواجهة التحديات الأمنية، بما ينسجم مع إعادة تعريفها لمصالحها الاستراتيجية في سوريا والمنطقة، وعلاقاتها مع القوى المنخرطة في الملف السوري بعد التغييرات التي جلبتها محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 على الرؤية التركية وتفاعُل سياساتها الخارجية، والذي نتج عنه تحول نحو روسيا وإنهاء الأزمة معها.
عمليًّا، كان واضحًا أن الهدف المشترَك لضامني مسار أستانا (تركيا وروسيا وإيران) من تأسيس واستحداث المسار هو موازنة الدور الأمريكي في الملف السوري، والتنسيق المشترك بمعزل عن الولايات المتحدة، ولكلٍّ أهدافه الخاصة؛ فتركيا حاولت من خلال المشاركة في المسار وزيادة تنسيقها مع روسيا إحداث نوع من التوازن مع الولايات المتحدة، بعد تنامي الشكوك التركية حول أهداف دعم الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب (PYD)، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، والذي تعدّه تركيا تنظيمًا إرهابيًّا يهدد أمنها القومي ووحدتها السياسية، لا سيما بعد تثبيت الولايات المتحدة وجودها العسكري شمالي شرق سوريا قرب الحدود مع تركيا.
رغم المكاسب التي حصّلتها تركيا نتيجة التفاهمات مع روسيا، إلا أنها حرصت على عدم السماح باستفراد روسيا في العملية السياسية والتسليم الكامل لها
ورغم القبول الضمني التركي بالرؤية الروسية للحلّ السياسي في سوريا، وحرصها على استمرار التنسيق والتعاون مع موسكو، غير أن هذا لم يمنع وجود تباينات واختلافات بين الطرفَين، وتحديدًا عند الحديث عن دور بشار الأسد في العملية السياسية ومستقبل سوريا، فرغم موافقة تركيا الضمنية على بقاء الأسد خلال الفترة الانتقالية، إلا أنها عبّرت في أكثر من مناسبة حينها عن رفضها فكرة بقائه في السلطة، باعتباره المسؤول الأول عمّا وصل إليه الوضع في سوريا.
كما أنه منذ انطلاق مسار أستانا حاولت روسيا استبدال مسار جنيف به، في محاولة منها للاستئثار بمسار الحل السياسي والهيمنة على القرار النهائي، وهو ما رفضته تركيا التي عبّرت عن ضرورة الاعتماد على جنيف كأساس، فرغم المكاسب التي حصّلتها تركيا نتيجة التفاهمات مع روسيا، إلا أنها حرصت على عدم السماح باستفراد روسيا في العملية السياسية والتسليم الكامل لها، بحيث يبقى هامش مناوراتها أوسع، إذ أعربت مرارًا عبر مجموعة أصدقاء سوريا، بمشاركة دول عربية وغربية، عن دعمها الكامل لمفاوضات جنيف، ورفضت إطلاق أي حلّ سياسي بعيدًا عنها أو خارج إشراف الأمم المتحدة وقراراتها لا سيما القرار 2254.
في المحصلة، مع تغيُّر أولويات تركيا تجاه الملف السوري، وبلورتها مقاربة جديدة في سوريا، دخلت في مسار أستانا محقّقة جملة من المكاسب عمّقت بها جهود تقاربها مع موسكو، وأضعفت احتمالات تشكيل دويلة كردية على حدودها تهدد أمنها ووحدة أراضيها، وحجزت مكانًا ودورًا مهمَّين في المعادلة السورية على المستوى البعيد، لا سيما بعد حضورها عسكريًّا إلى جانب الفصائل العسكرية في “درع الفرات”، ودخول قواتها إلى إدلب وتشكيلها نقاط مراقبة ضمن إطار اتفاق خفض التصعيد الذي تمَّ لاحقًا بموجب مسار أستانا.