“لم أعد أحس بالأمان في اسطنبول على الرغم من أن حالتي القانونية نظامية 100%” هكذا قال محمد أبو الربيع ذو الـ 27 عامًا، الذي يعزو أسباب عدم إحساسه بالأمان إلى الخطاب العنصري المتعالي في تركيا بعد الحملة التحريضية التي قامت بها عدّة أحزاب وشخصيات تركية في إطار محاربتها لوجود اللاجئين والمهاجرين في بلادهم، يشير الشاب محمد الذي يعمل في مخبز في حي الفاتح ذو التواجد العربي الكبير: “بت أخاف أن أقول أنني سوري أمام أي شخص تركي لكي لا أسمع أية كلمة مؤذية”.
الطالب الجامعي عمار الراعي يقول إن كثيرًا من أصدقائه بالإضافة إليه عندما يتكلمون مع شخص تركي يقولون إنهم من فلسطين ولا يقولون إنهم سوريون، خاصة أن فلسطين لها مكانة في قلوب الأتراك، وبحسب الراعي فإنهم يقولون ذلك خوفًا من أن يسبب لهم تصريحهم بأنهم سوريون بالمشاكل، ويشير الراعي إلى مستويات عليا من العنصرية على السوريين وهي بين الكوادر الأكاديمية في الجامعات، حيث بات الأمر يدعو للخوف والحذر.
لم يعرف المهاجرون السوريون في تركيا عامًا أصعب من هذا العام، إذ أن باب العنصرية والكراهية انفتح على مصراعيه من بعض الجهات السياسية والإعلامية التي اتخذت من موضوع المهاجرين واللاجئين السوريين مادة دسمة للحديث بها مع اقتراب الانتخابات التي ستتم في حزيران\ يونيو 2023، وتضع هذه الجهات كافة الأحمال والأعباء والمشكلات على اللاجئين السوريين بشكل خاص، وقد تغير الخطاب الحكومي التركي أيضًا تجاه قضية المهاجرين واللاجئين في هذا البلد، حيث وضعت سياسة جديدة للحد من استقبال المهاجرين بعد أن فتحت أنقرة الأبواب على مصراعيها في السنوات الماضية تحت شعار “المهاجرين والأنصار”.
ويقدّر عدد السوريين في تركيا حتى نيسان\ أبريل من هذا العام 3 ملايين و 762 ألفًا، وتحاول الحكومة التركية إعداد خطط لإعادة مليون سوري منهم إلى مناطق سمتها بـ “المناطق الآمنة” وهو الأمر الذي يشكك به الكثير من السوريين خاصة أن الأمور في سوريا لا تسمح بعودة السوريين إلى بلادهم، وقد صدرت عدّة تقارير من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان حذرت فيها من إعادة السوريين لأن سوريا “ليست آمنة للعودة إليها”.
أساليب الحرب النفسية
بعد هذه الشهور العصيبة التي أصابت السوريين في تركيا في عام 2022، ساءت الحالة النفسية للسوريين الذين اختاروا تركيا مهجرًا لهم بعد ما قام نظام الأسد بتهجيرهم من مدنهم وقراهم ويصف الطالب الجامعي عمار الراعي خلال حديثه لـ “نون بوست” أن ما حصل يأتي في إطار “الحرب النفسية التي تشنها هيئات وأحزاب تركية وبذلك يؤثرون على اللاجئين ويخوفونهم ليتخلصوا منهم بعدما فشلوا من التخلص منهم بطرق قانونية”.
بداية لابد من تسليط الضوء على الحرب النفسية التي تقوم بها بعض الأشخاص والأحزاب التركية ضد السوريين وكل ذلك في إطار تأجيج الكراهية والتحريض على هؤلاء المهاجرين، وكنا في تقرير سابق على “نون بوست” فصلنا في أساليب هذه الحملة الممنهجة ولعلنا نختصرها هنا:
اللاجئ السوري حاضر في كل مكان، بمعنى أن أي مكان يحصل فيه مشكلة تقوم وسائل الإعلام والأحزاب بتحميل المشكلة للسوريين دون التأكد والتثبت.
التعميم: إذا قام أي سوري بافتعال مشكلة أو ذنب فإن الألسنة العنصرية تتطاول لتقول إن كل السوريين يفعلون هذا الأمر أو راضون عنه.
تضخيم الأخطاء: بات الشغل الشاغل للبعض تصيُّد الأخطاء التي يفعلها السوريون، وتضخيمها بحيث تصدَّر على أنها إخلال كبير بالمجتمع التركي.
الفوارق الحضارية: أتقنت بعض فئات المسؤولين من المعارضة التركية الحديث عن الفوارق الحضارية بين الشعبَين السوري والتركي، وكذا يتحدثون عن الفرق الزمني الذي يحتاجه السوري كي يصبح مثل التركي على سبيل الثقافة والحضارة، وأصبح هذا الحديث ينتشر كثيرًا على وسائل التواصل الاجتماعي بين فئات العنصريين.
الوضع الاقتصادي والمساعدات: تحيل الكثير من الشخصيات التركية الوضع الاقتصادي المتردّي والبطالة إلى اللاجئين، وقد ساعدت الحكومة بالترويج لهذا الخطاب، حيث يكرر المسؤولون، قولهم إنهم صرفوا أكثر من 40 مليار دولار أمريكي على اللاجئين السوريين في البلاد، وهو الأمر الذي يغضب الشعب خاصة في ظل أزمة اقتصادية تحيط بالبلاد مع انهيار العملة المحلية أمام الدولار.
تمييع العنف العنصري: حيث باتت بعض مشاهد الاعتداء على السوريين عادية كثيرًا ويحاول البعض تبريرها، كما حصل مع السيدة السورية المسنة التي ركلها شخص بقدمه على وجهها حيث اتهمها بالسرقة وتبين لاحقًا كذب قوله، وحاول البعض التضامن مع هذا المجرم بدعوى أن هذه المرأة سورية ومع هذا الشخص الحق بضربها!
“فوبيا السوري”
كل الأسباب السابقة جعلت من السوريين في تركيا تحت ضغط نفسي هائل، وخلال هذه السنة بالذات بات هؤلاء المهاجرون يتعاملون مع الأمر على أساس “الفوبيا من السوري” بحسب ما قاله لنا المهندس أكرم الحسامي ذو الـ 38 عامًا ويقطن في منطقة أسنيورت في اسطنبول، ويقول الحسامي إنه يعيش في تركيا منذ 7 سنوات بعد أن أتى مهاجرًا من سوريا بعد تدمير بيته وذهاب أرزاق عائلته.
يكمل الحسامي حديثه عن الضغط النفسي الذي يتعامل معه السوريون هذه الأيام في تركيا قائلًا: “بات الشخص منا يخاف أن يقول أنا سوري، يحاول الهروب من دوريات البوليس حتى ولو كانت أوراقه القانونية كاملة ولا تستدعي الخوف وذلك لأنه في حالات كثيرة تم ترحيل سوريين بشكل اعتباطي بدون وجه حق”، ويشير إلى الكثير من الشباب السوريين اليوم باتوا بدون عمل، وذلك بعد خوفهم من الخروج من منازلهم والقبض عليهم وترحيلهم، وهو ما دفع بعجلة الهجرة إلى أوروبا بالإسراع هذا العام بالتحديد.
بدورها تقول السيدة عائشة صدّيق ذات الـ 35 عامًا وتقيم في منطقة أسنلر في اسطنبول إنها تحس بضغط نفسي هائل بعد كل الحوادث العنصرية التي شاهدتها وتتابعها، وتقول السيدة صدّيق إنها باتت لا تسمح لأولادها بالخروج من البيت إلا إلى المدرسة خوفًا من التعرض لهم أو التنمر عليهم من قبل أقرانهم الأتراك، وتشير السيدة عائشة إن كل هذا الضغط الموجود يأتي على الرغم من أنها تمتلك وعائلتها الجنسية التركية لكن ذلك لا يفيد بأي حال.
تروي السيدة السورية المتخصصة في علم النفس إن حملات العنصرية المتواجدة في كل مكان حتى في المدارس أجبرتهم بزيادة مصاريفهم المالية، حيث احتاجت إلى نقل أبنائها الاثنين إلى مدارس خاصة بعد تعرضهم لمواقف عنصرية في مدرستهم وحاولت أن تشتكي لكن أحدا لم يسمع لها، وتقول إن أبنائها لا يمكن تمييزهم عن الأتراك من حيث المظهر واللغة، لكن ذلك لا يشفع لهم بأنهم سوريون!.
بالعودة إلى الشاب محمد أبو الربيع الذي قدّمنا لهذا التقرير بقصته، يقول إن الأحداث الأخيرة في تركيا “زادت الضغوطات النفسية على الشباب” مشيرًا إلى أنه هو وأصدقائه بات حديثهم وشغلهم الشاغل العنصرية في تركيا والهجرة إلى أوروبا، وبحسرة يقول: “وكأن همومنا لا تكفينا حتى تسلب منا هذه الحالة العنصرية التفكير بأهلنا وحياتنا الشخصية، لقد استهلك هذا الحديث جل تفكيرنا أنا وأصدقائي ولا يكاد مجلس بيننا يخلو من الخوض في تفاصيل الأمر، لا نريد إلا الاستقرار”، وفي ذات السياق قال أبو الربيع إنه لم يعد يستطع التأخر في الليل عن البيت وذلك مخافة أن يتعرض أحد له بسوء.
لكنه من ناحية أخرى يشير إلى أن “الأمور ليست سيئة بالدرجة التي يتكلم به الكثيريون، لكننا بالفعل بتنا نخاف بعد سنوات عديدة من الاستقرار النسبي الذي شهدناه في هذه البلاد التي أحببناها وعملنا فيها وأصبح لنا فيها أصحاب وأهل من السوريين والأتراك”.
خلق الضغط النفسي الكبير على السوريين في تركيا موجة من الهجرة خلال هذا العام، حيث وصفت منظمات ووسائل إعلام أوروبية أن الهجرة التي تشهدها الحدود التركية اليونانية هي الأكبر منذ عام 2015، وبهذا الإطار يقول الشاب حازم الحلاق ذو الـ 27 في حديثه لـ “نون بوست” إن سبب خروجه من تركيا إلى أوروبا بطرق الهجرة الصعبة هو الضغط الكبير المتشكل ضد السوريين في البلاد.
وأكد الحلاق أنه كان يحب المعيشة في اسطنبول وعاش بها سنوات جميلة لكن الوضع الجديد لم يعد يحتمله أي شاب ذو دخل محدود مشيرًا إلى أن “حالته النفسية باتت تسوء نتيجة للأخبار السلبية التي تنتشر دائمًا عن حالة العنصرية بين السوريين ويتم تضخميها عبر وسائل الإعلام”، وأضاف: “في أشهر الصيف التي مرت بتنا أنا وأصدقائي لا نستطيع الخروج متأخرًا من المنزل أو الذهاب إلى المنتزهات ظنًا منا أننا سنتعرض لمواقف عنصرية وأنا لم أعد أحتمل هذا الوضع، لا أريد العيش بدون الحرية التي هجّرت من أجلها”.
هل الوضع بهذا القدر من السوء!
مع كل هذه المداخلات والكلام عن الضغط النفسي السيئ للاجئين السوريين في تركيا والذي خلفته الحملة العنصرية من قبل الأحزاب والتيارات المعارضة ووسائل الإعلام والضغط الحكومي، إلا أن الأمر ليس كله كذلك، حيث يشير السيد أبو أحمد الشيخ وهو تاجر سوري في مجال الحبوب ويعمل في منطقة قريبة من اسطنبول إلى أن هذا “الضغط النفسي تشكله وسائل الإعلام فقط وهو ليس موجودًا إلى ذلك الحد الذي يتكلم به الناس”.
ويشير الشيخ إلى أنه يعيش في تركيا من 7 سنوات لم يتعرض لأي موقف عنصري خاصة أن جيرانه من الأتراك يعاملونه بشكل جيد، لكنه يسمع بقصص السوريين الأخرين ومن الأكيد يجب التعاطف معهم، لكن الشيخ يحيل الأمر إلى ضغط نفسي متولد عن ضغط انتخابي قادم وأنه سيزول وعلى السوريين الصبر حتى ذلك الحين!”.
في المحصلة: تعمل وسائل الإعلام وبعض التيارات السياسية التركية على تشكيل هالة من الضغط النفسي والإعلامي على المهاجرين في تركيا بالعموم والسوريين بالخصوص، وبالتوازي مع ذلك يوجد جهات ما زالت تعمل في صالح السوريين وتواجدهم في تركيا وتحصيل حقوقهم، إلى ذلك يبدو أن الضغط النفسي بالنسبة للسوريين في هذا العام سيكون أكبر من سابقاته ولاحقاته بسبب أن الانتخابات باتت على الأبواب في تركيا وعلى كل طرف أن يستخدم أوراقه!