تنظيم مسلح جديد.. ما هي مآلات عسكرة الحياة العامة في السودان؟

هيييي

بعد يوم واحد من إجراء تنظيم قوات درع السودان عرض عسكري كبير في جبال الغر بمنطقة البطانة، أعلنت مجموعة من مجلس البجا عن جماعة مسلحة أخرى في الشرق، لتمتلك بذلك معظم مناطق البلاد تنظيمات تحمل السلاح.

لم تمنع السلطات العرض العسكري لقوات درع السودان، الذي شارك فيه مئات الأشخاص بعضهم يرتدي أزياء شبيهة بزيّ الجيش وآخرون باللباس الشعبي، معظمهم مسلحون بأسلحة خفيفة ومن خلفهم سيارات دفع رباعي خفيفة الحركة، ما يشير إلى ترتيبات بينهما أو على الأقل رضا أحد أطراف السلطة، خاصة أنها المرة الأولى التي ينطلق فيها عمل مسلح من وسط البلاد القريب جدًّا من مركز السلطة في العاصمة الخرطوم.

إنصاف لمناطق الوسط أم استعراض للقوة ضد الحركات؟

يقول التنظيم المسلح إنه حركة تطالب بحقوق مناطق تعاني من ضعف البنية التحتية وتفشي الأمراض والأوبئة، وهي وسط وشرق وشمال السودان وكردفان، التي أشار إلى أنها ظُلمت من اتفاق السلام الموقّع بين الدولة وائتلاف يضمّ حركات مسلحة تمرّدت على الدولة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، معلنة رفضها لهذا الاتفاق وعمليات التجنيد العشوائي التي تجريها الحركات لأبناء وسط البلاد.

دفعت محاولات الحركات للاستئثار بالسلطة عبر قوة السلاح ودعم الحكم العسكري، الحركةَ الاحتجاجية إلى المطالبة بإلغاء اتفاق السلام بعد أن سبقهم في ذلك الحزب الشيوعي، لكن هذه المرة الأولى التي تأتي فيها مطالبة إلغائه من تنظيم مسلح.

منذ أن شرع النظام السابق (1989-2019) في التفاوض مع التنظيمات المسلحة في دارفور وتوقيع اتفاقيات سلام معها، بات حمل السلاح أقرب الطرق للوصول إلى المال والسلطة في البلاد، ربما لهذا شرع البعض في تأسيس تنظيمات عسكرية مثل قوات درع الشمال وقوات كيان الوطن، ويحسَب الاثنان على شمال السودان، وذلك رغم الفشل التاريخي في إسقاط نظام حكم في البلاد عبر الجماعات المسلحة، وهو فشل يقابله نجاح 3 ثورات سلمية في الإطاحة بأنظمة استبدادية.

لم تدعم الجماعات المسلحة الديمقراطية في السودان، ولم تحقق مطالب الحرية وتقاسم الثروة بعدالة وتحقيق التنمية المتوازنة رغم مشاركتها في السلطة بعد توقيع اتفاقيات السلام.

والملاحَظ في التنظيمات المسلحة الحديثة عدم إعلانها التمرد ضد الدولة، وهذا يعود بشكل كبير إلى الحراك السلمي المستمر منذ ديسمبر/ كانون الأول 2018 إلى الآن، ولم تشذَّ قوات درع السودان عن ذلك، فقالت إنها تدعم الجيش والمؤسسات العامة وتطمح إلى تحقيق التوزيع العادل للثروات والابتعاد عن العنصرية ووحدة البلاد.

هذا بالإضافة إلى وقف زحف الحركات المسلحة في وسط السودان، وتوسعهم في شراء المشاريع الزراعية وأراضي الرعي والاستثمار في الثروات المعدنية، وذلك بعد أن اعتبرت وجودهم غير قانوني حيث “لم يتم دمجهم داخل القوات النظامية، وهذا يسبّب تهديدًا للأمن القومي والسلم المجتمعي والاقتصاد القومي”.

ماذا عن الشرق؟

وإذا كانت قوات درع السودان تتحدث عن مخاوف من تأثير اتفاق السلام على مناطق الوسط، إلا أن الاتفاق ومنذ توقيعه أثّر على شرق البلاد بصورة كبيرة.

في المفاوضات التي قادت إلى توقيعه، جرى اتّباع ما عُرف بالمسارات: مسار شمال وشرق ووسط السودان، ومسار دارفور، ومسار المنطقتَين (جنوب كردفان والنيل الأزرق). في البداية رفض زعيم قبيلة الهدندوة، محمد الأمين ترك، مسار الشرق وأسّس تنظيم المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، الذي أقام مؤتمرًا في منطقة سنكات انتهى إلى المطالبة بحق تقرير المصير.

نشط المجلس في مقاومة مسار الشرق على أسُس عرقية، تخلّلتها أعمال عنف واستقطاب قَبَلي حاد في شرق السودان، قبل أن تحدث خلافات داخله أجبرت ترك على عقد مؤتمر ثانٍ في ذات المنطقة أوصى بحلّ المجلس.

لم ترضَ مجموعة أخرى داخل المجلس على هذه التوصية، فقادت لتعلن تفعيل حق تقرير المصير وتصنّف نفسها حكومة مؤقتة لإقليم شرق السودان، دون أن تنفّذ إعلانها على أرض الواقع، وبعد أكثر من شهرَين قالت إنها شرعت في تأسيس تنظيم مسلح لحماية حقوق وموارد الشرق.

تضاؤل المجتمع المدني

بدأ التمرد ضد الدولة في توريت بجنوب السودان قبل استقلال البلاد من الاستعمار البريطاني بأشهر، أي عام 1955، وكان ذلك نواة لحركة الأنيانيا التي وقّعت اتفاق سلام عام 1972 دون أن تدمج مقاتليها في الجيش.

عاش السودان في تلك الحقبة استقرارًا نسبيًّا حتى أعلن الرئيس جعفر نميري عام 1983 تقسيم إقليم جنوب السودان إلى 3 ولايات، ليعتبَر قراره إلغاء لاتفاق السلام، ما قاد إلى إشعال تمرد جديد بقيادة العقيد في الجيش جون قرنق الذي أسّس الحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي بدورها وقّعت اتفاق سلام عام 2005 تحدّث عن احتفاظ الحركة بقواتها، وبعد سنوات من تقاسُم الحكم انفصل جنوب السودان عن الدولة الأمّ عام 2011.

عسكرة المجتمع تعبّر عن أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، وتهدد النسيج الاجتماعي وربما تكون عنوانًا لضعف الدولة وإحساس المجتمع بالخطر تجاه أمر ما، ما قد يؤدي في النهاية إلى حرب أهلية وحدوث انقسامات داخل المجتمع.

واندلع النزاع في دارفور بواسطة حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة عام 2002 بدواع التهميش، ولاحقًا تأسّست عشرات التنظيمات المسلحة بعضها وقّع اتفاق سلام مع النظام السابق والآخر مع حكومة الانتقال، وكل الاتفاقيات تتحدث عن دمج مقاتلي الفصائل في الجيش، لكن في الواقع لم يحدث ذلك لرفض الأخير تغيير تركيبته من جهة، ومن جهة أخرى لا تتشجّع الحركات في الانخراط داخل المجتمع المدني السلمي، لمعرفتها أن ما تحظى به من امتيازات يعود إلى السلاح، وربما لهذا تفضِّل الاحتفاظ به.

أيضًا، لم تدعم الجماعات المسلحة الديمقراطية في السودان، ولم تحقق مطالب الحرية وتقاسم الثروة بعدالة وتحقيق التنمية المتوازنة، رغم مشاركتها في السلطة بعد توقيع اتفاقيات السلام، ويظهر ذلك في اتفاق السلام الأخير، حيث إنه وبعد مرور أكثر من عامَين على توقيعه، لم تسعَ الحركات بصورة جادّة لتنفيذ بنوده غير تقاسم السلطة، ولم تدمج مقاتليها في الجيش.

وبدلًا من تبنّي خطّ سياسي سلمي، نجدها دعمت الانقلاب العسكري الذي نفّذه الجنرال عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وتهدد بالعودة للحرب، ما جعل الأصوات ترتفع منادية بإلغاء الاتفاق أو تعديله

في الواقع، لم يحقّق حمل السلاح مكاسب إلا لقادة التنظيمات وحلفائهم، فيما تضررت المناطق التي فيها رفع السلاح وهي لا تزال تعاني من النزوح الداخلي المطوّل وضعف البنية التحتية وعدم الاستقرار الأمني، والأخطر أن السلاح عادة لا ينحصر في يد التنظيمات وإنما يتسرّب إلى أيدي القبائل والأفراد حتى إن لم ينخرطوا بفعالية في الصراع.

ولعلّ النموذج الأبرز في ذلك دارفور التي تشهد تجارة الأسلحة النارية الآلية، والقنابل الصاروخية، والمسدسات والبنادق بعيدة المدى عالية الدقة، وصواريخ أرض – جوّ التي جعلت النزاعات الأهلية أكثر دموية.

آثار التسلُّح

علاوة على تضاؤل أدوار المجتمع المدني الذي يتبنّى التغيير الداعم ذا النَّفَس الطويل لتحقيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، ونبذ العنف وغيرها من الحقوق الكونية، فإن حمل السلاح يقود إلى عسكرة المجتمع، وعن هذا يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين لـ”نون بوست”: “عسكرة المجتمع تمثل خطرًا كبيرًا على السودان باعتبار أن نشوء كيانات مسلحة من الحين إلى الآخر قد يعمّق الصراع مستقبلًا، ويكون له التأثير على أي نظام سياسي يأتي للحكم”، ويعرّف عسكرة المجتمع على أنها تحوُّل فئات المجتمع إلى وحدات عسكرية أو ميليشيات يطغى عليها طابع الصراع.

ويضيف: “عسكرة المجتمع تعبّر عن أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، وتهدد النسيج الاجتماعي وربما تكون عنوانًا لضعف الدولة وإحساس المجتمع بالخطر تجاه أمر ما، ما قد يؤدي في النهاية إلى حرب أهلية وحدوث انقسامات داخل المجتمع”.

ويشدد على أن الدولة يجب أن تحتكر السلاح دون السماح لغيرها بحمله، وينبغي عليها أن تمتلك الحق الشرعي لأدوات العنف في المجتمع، ودون ذلك سنشهد عسكرة للمجتمع.

يذهب المختص في شؤون الجماعات المسلحة، منتصر إبراهيم، إلى أن عسكرة الحياة العامة حدثت من قبل، وما يحدث الآن هو “الفوضى والانحلال والتفكُّك من مخارج الجهوية والتعصُّب للقوميات، هو اتجاه ونزوع من عساكر التمرد على التقاليد التي نشأوا عليها، رغبةً في تقليد أحوال المتمردين كأصحاب امتيازات سلطوية حقّقوها بالتمرد”.

ويشير إبراهيم، خلال حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن قائد قوات درع السودان كان ضابطًا سابقًا في الجيش، إضافة إلى أن قادة حركة كيان الوطن كانوا ضباطًا رفيعين في الجيش.

ثمة مثل يقول: “بلد دخل فيها البوت، سوق عيالك وفوت”، وهو يعني أن كل منطقة خطت فيها أحذية الجنود عليك الرحيل منها بأسرتك لأنك لم تعد آمنًا، لكن الآن وبعد أن بات “البوت” عنوانًا رئيسيًّا في كل السودان، هل يهجر السودانيون بلادهم بحثًا عن ملاذ آمن؟