تدقُّ هذه الأيام طبول معركة على الحدود السورية التركية، إذ ترى أنقرة أن الوقت قد حان لاستئصال الوحدات الكردية التي تتواجد على حدودها الجنوبية وتهدد أمنها القومي، كما تسعى إلى توسيع الرقعة الجغرافية لإقامة المنطقة الآمنة التي تطالب بها وتسعى إليها منذ سنوات مضت، وذلك من أجل حلّ مشكلة اللاجئين السوريين المتواجدين على أراضيها، لكن الوحدات الكردية المتمثلة بقوات سوريا الديمقراطية، المعروفة اختصارًا بـ”قسد”، باتت رقمًا صعبًا بين الفاعلين في سوريا، وعلى الرغم من كل التهديدات التركية والعمليات العسكرية السابقة التي قام بها الجيش التركي، إلا أن هذا التنظيم ما زال متواجدًا وبقوة في شمال شرقي سوريا، ذلك أنه يتلقى دعمًا دوليًّا كبيرًا على اعتبار أنه يقاتل “داعش” ويحرس السجون التي تضمّ الآلاف من عوائل هذا التنظيم.
استطاعت التفاهمات الدولية أن تؤجّل العملية العسكرية التركية منذ شهور، بعد أن كانت أنقرة عازمة على الدخول بمعركة عسكرية من أجل حماية حدودها، فقد تصاعدت حدّة خطابها في مايو/ أيار الماضي، إلا أن العملية عُلّقت، ومنذ أسابيع عادت تتوعّد بإجراء عملية عسكرية برّية، عقب العملية الجوّية التي أجرتها القوات التركية ردًّا على تفجير شارع الاستقلال في منطقة تقسيم بإسطنبول، واتهمت بتنفيذه “الميليشيات الكردية” بعد الاعترافات التي أدلت بها منفّذة التفجير.
عودة النظام السوري إلى الحدود
تمارس بعض القوى الدولية ضغوطًا على تركيا لتوقف تفكيرها في اجتياح برّي لمناطق السيطرة الكردية في سوريا، وتقود هذه الضغوط أمريكا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى، وقد وضعت تركيا شروطًا حتى تفكّر بإيقاف تحركاتها، فقد قالت مصادر إن تركيا اشترطت انسحاب “قسد” من منبج وعين العرب وتل رفعت في ريف حلب شمالي سوريا، كما اشترطت أيضًا عودة مؤسسات النظام السوري بديلًا عن “قسد”، بما فيها القوات الأمنية وحرس الحدود.
الشرط التركي بعودة النظام السوري ومؤسساته إلى مناطق “قسد” ليس حديثًا، وإن كان هذه المرة يتزامن مع خطاب تركي رسمي في إطار خطوات تطبيعية مع نظام الأسد، فقد أعلنت تركيا وقف عملية نبع السلام في أواخر عام 2019 بعد عقد اتفاق سوتشي مع روسيا، الذي تعهّدت الأخيرة فيه بإبعاد مقاتلي الوحدات الكردية عن الحدود التركية حتى 30 كيلومترًا وإحلال قوات النظام السوري محلها، وهو ما لم يتحقّق على أرض الواقع.
قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في تصريح سابق له هذا العام، إن بلاده ستقدّم كل أنواع الدعم السياسي للنظام السوري لمواجهة “قسد” لإبعادها عن الحدود التركية، وأكّد أن بلاده “أجرت سابقًا محادثات مع إيران بخصوص إخراج الإرهابيين من المنطقة”، مضيفًا: “من الحق الطبيعي للنظام السوري أن يزيل التنظيم الإرهابي من أراضيه، لكن ليس من الصواب أن يرى المعارضة المعتدلة إرهابيين”.
حديث جاويش أوغلو أثار استغرابًا كبيرًا بين السوريين، الذين رأوا أن في هذا الحديث خطوة تطبيعية كبيرة مع النظام السوري، خاصة أن تركيا تعتمد في عملياتها العسكرية التي أجرتها وتجريها في سوريا على الكتلة البشرية العسكرية لدى تشكيلات المعارضة السورية المتمثلة بالجيش الوطني، ولكن في المفاوضات تبقى المعارضة جانبًا وتدخل قوات النظام كنوع من الضمانات التي تُقدَّم عادة من روسيا إلى تركيا.
محاولات روسية
الباحث في مركز الحوار السوري، محمد سالم، قال لـ”نون بوست”، إن الموافقة التركية على وجود النظام هذه المرة هو “بالتأكيد يأتي ضمن الانعطافة الكبيرة التي أخذتها أنقرة مؤخرًا، والتي يتم تنسيقها مع روسيا، وجزء منها جهود التطبيع مع النظام السوري”، ويرى سالم أن “أنقرة ترى في نظام الأسد فرصة لدعم مركزية دمشق ووحدة الأراضي السورية التي يتمسّك بها النظام أيضًا، وهي نقطة التلاقي الأساسية بين تركيا والروس ونظام الأسد مقابل “قسد” والمشروع الأمريكي الذي يلوح بالفدرالية، إضافة طبعًا إلى ملف اللاجئين السوريين”.
رغم الموافقة التركية على انتشار قوات النظام، إلا أن أنقرة “لا تريد انتشارًا شكليًّا لهذه القوات والمؤسسات”، خاصة أن التجارب السابقة أثبتت لأنقرة ذلك، إذ تتذرع “قسد” بوجود النظام من أجل الانتشار وتوسيع أماكنها بمساعدة روسية.
وممّا يثبت أن انتشار قوات النظام سيكون شكليًّا في حال حدوثه، هو الاستنجاد الذي أطلقته القوات الكردية لقوات النظام بحماية مناطق سيطرتها، إذ طلبت الميليشيات الكردية من الجانب الروسي “المساعدة في التوصل إلى اتفاق مع النظام السوري لحماية المناطق التي تسيطر عليها”.
في الوقت نفسه، تستمر موسكو بمحاولاتها للتقريب بين أنقرة ونظام الأسد، خاصة في التحركات التي تجريها لإيقاف العمليات التركية مقابل انتشار النظام السوري على الحدود، وقد أعلنت موسكو سابقًا أن “التنسيق بين أنقرة ودمشق يضمن أمن الحدود السورية التركية”، مضيفةً أنها “تبذل جهودًا لتشجيع الحوار بين ممثّلي الإدارة الذاتية وحكومة النظام السوري لإعادة منطقة الفرات إلى سيطرة النظام”، وأن “العقبة الرئيسية لا تزال تتمثل في الوجود العسكري الأميركي غير الشرعي”.
هل من فائدة لتركيا؟
ماذا ستستفيد تركيا من تواجد قوات النظام السوري على حدودها؟ يرى الكثير من السوريين أن هذه الاتفاقيات التي ربما تتيح في يوم من الأيام تواجد النظام السوري في المناطق التي تريدها تركيا، سيقوّض العمل التركي على إقامة المناطق الآمنة، لأن هذه المناطق في الأصل قائمة للسوريين الهاربين من بطش قوات النظام التي هجّرتهم في الأصل، وبالتالي إن المناطق التي تعتبرها أنقرة آمنة لم تعد كذلك.
بالإضافة إلى ما سبق، إن تواجد جيش النظام على الحدود التركية قد يخلق الحالة ذاتها التي حصلت على الحدود الأردنية السورية، حيث باتت الحدود من أكبر بؤر تهريب المخدرات والكبتاغون في المنطقة، وذلك بعد إعادة سيطرة النظام عليها، وكما ذكرت كبريات الصحف العالمية فإن النظام السوري يشرف مباشرة على تجارة المخدرات التي تدرُّ مليارات الدولارات عليه، وهذا الأمر ممكن أن يتكرر مع تركيا.
الباحث والكاتب التركي، عمر أوكزيجليك، يرى أن “الخطاب التركي تجاه دمشق محصور في الاعتبارات السياسية الداخلية، فيما يتعلق بالانتخابات في تركيا واسترضاء روسيا للحدّ من الرفض الروسي لعملية عسكرية جديدة من قبل القوات المسلحة التركية والجيش الوطني السوري؛ حتى الآن، هو مجرد كلام من أنقرة”.
ويشير أوكزيجليك خلال حديثه لـ”نون بوست” إلى أن “الموقف التركي يرفض انتشار قوات النظام في مناطق سيطرة الميليشيات الكردية من حيث المبدأ، وتفضّل تركيا توسيع منطقتها الآمنة في شمال سوريا جنبًا إلى جنب مع المعارضة السورية الشرعية”.
في الوقت ذاته يرى الباحث التركي أن انتشار قوات النظام “بعد عملية نبع السلام، تمَّ باتفاق تركي روسي على أساس انسحاب كامل لوحدات حماية الشعب الكردية من تل رفعت ومنبج ومنطقة 32 كيلومترًا شرق الفرات، لكن ذلك كان دون المستوى الأمثل بالنسبة إلى تركيا، وهو ما لن تكرره هذه المرة”.
ويرى أوكزيجليك أن “الضربات الجوية والقصف التركي يستهدفان وحدات حماية الشعب ومسلحي النظام على حد سواء، دون أي تفرقة”، ما يشير إلى أن تركيا غير مهتمة حاليًّا بالطروحات التي تظهر على الإعلام بقبولها وجود جيش النظام.
النظام خطر يواجه تركيا
الباحث السوري محمد سالم يقول إن “نظام الأسد سوف يكون خطيرًا على أمن تركيا، وأعتقد أن الأتراك يدركون ذلك، لكن يبدو أن هناك عدة توجهات داخل المؤسسات التركية”، مشيرًا إلى أن “التوجه الحالي الذي يندفع تحت ضغوط داخلية انتخابية ومتعلقة باللاجئين وخارجية روسية، يغلب نحو تفضيل سيطرة نظام الأسد باعتباره أقل سوءًا بالنسبة إلى أنقرة من “قسد”، ويمثل سيادة الدولة السورية على أراضيها وفق وجهة نظره، وهو الأمر الذي لا تشاركه فيه المعارضة السورية بالتأكيد”.
يكمل سالم حديثه عن انتشار وحدات تابعة لنظام الأسد، منوّهًا إلى أنها “ستكون بتنسيق بين الأتراك والروس، بمعنى أنها ستكون منتقاة وغالبًا بأعداد معيّنة ومن قطع عسكرية معيّنة، مثل الفيلق الخامس الذي تشرف عليه موسكو”. مضيفًا أن “الأمر الذي يبدو أنه يُقبَل من الأتراك على مضض مرحليًّا، كونه أقل سوءًا من “قسد”، ويعزز مركزية “الدولة السورية” على الأراضي التي تسيطر عليها “قسد”، وتنظر إليها أنقرة على أنها ذات مستقبل انفصالي، ولذلك تسعى لتغيير هذا المستقبل بأي طريقة كانت، ولو بإحلال قوات نظام الأسد باعتباره يمثل مركزية الدولة السورية”.
أما عن موقف المعارضة السورية، يقول سالم: “نلمح مواقف رافضة للموقف التركي من نخب المعارضة، وترى أن “قسد” هي الأقل سوءًا إذا ما قورنت بنظام الأسد بالنسبة إلى المعارضة، وذلك على العكس تمامًا من تفضيلات أنقرة، مع ذلك قد تجد أنقرة من يوافقها من بعض الفصائل المسلحة تحديدًا، كما لا تستعجل المعارضة عمومًا أي إظهار لتناقض المواقف مع أنقرة، مفضّلة الانتظار والترقب على اعتبار أن المستقبل ما زال غامضًا”.
يختم أوكزيجليك القول بأن “نظام الأسد موجود بالفعل في المناطق الحدودية مع تركيا منذ عام 2019، وهذا لم يحقق أي نوع من النتائج الإيجابية لتركيا”، مشيرًا إلى أن أنقرة “تعلم من تجربة الأردن ولبنان أن التقارب مع دمشق لن يأتي بأي نتيجة إيجابية لعودة اللاجئين إن كانت تأمل عودتهم”، مضيفًا: “واجه الأردن مشكلة جديدة في تهريب المخدرات، كما أنني لا أعتقد أن دمشق يمكن أن تكون شريكًا لتركيا في محاربة الإرهاب”.
ونوّه إلى أن “وحدات حماية الشعب من منطقة الحدود التركية لن تنسحب ولن تسلّم كل مؤسساتها لنظام الأسد. هذا لن يحدث. كما أن نظام الأسد لن يبدأ حربًا ضد وحدات حماية الشعب للسيطرة على هذه المناطق بالقوة، لذلك ليست هناك حاجة لمناقشة كيفية رد فعل تركيا إذا تولّى نظام الأسد السلطة في المنطقة”.