الإمام محمد عبده
لعل أكثر ما يدور من أحاديث بين المهاجرين العرب، أو بينهم وبين أهلهم وأصدقائهم في الوطن، الحديث حول الفوارق الحضارية الهائلة، تقنية وعلمية وخدمية بين الغرب والبلاد العربية، ولكن يختلف أثر هذه الأحاديث في النفوس بحسب علو همة ويقظة الشخص نفسه.
فمنهم من تكون دافعة له للتفاخر بمجرد التمتُّع بمنجزات تلك المدنية، وكأنهم هم روادها ومؤسّسوها وينسون بلدانهم، ومنهم من تكون دافعة له لسلوك آخر على النقيض من ذلك، للجد والاجتهاد والدأب على التعلم والعمل لخدمة بلدانهم ومجتمعاتهم، حتى تصل إلى ما وصلت إليه تلك البلدان الغربية.
ولعلّ ما يشير إلى أهمية ذلك الاطّلاع ما كتبه محمود شاكر في كتابه “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، حول الجهود المضنية للمستشرقين الأوروبيين واغترابهم عن بلدانهم ونكرانهم لذواتهم، من أجل الاطّلاع على ما عند العرب وتحصيل العلوم والمعارف التي كان بها تقدمهم مدة من الزمن، فكانت تلك الجهود ركيزة أساسية من الركائز التي قامت عليها المدنية الغربية.
قبل أكثر من 100 سنة سافر شاب مصري إلى بلد يحلم كثير من الشباب بالهجرة إليه ليعيشوا عيشًا هادئًا رغيدًا، إلى باريس، ولكن ذلك الشاب أقام في ذلك البلد في غرفة على سطح منزل مع أستاذه، لإصدار مجلة كان لها دور مهم في يقظة أقوام من العرب والمسلمين.
ذلك الشاب كان محمد عبده، مع أستاذه جمال الدين الأفغاني، حيث أصدرا مجلة “العروة الوثقى”.
شخصية فرضت نفسها
كان الإمام محمد عبده أحد رواد التجديد الإصلاحيين، الذي يعدّه كثير من علماء ومشايخ وتيارات المسلمين مجددًا من المجددين، بدءًا من إصداره مع أستاذه مجلة “العروة الوثقى” التي أثّرت وحرّكت جماهير عريضة، حيث كان كما يقول محمد محمد حسين في كتاب “الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر”: “من المعروف أن جمال الدين الأفغاني هو صاحب الفكرة في مقالات “العروة الوثقى”.. وأن الإمام محمد عبده هو الذي كان يصوغ هذه الأفكار بعبارته”، إلى ما كتبه من الأجزاء الأولى من “تفسير المنار” حيث كان محمد رشيد رضا يلخّص فيها تفسير أستاذه الإمام محمد عبده.
ولكن الحديث عنه يبدو صعبًا شائكًا، بل قد يتردد المرء في الكتابة عنه لشدّة الخلاف الذي قام حوله، بين من يجعله عميلًا للإنكليز أراد تدمير المجتمع المسلم، ومن يجعله إمامًا مصلحًا مجددًا في دور تشريعي جديد من الأدوار التشريعية التي مرَّ بها الفقه الإسلامي، إلى من يجعله وسطًا بين الفريقَين.
فتجد من يخطب خطبة في مسجد من أهم مساجد دمشق للتحذير من انحرافاته، كالشيخ أسامة الرفاعي، حيث نظر إليه من زاوية ما، ومن يحذّر منه في دروسه وكتبه كالبوطي، ولكن الذي يشجّع للتعرُّف إليه أكثر والبحث في شخصيته وأثرها قراءة أقوال من أثنى عليه، كالشيخ القرضاوي رحمه الله.
إذ يقول القرضاوي بضرورة الاطّلاع على كامل إنتاجه الفكري، قبل الحكم عليه من خلال واقعة تروى عنه أو خطأ ينسب إليه، ويشير إلى أمثلة ممّا يجب الاطّلاع عليه، ككتابه “رسالة التوحيد” ومقالاته في الرد على فرح أنطون، والمفكر الإسلامي الكبير محمد عمارة في كتابه “محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين”.
بل تجد من علماء الشام من يثني على الإمام محمد عبده ثناءً طيبًا عليه، كالشيخ علي الطنطاوي في عدة مواضع من “ذكرياته”، بقوله: “والذين أيقظوا النُّوَّام في مصر والشام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده”، وعندما تحدث عن حسن البنا ومَن مهّد الطريق له من قبله، فقال: “وممّن مهّد له الطريق وأمده بأسباب الوصول جماعات سبقوا إلى الدعوة إلى الله في هذا العصر… منهم محب الدين الخطيب ومحمد رشيد رضا، وقبلهما الشيخ محمد عبده”.
حتى إن البنا يعدّ الإمام محمد عبده من المصلحين المعتدلين الذين حاولوا أن يقرّبوا العلوم الجديدة من الإسلام، فلم يكن من الجامدين ولم يكن من المتغرّبين، فقال: “حاولوا أن يقرّبوا العلوم الجديدة أو الفكر المعاصر من الإسلام، منهم من صنع ذلك باعتدال كالشيخ محمد عبده في مصر”.
أسباب الخلاف حوله
لعلّ الخلاف الذي نشأ حوله يرجع إلى عدة أسباب، منها الخلاف في المدرسة العلمية والمذهبية، ومنها عدم فهم ما قاله بتمعُّن وتمحيص بل أخذ عناوين والبناء عليها، ومنها بعض الآراء السياسية له التي خالفت النَّفَس الثوري ضد الإنكليز، ومنها بعض أخطائه التي هي أخطاء لا تنكر.
قد نشير إلى تفصيل بعض أسباب الخلاف العلمية أثناء الحديث عن عطائه الفكري، ولكن من المهم أن نفهم موقفه من الإنكليز ووجودهم في مصر قبل ذلك، حيث اتهمه بعض الكتّاب بأنه عميل للإنكليز.
لقد كان الإمام محمد عبده رحمه الله من الإصلاحيين لا من الثوريين، وإن كان قد تحدّث في العلاقة بين الحاكم والمحكوم ووجوب إصلاح الأوضاع السياسية، لكنه كان يدعو إلى الإصلاح والتربية، وكأنه يرى أن قيام الثورة في ظل ّالأوضاع الفاسدة لا يجدي، هذا كان رأيه قبل الثورة العربية، لكنه انخرط في صفوف الثورة بعد أن أصبحت أمرًا واقعًا، وكان لا بدَّ من الانحياز الأخلاقي لها، حيث لا يجدي الحديث عن الإصلاح في ذلك الوقت، بل قد يُفهَم منه تثبيط الثوار والانحياز للمحتل.
وبعد انتهاء الثورة ودخول الإمام محمد عبده السجن عاد إلى سيرته الأولى، يقول محمد عمارة في كتابه “محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين”: “وفي السجن راجع محمد عبده شريط حياته الفكرية العملية، وأغلب الظن أنه قد قرّر يومها اعتبار فترة الشهور الستة التي ارتبط فيها بالثورة والفكر الثوري والثوار، فترة عارضة وعابرة في حياته”.
ولكن ذلك لا يعني رضاه عن الوجود الإنكليزي في مصر، حيث يقول في “الأعمال الكاملة لمحمد عبده”: “إن العمل على إخراج الإنكليز في مصر عمل كبير جدًّا، ولا بدَّ في الوصول إلى الغاية منه من السير في الجهاد على منهاج الحكمة، والدأب على العمل الطويل ولو لعدة قرون”.
البيئة العلمية والظرف التاريخي الذي نشط فيه
كانت نشأة الإمام محمد عبده في أكثر مرحلة تاريخية اتسعت الهوة فيها بين الشرق والغرب، وإن كان الشاب العربي المعاصر يرى أن الفرق اليوم شاسع، إلا أن الاتساع كان في عصر محمد عبده أكبر، وهذا ما يحمّل المصلحين المجددين مسؤوليات وأعباء أكبر، وهذا أيضًا ما يوجب على الدارس اليوم فهم آراء ذلك المجدد في ظرفها وسياقها التاريخي، بل يلتمس له الأعذار في بعض الأخطاء.
تلك المرحلة هي أواخر عصر الخلافة العثمانية، حيث كانت قد وصلت الأوضاع الاقتصادية إلى أسوأ حالاتها، مع انتشار الجهل والتخلف والبدع والخرافات، وانتشار السلبية بين المسلمين، والبُعد عن ركب العلوم الحديثة، مع ضعف سياسي للدولة العثمانية وامتداد التدخلات الأجنبية في البلدان التابعة لها.
كما كان عصرًا لم تؤدِّ فيه العلوم الشرعية غاياتها ومقاصدها، بل وقفت الدراسات عند الحدود والرسوم، دون اجتهادات جديدة تحقق روح الشريعة ومقاصدها، وتستجيب لمتطلبات وقضايا العصر.
في كل تلك الظروف كان لا بدَّ من هزات عنيفة تنفض عن عقول الناس ركام الجهالات والخرافات، وتزيل ما على عيونهم من غشاوات، وتضعهم أمام مسؤولياتهم في تطوير مجتمعاتهم.
وكانت هناك نظرتان لطريقة التعامل مع الواقع الجديد، نشأ عنهما تياران، تيار التغريب الذي يرى أن الحل هو استيراد كل أنماط ونماذج الحياة الغربية، وتيار الجمود الذي يرى الحل في التمسُّك بتفاصيل التراث دون الحاجة إلى نظرات إصلاحية، فكانت مدرسة محمد عبده هي الطريق الثالث.
وقد قال محمد عمارة عن هذا الطريق: “فكان أن قالت مدرسة التجديد هذه لا لتيار التغريب الذي أراد أنصاره من المستعمرين وأنصارهم ومن الذين أدهشتهم فبهرتهم عظمة الحضارة الأوروبية عندما قارنوها بتخلف المماليك والعثمانيين، لأن هذه المدرسة رأت في التغريب أمرًا يتجاوز التجديد، رأت فيه اقتلاع أمة عريقة من أصلها العريق، وقالت لا لفكرية العصور المظلمة التي مثّلت الجمود والانحطاط”.
صحيح أنه كانت قد نشأت قبل ذلك الدعوة الوهابية لإصلاح بعض الأوضاع الدينية، لكن محمد عبده وجّه إليها انتقاداته لعدم وفائها بمتطلبات التجديد، حيث وقفت عند إزالة بعض الأوضاع الفاسدة دون الاستجابة لقضايا المعاصَرة.
ولعلّ هذا شأن طبيعي، حيث لا يمكن لدعوة ولا لتيار واحد أن ينهض بشؤون الأمة كلها في مختلف مجالات دينها ودنياها، ما يقود إلى قبول نشاط كل تيار قدّم إصلاحات جديدة وإن لم تكن وافية لكل حاجات عصره، وإن لم تكن مناسبة لكل مجتمعات ذلك العصر، فقد يناسب المجتمعات الشامية بظروفها ما لا يناسب المجتمعات الهندية بظروفها.
التجديد في دعوة الإمام محمد عبده
نشأ الإمام محمد عبده نشأة شرعية مائلة إلى التصوف، ودرس في الأزهر، ولقيَ جمال الدين الأفغاني فأثّر فيه وفي نظرته إلى الأزهر ومناهجه، وحفّز فيه النظرة النقدية الإصلاحية، فكان بعد ذلك يُدرِّس كتب المنطق وعلم الكلام في الأزهر، ثم يعقد دروسًا في بيته ويلقي على طلابه بعض الكتب الفكرية، ككتاب “التحفة في تاريخ المدن الأوروبية”.
ويتحدث الإمام محمد عبده عن النظرة الإصلاحية التي نشأت لديه وكوّنت أساس دعوته، فيقول في “الأعمال الكاملة”: “وارتفع صوتي بالدعوة إلى تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة السلف، وإصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، والتمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة”.
أما عن الميادين والمجالات التي ظهرت فيها جهود الإمام محمد عبده التجديدية، فيمكن تلخيصها بالتالي:
اتجاهه لإصلاح التعليم في الأزهر
حيث وجّه الإمام محمد عبده سهام نقده للأساليب العقيمة -وفق رأيه- التي كانت تحكم مناهج الأزهر، من وقوف على الألفاظ والأشكال وعدم الغوص في روح كل علم وفن، واستخراج مقاصده والتجديد فيه، ما جعل الفكر يقف عند المرحلة الزمنية التي كتبت فيها تلك الكتب والمتون، فكانت مناهج الأزهر علاجًا لقضايا ومشكلات سابقة.
ولما اعترض عليه بعض الشيوخ بأن الإمام محمد عبده هو نفسه قد تعلم في الأزهر، قال: “إن كان لي حظ من العلم الصحيح، فإنني لم أحصّله إلا بعد أن مكثت 10 سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر”.
ولعلّ هذا الموقف العنيف كان رد فعل على مقاومة الإصلاح التي قادها بعض المشايخ المعارضين لدعوته، ولتوضيح الأمر يقول الدكتور محمد عمارة: “والذين يستغربون مثل هذا الرأي عليهم ألا يتصوروا أزهر اليوم، فأزهر ذلك التاريخ كان غارقًا حتى قمة رأسه في المحافظة والجمود”.
انتقاد الفساد عند بعض رجال الدين وانتقاد الوصاية على عقول الناس
فقد رأى الإمام محمد عبده أن المؤسسة الدينية في ذلك العصر اقتربت شيئًا ما من المؤسسة الدينية المسيحية من خلال الوصاية على الناس، وهذه دعوة تحررية لا تعني عدم احترام أهل الذكر الذين أمر القرآن بالرجوع إليهم، بل انتقادًا لبعض الممارسات عند بعض رجال الدين الذين كانوا عقبة في وجه التجديد والإصلاح والبحث العلمي، وكأن لهم سلطة دينية شبيهة بسلطة الباباوات.
التجديد في التعامل مع القرآن
حتى يعود منهاج حياة ديني يوجّه الناس في طريقة التعامل مع الدنيا، ويفتح لهم آفاق النظر في الكون والبحث العلمي والتطوير، والتركيز على العبرة والعظة في القرآن مع تجاوز بعض الأمور غير المفيدة التي مُلئَت بها بعض التفاسير، والتي تجاوزها القرآن ذاته لأنها غير ذات جدوى.
وينبّه إلى الحذر ممّا سُمّي تفسيرًا علميًّا للقرآن، أي محاولة استخراج أسُس العلوم والمعارف الكونية من القرآن، من خلال طرائق في التفسير لا تنضبط بالقواعد والأصول، فهذه النزعة في إيجاد جواب كل شيء من القرآن تعطّل العقل والبحث العلمي، يقول: “القرآن ليس كتابًا فنيًّا فيكون لكل مقصد من مقاصده باب خاص، وإنما هو كتاب هداية ووعظ ينتقل بالإنسان من شأن من شؤونه إلى آخر”.
فالقرآن لم يسرد لنا تاريخ البشرية بتفاصيلها، ولم يبنِ لنا علم طبقات الأرض ولا الكواكب ومواضعها والمسافات بينها، بل وضع لها منهاجًا لحياة البشر ولفت أنظارهم إلى تلك العلوم للبحث فيها.
ولتوضيح ذلك وبيان أثره يقول: “إنه لو كان من وظيفة النبي أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية، لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل… نعم إن الأنبياء ينبّهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم”.
فالدين جاء بالتصورات والعقائد عن الكون والإنسان ووظيفته، وبيّن له رسالته الأساسية، ووضع له الضوابط العامة لتعبُّده وعلاقاته، ثم وجّهه إلى التعامل مع الكون بما لا يخرج عن الأطر التي وضعها له، فهو قنّن تعامل الإنسان مع الكون ولم يعطه تفاصيل العلوم وحقائق الكون، ولفت أنظار الناس إلى الظواهر الكونية ومادة الكون وأطلقهم للبحث فيها.
وهذه النظرة المهمة في التعامل مع القرآن مهمة لشأن الدين حتى يُفهَم القرآن كما أراد الله، ولشأن الدنيا حتى ينطلق المسلمون في حقول البحث العلمي، يوضّح ذلك محمد عمارة في كتابه “محمد عبده” بقوله: “هذا الموقف الإسلامي الذي يخرج ميدان العلوم الكونية بحقائقها وقوانينها ونظرياتها من نطاق الوحي والشرع والدين إنما يحرر العقل من أية قيود، الأمر الذي ينمي فيه روح البحث والتطلع والريادة”.
بقيَ أن نشير إلى أنه من الأخطاء التي أُخذت عليه في هذا الباب، اعتماده المبالغ فيه على العقل في تفسير القرآن وتقليله من شأن المأثورات، ما جعله يفسّر بعض آيات الغيبيات تفسيرات مخالفة لما اتفق عليه المفسرون.
إعلاؤه من شأن العقل على اعتباره أفضل قوة أتاها الله للإنسان
فبحسب قول الإمام محمد عبده: “العقل في الإسلام هو الميزان القسط الذي توزن به الخواطر والمدركات ويميز به بين أنواع التصورات والتصديقات، فمتى رجحت فيه كفة الحقائق طاشت كفة الأوهام وسهل التمييز بين الوسوسة والإلهام”.
والاهتمام بشأن العقل في تلك المرحلة الزمنية يعني عرض كل ما كان يتوارثه الناس على أنه مسلمات وحقائق ممّا لم يثبته وحي ولا علم، عُرض ذلك على العقل والانتقال إلى منطق الحجّة والبرهان الذي جاء به القرآن، بهذا العقل ينطلق الإنسان لفهم الوحي والحكم على التراث بالقبول والرد.
وحكم العقل يختلف عن الرأي والهوى، فحكم العقل هو حكم بالحجّة والبرهان وفق مناهج الاستدلال، ليس حكمًا بالرأي والمزاج، إلا أن أحد أخطر المحاذير في هذا الطرح هو الأخذ ببعض الأفكار والمبادئ التي نتجت عن المدنية الغربية واعتبارها مسلمات عقلية.
فليست المشكلة في أن يكون المجدد عقلانيًّا، بل المحذور هو مدى انضباطه بقواعد عمل العقل، وكيف لا يكون الداعية عقلانيًّا، وكثير من أدلة القرآن التي هدى من خلالها الناس للدخول في الدين هي أدلة عقلية.
حاول تقديم نظرات تجديدية إصلاحية في علم الحديث
من خلال نقد المتن، لكنه لم يكن ضليعًا في هذا العلم فأتى بآراء فيها مخالفات لأصول علوم الحديث.
فتح باب دراسات السياسة الشرعية
قدّم الإمام محمد عبده آراء فيها تجديد للفقه السياسي في الإسلام لم يفهمها فريق من الناس فاعتبروه علمانيًّا، حيث تحدث وشرح وفصّل حول طبيعة الحكم في الإسلام، وأصل السلطة، وأنه لا يوجد للحاكم سلطان ديني، وأن الخليفة حاكم مدني من جميع الوجوه، وهذا من أهم مبادئ الإصلاح السياسي، أن تكون علاقة الحاكم بالمحكوم علاقة تعاقدية، يسأل فيها الحاكم عن التزامه بمقتضيات العقد.
فيقول الإمام محمد عبده في “الأعمال الكاملة”: “ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها الله تعالى لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم”، وأيضًا: “لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا عند المسيحية”.
ولكن نفيه لوجود سلطة دينية في الإسلام ليس نفيًا للسياسة وأنظمة الحكم عن تعاليم الإسلام، بل هو نفي للحق الإلهي الذي يدّعيه بعض الحكّام، ونفي للعصمة عن المساءلة والمحاسبة، مع تأكيده على وجوب إقامة الشرع والعدل بالقوة والسلطة السياسية، ويؤكد على نصب الحاكم ومحاسبته وعزله، كل هذه الأمور المرجع فيها للبشر، فالخليفة نائب الأمة، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها.
وهذا ما يضع حدًّا للاستبداد السياسي الذي يعطّل ويدمّر طاقات ومقدرات الأمة، ويفتخر بسبقه إلى ذلك بقوله: “نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على 20 قرنًا”.
التقريب بين الأديان
وهذه الفكرة ممّا قد يفهم فهمًا خاطئًا إن لم يقرأ المرء كلامه بتفصيل، فلا يريد من التقريب بين الأديان ما قد يطرح من صياغة دين جديد من خلال دمج الأديان المختلفة، بل جعل التقريب بين الأديان وسيلة للدعوة إلى الإسلام، ووسيلة لتأسيس مجتمع المواطنة بحيث يكون الكتابي مواطنًا يتمتع بحقوق المواطنة في الدول المسلمة، وهو بذلك يريد قطع الطريق على الفتن الطائفية.
فنجده يؤكد على أن أصل الدين الذي هو العبودية لله تعالى والإيمان برسالة الإنسان في الدنيا والعمل الصالح والإيمان بالبعث والجزاء والثواب والعقاب، هذه العقائد واحدة بين جميع الأديان، ولكن قد لحقت بدع وخرافات ببعض الأديان، فإذا تمّت تنقيتها ممّا علق بها ممّا ليس منها، قلّت الخلافيات وصار إمكان التعايش أكبر، وصار إيمان أهل الكتاب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أقرب.
ويعلّق على الحكمة من الزواج بالكتابيات: “إن الكتابية ليس بينها وبين المؤمن كبير مباينة، فإنها تؤمن بالله وتعبده وتؤمن بالأنبياء والحياة الأخرى وما فيها من الجزاء، وتدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشر، والفرق الجوهري (العظيم) بينهما هو الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم”.
سبق الحديث عن إصلاح الفكر السياسي
أما عن الممارسة السياسية فكان يرى الإمام محمد عبده وجوب إصلاح الخلافة، وإن كان يرى وجوب تخفيف سلطتها ليكون لكل قطر من الأقطار حرية الحركة الإصلاحية لتطوير نفسه، وهذا موقف يحافظ على الخلافة مع إطلاق أيدي المصلحين والدعاة وتحميل أهل كل قطر مسؤولياتهم، وكان في الوقت ذاته واعيًا لما يكاد للخلافة وللعرب.
فعندما سُئل عن دعم البريطانيين لبعض العرب للاستقلال عن العثمانيين، أجاب: “فإذا شعروا (أي العثمانيين) بذلك أو رأوا بوادره قاتلوهم، حتى إذا وهنت قوة الفريقين وثبت دول أوروبا الواقفة لهما بالمرصاد فاستولوا على الفريقين أو على أضعفهما، وهذان الشعبان أقوى شعوب الإسلام، فتكون العاقبة إضعاف الإسلام وقطع الطريق على حياته”، ويقول: “إن المحافظة على الدولة العلية العثمانية ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله”.
وإن القارئ ليعجب من شمول نظراته الإصلاحية والتجديدية عندما ننتقل للقول إنه صاحب نظرات تجديدية في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية أيضًا، فعندما يتحدث عن النظام الاقتصادي في الإسلام، وقد كانت أحاديث الفقهاء قبل ذلك عن أحكام جزئية، يقول عن علة تحريم الربا: “يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس، وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال، فينمو المال ويربوا عندهم، ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء”.
ولما حدث إضراب عمّالي كبير في مطلع القرن العشرين، ظهرت أسئلة لم تكن قد طُرحت من قبل حول تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، ومناسبة النظام الرأسمالي، فكانت أول فتوى في بيان ذلك للشيخ محمد عبده الذي قال إن روح الحياة الرأسمالية المادية الفردية تخالف روح تعاليم الإسلام.
وفي الجانب الاجتماعي المرتبط بالجانب الاقتصادي يؤكد على دور المرأة وضرورة حصولها على التعليم، وأن إصلاح وضع المرأة إصلاح للأسرة التي هي أساس المجتمع، فالأمة تتألف من هذه البيوت التي يجب إصلاحها، وصلاح البيت يمتد أثره إلى صلاح المجتمع، فيقول: “حقوق القرابة وفوائدها لا تقف عند من تربطهم علاقة النسب والقرابة فقط، ومن ثم فهي ليست بالعصبية، وإنما هي نقطة تجمع وانطلاق نحو التآخي الوطني العام”، ولكنه في اندفاعه نحو التجديد والإصلاح في هذا الميدان، ولما سنبيّنه لاحقًا، قد وقع أيضًا في بعض الأخطاء كبعض آرائه في الطلاق والتعدد.
تلك أهم الميادين التي برزت فيها آراؤه التجديدية، تلك الآراء التي لم تكن كلامًا تسوّد به الصفحات كما يظن بعض الناس، بل ثمرة كفاح طويل في طلب العلم والتعليم واستقراء مشكلات المجتمع، والنظر في تاريخ العلوم، وإدامة التفكر في الخواطر الإصلاحية التي تؤرقه لا تتركه.
تلك أهم الميادين، ولكننا نجد بصمات أخرى له في الميدان التربوي، حيث كان من زعماء الإصلاحيين، فلا بدَّ أن تأخذ التربية حظًّا وافرًا من اهتمامه، ولعلّه غلا بعض الشيء في الاهتمام بالجانب التربوي الذي جعله طريق إصلاح كل المجالات الأخرى من سياسة ومقاومة للمستعمر، وكان صاحب سبق في الإصلاح اللغوي الأدبي حيث كانت طريقة الكتابة قبله طريقة شكلية كلها سجع متكلف ومحسنات بديعية، يستعرض فيها الكاتب قوته اللغوية وإن لم يستفد القارئ شيئًا.
لعلّ له عذرًا
سبق في مقدمة المقالة أن المدارس الإسلامية المختلفة قد تتباين في نظرتها إلى الشيخ محمد عبده، ولكن هذه المقالة تستعرض جانبًا مشرقًا من جهوده التي كان لها أثر كبير في الحياة الفكرية والسياسية المعاصرة، فقد قدّم نظرات تجديدية ودفعات إصلاحية، وأخطأ، وكل ابن آدم خطّاء، ولعلّه يعذر في ذلك إن أدرك القارئ عظم هذه المهمة في ذلك الوقت، المهمة التي تحتاج إلى جيوش من الدعاة والمصلحين، والتي حاول أن يضطلع بها.
أما عمّا وُجّه له من اتهامات في ولائه لوطنه كالذي طرحه محمد عطية خميس في كتابه “مؤامرات ضد الأسرة المسلمة”، فهذا ممّا لا دليل عليه، وأما اختياره للعمل الإصلاحي في وقت كانت فيه البلاد تحت الاحتلال فهذا ممّا قد يُتكلم فيه.
وأما أخطاؤه العلمية فهي ممّا قد تشفع له فيها عدة أمور، منها الصدمة الحضارية التي كانت تعيشها بلاد المسلمين، ومنها اتساع العلوم الشرعية وتشعُّبها، وكثرة الميادين التي كانت تحتاج إلى إصلاح، ومنها ما يقع فيه كثير من المصلحين في مراحل زمنية معينة، من ربط بعض مظاهر التخلف ببعض الأسباب التي يلاحظونها ربطًا خاطئًا، والتي تحتاج إلى بحث وتحقيق.
ومهما كانت نظرة القارئ وتقويمه لأخطاء الشيخ محمد عبده، تبقى هذه طبيعة الحياة وتطورها، والعلوم وتفاعلاتها، يبني اللاحق على السابق، ويستفيد من منجزاته كما يستفيد من أخطائه.