يخيم الغموض على مسألة الحوار التركي مع نظام الأسد ومستقبله وجديته بعد سلسلة تصريحات تركية أبدت إمكانية التقارب مع النظام والحوار معه بعد عقد من القطيعة السياسية بين الجانبين، منها تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الذي كشف عن محادثة قصيرة أجراها مع وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز في العاصمة الصربية بلغراد في أكتوبر/تشرين الأول 2021، داعيًا إلى “مصالحة بين النظام والمعارضة من أجل الحفاظ على وحدة الأراضي السورية”، ليتبعها تصريح للرئيس التركي بعد أيام قائلًا: “يتعين الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا يمكننا من خلالها إفساد العديد من المخططات في هذه المنطقة من العالم الإسلامي”.
بينما أكّدت مصادر نقلتها وكالة رويترز انعقاد اجتماعات عديدة بين أجهزة الاستخبارات التركية ونظام الأسد ممثلة برئيس المخابرات التركية حقان فيدان ومدير مكتب الأمن القومي في نظام الأسد علي مملوك في العاصمة السورية دمشق، ووفقًا للوكالة فقد بحثت الاجتماعات بين الجانبين إمكانية عقد لقاءات على مستوى أعلى ممثلة بوزير الخارجية التركي ووزير خارجية النظام.
وتواصلت، بعد ذلك، التصريحات التركية التي تبشر باحتمالية إقامة علاقات رفيعة المستوى مع نظام الأسد، على اعتبار أنه “لا يوجد استياء أو خلاف أبدي في السياسة” على حد تعبير الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، الذي صرح الخميس 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 أنه قد يعيد النظر في العلاقات مع الأسد بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجراؤها في يونيو/ حزيران من العام المقبل.
أثارت هذه التصريحات والتحولات السياسية التركية حفيظة الشارع السوري الذي يمر بحالة من القلق والاضطراب وتخوف من إمكانية استدارة تركية نحو التطبيع والمصالحة مع النظام، مستحضرًا تساؤلات متعلقة بمستقبل السياسة التركية في سوريا في ضوء التحولات التي تشهدها السياسة الداخلية والخارجية التركية التي تتزامن مع تغييرات إستراتيجية تخيم على المشهد الإقليمي والدولي وانعكاسات ذلك المحتملة على الملف السوري.
العامل الروسي كدافع للتقارب التركي مع نظام الأسد
تعرضت القضية السورية لجملة من التقلبات أثرت على طريقة تعاطي القوى الدولية الفاعلة في الشأن السوري معها وهو ما فرضه عامل الزمن بعد أن تجاوز عمر الثورة السورية أحد عشر عامًا منذ انطلاقها، الأمر الذي حمل في طياته تغييرات كبيرة في مواقف القوى الدولية في التعاطي مع الملف السوري نظرًا إلى تغيّر مصالحها وحساباتها الإستراتيجية والتكتيكية.
وهذا ما شهدناه مؤخرًا في حملة التطبيع العربي مع الأسد وتراخي الولايات المتحدة تجاه مسألة تغيير النظام وفي تطبيق عقوباتها الاقتصادية على النظام وداعميه بموجب قانون قيصر والتسليم للدور الروسي في سوريا وفتح العديد من الدول سفاراتها في دمشق وتبادل الزيارات مع مسؤولي النظام وعدم الاهتمام بتطورات الحل السياسي مقابل التركيز على القضايا الإنسانية والأمنية وأبرزها محاربة الإرهاب وملف اللاجئين وتقديم بعض التسهيلات لنظام الأسد للعودة تدريجيًا إلى بعض المؤسسات الدولية كالإنتربول الدولي وإدخاله في المجلس التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية.
والواضح أن رياح هذه التغييرات انتقلت إلى السياسة التركية تجاه الملف السوري، ويمكن القول إن هذه التغيرات لم تكن وليدة اللحظة، بل بدأت منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015 الذي حسم عمليًا معادلة الصراع لصالح النظام، وما أعقب ذلك من محاولة تركيا إعادة النظر في سياستها بسوريا عبر تمتين علاقاتها مع روسيا في ظل زيادة التوتر في علاقتها بالولايات المتحدة والغرب نتيجة دعم الجانبين للمشروع الانفصالي الكردي وتجاهل الولايات المتحدة المخاوف الأمنية التركية في سوريا.
تسارع هذا التغيير بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا عام 2016، حين تضامنت روسيا مع الحكومة التركية مقابل موقف أمريكي غربي باهت، واتهام تركيا للولايات المتحدة بالتورط في دعم الانقلابيين وإيواء زعيمهم فتح الله غولن، وبدا أكثر وضوحًا منذ وصول بايدن إلى السلطة عام 2021 الذي تبنى خطابًا حادًا تجاه الحكومة التركية.
إثر ذلك تغيرت الأولويات التركية في سوريا وتحولت تدريجيًا من فكرة إسقاط نظام الأسد إلى صالح تجفيف التهديدات التي أفرزها الصراع على الأمن القومي التركي المتمثلة في منع نشوء كيان كردي انفصالي، ما مهد لسلسلة من التفاهمات مع روسيا بعد الاقتراب التركي من المقاربة والرؤية الروسية في المشهد السوري، الذي أسفر عن تنفيذ تركيا ثلاث عمليات عسكرية شمال سوريا هي: درع الفرات 2016 وغصن الزيتون 2018 ونبع السلام 2019، أنهت من خلالها إمكانية إنشاء كيان انفصالي على حدودها.
يعزز ذلك ما جاء من تصريحات على لسان الرئيس التركي التي أشار فيها إلى أن “الحكومة التركية لا يهمها هزيمة الأسد أو عدم هزيمته”، مؤكّدًا أن “أجهزة استخبارات تركية وسورية تتواصل بخصوص التنظيمات الإرهابية”، في إشارة إلى التنظيمات الكردية الانفصالية، وهو ما تحدث عنه وزير الخارجية التركي الذي أعلن استعداد بلاده تقديم كل أنواع الدعم السياسي للنظام لمواجهة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لإبعادها عن الحدود التركية، فضلًا عما جرى الحديث عنه في وسائل الإعلام عن بعض الشروط التي قدمها الوفد التركي خلال اللقاء الذي جمع حقان فيدان بعلي مملوك منها “التعاون في القضاء على وحدات حماية الشعب الكردية”.
في المجمل، تأتي محاولات التقارب التركية مع نظام الأسد في سياق الجهود الروسية الساعية لإذابة الجليد بين تركيا والنظام وإعادة العلاقات السياسية بين الطرفين تدريجيًا، بما يساعد على حلحلة عقدة فقدان الشرعية الدولية التي تمنع عودة نظام الأسد إلى المجتمع الدولي، في ضوء مسار جهود روسيا المتواصلة لتعويم الأسد وإخراجه من عزلته السياسية والاقتصادية، وهو ما تجلى بشكل واضح في دعوة بوتين لأردوغان صراحة خلال قمة سوتشي الأخيرة إلى التنسيق مع نظام الأسد لحل قضية التنظيمات الكردية الانفصالية وملف اللاجئين.
“تصفير المشاكل” من جديد
ينسجم الخط التقاربي الذي بدأت تركيا تخطه مع نظام الأسد مع بوادر عودتها إلى سياسة “تصفير المشاكل” مع دول الجوار بعد سنوات من المشاكل والتجاذبات مع عدد من الفواعل الإقليمية على خلفية موقفها الداعم لثورات الربيع العربي وموقفها من أحداث مصر وليبيا وسوريا والقضية الفلسطينية والبحر المتوسط والأزمة الخليجية، نتيجة تزايد التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تواجهها الحكومة التركية.
خطوة الحوار التركي مع النظام مرتبطة إلى حدٍّ ما بجهود الحكومة التركية في سحب ورقة اللاجئيين السوريين والمفاوضات مع النظام من يد المعارضة
ترافق ذلك مع أزمة اقتصادية حادة ضربت البلاد، ما انعكس سلبًا على الاقتصاد التركي وسعر صرف العملة التركية التي خسرت نحو 90% من قيمتها بين عامي 2016-2022 وارتفاع مستوى التضخم إلى نسبة قياسية بلغت نحو 80%، لا سيما مع التحديات الاقتصادية التي فرضتها أزمة كورونا وتحديدًا على القطاع السياحي، كل ذلك دفع تركيا إلى إحداث انعطافات في سياستها الخارجية تضمنت تحسين علاقاتها مع السعودية والإمارات و”إسرائيل” ومصر.
تأثير الانتخابات الرئاسية القادمة وملف اللاجئين
تتزامن الخطوات التركية مع تحديات داخلية تعيشها الحكومة التركية ممثلة باقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المزمع عقدها في يونيو/حزيران 2023، فقد بدأت المعارضة التركية في استغلال ملف اللاجئين السوريين لتأجيج الشارع والرأي العام التركي ضدهم والتحريض عليهم والدعوة إلى ترحيلهم لبلادهم عبر إثارة ونشر خطاب الكراهية والعنصرية تجاههم وتحميلهم مسؤولية تأزم الأوضاع الاقتصادية في البلاد، بهدف إضعاف موقف العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة أمام الرأي العام عبر اتهام الحكومة التركية بتعثر سياساتها في إدارة هذا الملف.
وهو ما ترافق مع تبلور توجه عام تشترك فيه معظم القوى والأحزاب السياسية التركية ولو بدرجات متفاوتة بضرورة المضي قدمًا في قضية الحوار التركي مع النظام، إذ تبنت بعض أحزاب المعارضة خط التطبيع مع النظام والحوار معه كوسيلة للضغط على العدالة والتنمية ورغبة في حل مسألة عودة اللاجئين السوريين، ما دفع بالحكومة التركية كما يبدو لتسريع خطوات المفاوضات مع النظام.
يستمر النظام بالتعنت ويرفض تقديم تنازلات جوهرية لتركيا في الملفات التي توليها أهمية قصوى، ويفرض شروطًا تعجيزية يصعب على تركيا قبولها
وبالتالي، فإن خطوة الحوار التركي مع النظام مرتبطة إلى حدٍّ ما بجهود الحكومة التركية في سحب ورقة اللاجئيين السوريين والمفاوضات مع النظام من يد المعارضة، حيث تعهدت الحكومة التركية باستكمال إنشاء مشروع المنطقة الآمنة التي تنوي توسيعها بعمق 30 كيلومترًا في إطار جهودها لإعادة مليون لاجئ سوري إلى تلك المناطق.
وهو ما يتضح من الحيز الكبير الذي يأخذه ملف اللاجئين خلال المباحثات التركية مع النظام، فقد كشفت صحيفة الصباح التركية أن “المباحثات التي تمت بين فيدان ومملوك كانت بمثابة محاولة لوضع خريطة طريق للعودة الآمنة للسوريين في تركيا إلى بلادهم”، وأشارت الصحيفة إلى أن “المسؤولين الأتراك عرضوا قضايا تخص العودة الآمنة لجميع طالبي اللجوء وإعادة العقارات لأصحابها وتهيئة ظروف العمل والتوظيف وضمان عدم إصدار أحكام بحقهم وإمكانية إلغاء القانون رقم 10 الذي أصدرته حكومة النظام في عام 2018 الذي يقضي بجواز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر في المناطق التي دمرتها الحرب عبر سحب ملكية عقارات المواطنين الذين غادروا البلاد ولم يقدموا إثباتات الملكية خلال 30 يومًا”.
عوائق وتحديات
تبدو تركيا عازمة على تحقيق اختراق في محادثاتها مع نظام الأسد والتقدم بمسار الحوار أملًا في تحقيق بعض من مصالحها الرئيسية، وأهمها: إنهاء خطر مشروع “قسد” المهدد الأول والرئيسي لأمن تركيا القومي، لا سيما بعد اتهام تركيا حزب العمال الكردستاني “PKK” ووحدات حماية الشعب الكردية “YPG” بالوقوف خلف التفجير الإرهابي الذي استهدف شارع الاستقلال وسط إسطنبول، وحل ملف اللاجئين السوريين من ناحية منع تدفق موجات جديدة إلى الحدود التركية وتأمين عودة قسم منهم إلى بلدهم والسعي لتجاوز الأزمة الاقتصادية وتجريد المعارضة من ورقة اللاجئين والحوار مع النظام.
ورغم ذلك، تقف جملة من الصعوبات والعوائق التي تقلل من إمكانية تحقيق اختراقٍ سياسي ودبلوماسي في العلاقة بين تركيا ونظام الأسد، وتحقيق تطبيع كامل للعلاقة بين الجانبين، إذ يستمر النظام بالتعنت ويرفض تقديم تنازلات جوهرية لتركيا في الملفات التي توليها أهمية قصوى، ويفرض شروطًا تعجيزية يصعب على تركيا قبولها، أهمها: الانسحاب الكامل من سوريا أو إبداء استعداد للانسحاب أو تحقيق انسحاب جزئي قبل الحوار ووضع جدول زمني للانسحاب، وإيقاف دعم المعارضة السورية واستعادة السيطرة على معبر باب الهوى وطريق M4 في إدلب.
إضافة إلى مطالبته بدعم تركي اقتصادي وسياسي، وهو خيار مستبعد بالنسبة لتركيا التي أسست لوجود طويل الأمد في سوريا (خلال سنوات وجودها) يحفظ أمنها القومي ويحد من مخاطر تدفق اللاجئين وتأمين عودتهم، ووضعت شروطًا تراها مهمة للاستمرار في مسار الحوار مع النظام وهي: تطهير كامل الأراضي السورية من عناصر حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري “YPG” والانخراط في مفاوضات جدية مع المعارضة وضمان العودة الآمنة للاجئين.
من المرجح أن نشهد زيادة التنسيق الأمني وحلحلة بعض القضايا وتمرير بعض مصالح واحتياجات الجانبين في المرحلة المقبلة دون الذهاب بعيدًا لإبرام تفاهم ومصالحة شاملة تركية مع النظام
بناءً عليه، لا يبدو أن النظام في وارد تقديم تنازلات لتركيا فيما يتعلق بموضوع إنهاء “قسد” وملف اللاجئين، فهو لا يرغب ولا يملك القدرة على حل هذين الملفين اللذين يعتبرهما مشكلة تركية بشكل أساسي وورقة قوة يستفيد منها، فمن جهة يشترك النظام مع “قسد” في العداء للمعارضة السورية ويحفل تاريخهما بدعم وتعاون مشترك سياسي وميداني في ضرب قوى الثورة والمعارضة خاصة في أرياف حلب، واستهداف الجيش التركي وضرب مشروع المنطقة الآمنة التي تعمل تركيا على تحقيقها.
كما أنه لا يملك القدرة على حسم ملف “قسد” وإنهاء وجودها ـ حال رغب في ذلك ـ لا سيما أنها تتمتع بحماية أمريكية روسية، إذ يبقى الموقف الأمريكي المتمسك بالتحالف مع “قسد” حجر عثرة أمام أي محاولات لإنهائها وتحديدًا في المناطق الواقعة تحت النفوذ الأمريكي.
ومن جهة أخرى، قد لا يرغب نظام الأسد في إعطاء حزب العدالة والتنمية ورقة انتخابية مهمة عبر التعاون معه في موضوع إعادة اللاجئين، وهو ما قد يساعده في كسب الانتخابات الرئاسية المقبلة على حساب أحزاب المعارضة التي يراها النظام أكثر جدية في التعامل والتعاون معه، وقد تقدم تنازلات أكبر في حال نجاحها في الانتخابات.
وقد جاء عرض النظام مزيد من أراضي مهجري إدلب للاستثمار في مزادات علنية، مشترطًا عودتهم وتسوية أوضاعهم في فروع النظام الأمنية لاستعادة أراضيهم، ليؤكد عدم رغبته الفعلية في التجاوب مع تركيا في ملف توليه أهمية قصوى لاستمرار مسار الحوار والتقارب معه.
في الختام، تُظهر المؤشرات صعوبة التوصل إلى تطبيع سياسي كامل أو جزئي بين الجانبين نظرًا لثقل الملفات السياسية العالقة بينهما، لكن من المرجح أن نشهد زيادة التنسيق الأمني وحلحلة بعض القضايا وتمرير بعض مصالح واحتياجات الجانبين في المرحلة المقبلة دون الذهاب بعيدًا لإبرام تفاهم ومصالحة شاملة تركية مع النظام، وانتظار نتائج الانتخابات الرئاسية التركية الحاسمة التي سيكون لها انعكاس وتأثير مباشر على التموضع التركي في سوريا، وهو ما يفهم من تصريح الرئيس التركي مؤخرًا بأن بلاده قد تعيد تقييم علاقاتها مع النظام بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة.