لا تزال أصداء الهجوم الذي استهدف المركز الثقافي الكردي وسط باريس، الجمعة 23 من الشهر الجاري، وأسفر عن مقتل 3 أكراد وإصابة آخرين، تخيّم على الأجواء رغم الهدوء النسبي الذي فرض نفسه خلال الساعات الماضية، بعد يوم من المواجهات الدامية بين قوات الأمن الفرنسية ومئات المتظاهرين الغاضبين من الأكراد والمتضامنين معهم من التيار اليساري.
وفي الوقت الذي لم تنتهِ فيه التحقيقات بعد، فيما أعادت الشرطة احتجازها لمنفّذ الهجوم بعد يوم واحد فقط من نقله إلى مصحّة نفسية، وما تزامن مع هذا من تعزية رسمية من الرئيس الفرنسي ووزير داخليته ووصفهما للواقعة بـ”المشينة”؛ شهد الشارع الفرنسي غضبًا عارمًا من الأكراد، تظاهرات تحوّلت بعد ساعات قليلة إلى فوضى أسفرت عن إصابة 40 من أفراد الشرطة، وتحطيم واجهات المحال وعدد من السيارات وحرق الإطارات في الطرق والشوارع، رغم تعهُّد منظمي الاحتجاجات بأن تكون سلمية وأنها فقط للتعبير عن مشاعر الحزن المسيطرة عليهم جرّاء مقتل 3 من أبناء طائفتهم.
الجموع الغفيرة التي شاركت في التظاهرات (بعض الأوساط الرسمية الفرنسية تتحدث عن قدوم آلاف من أبناء الجالية الكردية من ألمانيا وبلجيكا ومدن فرنسية بعيدة عن العاصمة)، والهويات المتعددة التي عكستها الأعلام المرفوعة وما لها من رمزية مهمة (PKK وحزب العمّال الفرنسي)، والحشد الشرطي الكبير والانتشار المكثّف والمواجهات الدامية التي نشبت مع الغاضبين، كلها مؤشرات تعكس حالة الصدمة التي انتابت الطرفَين، الأكراد والحكومة الفرنسية معًا.
يشعر الأكراد بـ”خذلان متعمَّد” من باريس إزاء استهدافهم الذي وصفوه بـ”المسيّس”، فيما استبقوا الأحداث باتهام أنقرة كالعادة (حتى يثبت العكس) رغم اعتراف منفّذ الهجوم الفرنسي بنواياه العنصرية ضد المهاجرين بصفة عامة، وأنهم باتوا في مهبّ الريح في ظل مخاوف أن تكون لدى فرنسا نيّة للتخلي عنهم في إطار مواءمات سياسية مع بعض القوى الإقليمية، وفي المقابل انتاب الفرنسيين مشاعر “نكران الجميل” إزاء نظرتهم إلى الأكراد الذين احتضنتهم فرنسا في الوقت الذي لفظتهم بقية الدول الأوروبية.
وتعدّ تلك الاحتجاجات هي الأولى من نوعها بصفتها الدموية الحالية منذ تنصيب فرنسا كحليف استراتيجي لتنظيم PKK، بعد تخلّي أمريكا عنه إثر تفاهمات مع تركيا عام 2018، لتتذوق الدولة الأوروبية مرارة تطرف حزب العمال الكردستاني الذي كانت داعمه الأكبر خلال السنوات الأربع الماضية.. فهل ينقلب السحر على الساحر؟
Zur Einordnung:
Bei den kriegsähnlichen Zuständen in #Paris sind übrigens auch die türkisch-nationalistischen Grauen Wölfe beteiligt.
Eine Vereinigung, die in Westeuropa ihr Unwesen treibt und in Deutschland die mit Abstand größte rechtsextremistische Vereinigung darstellt. pic.twitter.com/MNFmOLCcYA
— ????? ???????? (@foersterjoerg) December 25, 2022
الاحتواء الفرنسي للأكراد
في 20 من الشهر الجاري، أي قبل 3 أيام فقط من الواقعة والتظاهرات التخريبية الناجمة عنها، جددت تركيا على لسان رئيس دائرة الاتصالات بالرئاسة، فخر الدين ألطون، دعوتها لفرنسا لإنهاء دعمها المستمر لأنشطة حزب العمال الكردستاني فيها، وأن تحذو في ذلك حذو دول حلف “الناتو”، قائلًا: “إن الاتحاد الأوروبي يصنّف PKK تنظيمًا إرهابيًّا، إلا أن أعضاءه ينشطون ويتحرّكون بحرّية في فرنسا”، مطالبًا بوضع حدّ لأنشطة التنظيم، ودعم جهود أنقرة في حربها ضده في سوريا.
وبرزت فرنسا كحليف استراتيجي للأكراد بدايات عام 2018، كورقة سياسية في مواجهة أنقرة التي تشهد علاقتها مع باريس توترًا بين الحين والآخر، في ظل تباين وجهات النظر إزاء عدد من الملفات، وبدأت على الفور في دعم التنظيم -المصنَّف إرهابيًّا من قبل الدول التركية وبعض الدول الأوروبية- عسكريًّا وسياسيًّا، فيما فتحت أراضيها وحدودها لقادته وأنصاره ودفعتهم دفعًا نحو الانصهار في المجتمع الفرنسي نكاية بتركيا في المقام الأول، حتى أصبحت الجالية الكردية في فرنسا هي ثاني أكبر جالية كردية في العالم بعد الجالية الكردية في ألمانيا.
وقوبل الموقف الفرنسي -الشاذ أوروبيًّا- بحفاوة بالغة من قيادات الأكراد، الذين ظنوا أنهم وجدوا في هذا الدعم حاضنتهم السياسية واللوجستية التي تعبّد الطريق نحو تحقيق حلمهم في بناء دولتهم المستقلة.
وقد عبّر رئيس منظمة “كُرد بلا حدود” في باريس، كادار بيري، عن ذلك بشكل مباشر، حين قال في مداخلة تلفزيونية له إن “فرنسا تعدّ أفضل المواقف أوروبيًّا وعالميًّا في تبنّي قضية الأكراد، فهي السبّاقة في دعم قوات الحماية الشعبية في كوباني، في إدانة الاحتلال التركي في عفرين، وهي تسعى لأن يكون هناك حلف للوقوف في وجه التهديدات التركية، الفرنسيون يدعمون الشعب الكردي للحصول على حقوقه، الفرنسيون كان لهم أكثر من جولة في توحيد الصف التركي، وأنا كنت أحد المشاركين في تلك الجلسات، كان يسعون لأن يكون هناك وفاق كردي من أجل تحقيق حلم الاستقلال”.
وأثار هذا الدعم حفيظة الدولة التركية التي هددت في 31 مارس/ آذار 2018 باستهداف الوجود العسكري الفرنسي في شمال سوريا، إذا ما أصرّت باريس على دعمها لوحدات حماية الشعب الكردية، كما جاء على لسان نائب رئيس الوزراء التركي آنذاك، بكر بوزداغ (وزير العدل الحالي)، الذي قال: “إن تعهُّد باريس بالمساعدة على تحقيق الاستقرار بمنطقة يهيمن عليها الأكراد يعادل دعم الإرهاب”، محذّرًا من أن ذلك قد يجعل من فرنسا “هدفًا لتركيا”.
من يزرع الريح يحصد العاصفة
منذ منتصف ستينيات القرن الماضي فتحت فرنسا أبوابها أمام المهاجرين الأكراد القادمين من تركيا والعراق وإيران، كانت الأعداد حينها أقل بكثير ممّا هي عليه الآن، لكن منذ عام 2011 بدأت تشهد تزايدًا كبيرًا، خاصة بعد فرار الكثير منهم من الصراع الدامي في سوريا.
تعاملت باريس مع الأكراد بداية الأمر شأنهم شأن بقية المهاجرين الآخرين من العرقيات والجنسيات الأخرى، لكن منذ عام 2014 بدأت البوصلة تتغيّر نسبيًّا، بعدما باتت الجالية الكردية أحد الأرقام الصعبة في خارطة المهاجرين داخل الأراضي الفرنسية، وبعد انخراط باريس في عدد من ملفات الشرق الأوسط وعلى رأسها الملف السوري، وزيادة توتر العلاقات مع أنقرة.
ومنذ ذلك العام بدأ الأكراد في ممارسة نشاطهم السياسي فوق الأراضي الفرنسية بدعم وموافقة من الحكومة الفرنسية، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2014 نظّمت الجالية الكردية في فرنسا، بمشاركة الجاليات الكردية في بعض البلدان الأوروبية الأخرى، تظاهرة احتجاجًا على هجوم تنظيم “داعش” على مدينة كوباني في سوريا.
المسار تصاعد أكثر من إدانة تنظيم الدولة إلى إدانة أنقرة ذاتها، وذلك تحت رعاية الدولة الفرنسية، حيث نظّم أنصار حزب العمال الكردستاني في فرنسا مسيرة للاحتجاج على استهداف معاقل حزبهم من قبل القوات التركية، التي اتّهمتهم بشنّ عمليات إرهابية ضد قواتها وضد أبناء الشعب التركي في الداخل والخارج، وكان ذلك في 25 يوليو/ تموز 2015.
فرنسا التي دعمت ميليشيا بي كا كا الإرهابية في العراق وسوريا تنكوي اليوم بنار أنصارها في شوارع باريس.#ماكرون #Paris pic.twitter.com/tL3q46beAr
— Yaser Abdelaziz (@yasserlawyer) December 24, 2022
تتعامل باريس مع الأكراد كورقة سياسية تستهدف بها التنغيص على أنقرة بين الحين والآخر، ترفع من درجة حرارتها مع تصاعُد التوتر بين البلدَين وتخفضها أوقات التهدئة الدبلوماسية، كإحدى أدوات الضغط الذي تمارسه فرنسا في ضوء صراع النفوذ الإقليمي بين البلدَين، حتى تحوّل أنصار PKK إلى ألعوبة في أيدي الفرنسيين يستخدمونها وقتما تستدعي مصالحهم الخارجية.
وبعد أن دخلت العلاقات التركية الفرنسية نفقًا مظلمًا قبل عامَين بسبب تبايُن وجهات النظر إزاء بعض الملفات، وعلى رأسها الملف السوري والليبي وملف غاز المتوسط، لجأت باريس إلى أسلوب المكايدة مجددًا، لتعيد استخدام ورقة الأكراد مرة أخرى، وذلك حين خصصت الحكومة الفرنسية عام 2020 درسًا في المناهج الفرنسية التي تدرَّس لطلاب الصف الحادي عشر في المرحلة الثانوية للحديث عن الأكراد، ويأتي هذا الدرس تحت عنوان “الكُرد شعب بلا دولة”، في واقعة هي الأولى في التاريخ.
عزف الدرس على الوتر الحقوقي في مضمونه، متطرّقًا إلى أن الأكراد شعب بلا دولة وأنهم يناضلون منذ قرون من أجل كردستان مستقلة، متسائلًا: “هل يمكن للصراعات في الشرق الأوسط أن تؤدّي إلى قيام دولة كردية؟”.
ويذهب الباحثون إلى أن تعاطي فرنسا مع الأكراد كقضية حقوقية يعكس نيتها الواضحة في تبنّيها من قبل الأجيال الفرنسية الصاعدة، بما يؤكد أنها ورقة دائمة وليست مؤقتة، وهو ما أثار حفيظة أنقرة بشكل كبير، والتي حذّرت باريس من هذا الاحتواء المبالَغ فيه لهذا التنظيم الإرهابي الذي لا يؤمن غدره.
وبعد سنوات من الاحتواء والدعم المتواصل، ها هو التنظيم الكردي ينقلب حتى على حاضنته السياسية، متخذًا من العنف والفوضى وسيلته المشروعة للدفاع عن رأيه، والمطالبة بما يراه حقّه، لتحصد الدولة الفرنسية تلك العاصفة الترابية كنتيجة منطقية لزراعة الريح على مدار عدة أعوام.
وكما قال وزير الدفاع التركي، خلوصي أقار، ضمن كلمة خلال تفقده الوحدات العسكرية التركية المتمركزة قرب الحدود السورية، الأحد 25 ديسمبر/ كانون الثاني 2022، إن “الأفاعي التي رعتها واعتنت بها فرنسا بدأت تلدغها”، وأن على الجميع إدراك الوجه الحقيقي لتنظيم PKK الإرهابي.
French capital #Paris in ruins.
French taxpayer money is wasted.
All the damage is done by #PKK supporters.
The snake that #France has been feeding for decades. pic.twitter.com/XKZDwET9gc
— Clash Report (@clashreport) December 25, 2022
العمّال الفرنسي والـ PKK.. براغماتية لا تحالُف
الأعداد المحتشدة المشاركة في التظاهرات الاحتجاجية على مقتل الأكراد الثلاثة أثارت الكثير من التساؤلات، فهذا الحضور الكبير والذي تجاوز عدة آلاف بحسب وسائل إعلام ومقاطع الفيديو المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، لا يمكنه أن يكون حصريًّا على أعضاء وأنصار حزب العمال الكردستاني، والذي ارتفعت أعلامه بشكل غير مسبوق.
ذهبت عدة مصادر إعلامية إلى انضمام العديد من أبناء الجالية الكردية في بعض الدول الأوروبية المجاورة للتظاهرات، وعلى رأسها الجالية الألمانية التي تشكّل الحضور الأكبر في خارطة الشتات الكردي، هذا بجانب حزب العمال الفرنسي الذي كانت أعلامه حاضرة وبقوة في مشهد قد يفسَّر على أنه الراعي الأكبر لتلك الاحتجاجات.
رفع المتظاهرون عددًا من الشعارات البعيدة تمامًا عن سياق الحدث، على شاكلة “عاش الـ PKK”، بجانب شعارات مناهضة لأنقرة والرئيس رجب طيب أردوغان، ما يعني حجم التنسيق المسبَق للتظاهرة وتحديد أهدافها بدقّة، واستغلالها لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية لـ PKK خلال حالة الفوضى تلك.
هناك أصوات تقرأ التلاحم الواضح في التظاهرات بين الأكراد الحاملين لأعلام التنظيم الإرهابي وأنصار حزب العمال الفرنسي، في سياق تحالف سياسي بين الطرفَين، وهي القراءة التي ربما تصطدم بالعديد من العقبات، فرغم الخلفية الأيديولوجية المشترَكة، فكلاهما خارج من عباءة اليسار ويعتنق الاشتراكية مذهبًا سياسيًّا، إلا أن الأهداف هنا تتعارض شكلًا ومضمونًا مع الأهداف هناك.
وعليه، فإن ما حدث لا يخرج عن دائرة “البراغماتية المشتركة”، حيث تلاقت مصالح الأكراد مع مصالح العمّاليين في توظيف المشهد لحسابات سياسية خاصة، فالأول يريد الضغط على باريس للتخفيف من التهديد التركي وتعزيز مكانة الجالية الكردية والسير خطوات إضافية باتجاه حلم الاستقلال، أما الثاني فلديه أجندة سياسية مناهضة بالطبع للحكومة والحزب الحاكم بوصفه زعيم المعارضة الحالية، وعليه يحاول كسب نقاط على حسابها عبر تشديد الضغوط الممارسة على الحزب والحكومة معًا.
الحقيقة أن هذا الفيديو عجيب ومحير جداً .. أين أخوتنا الأكراد الذين لايناصرون الـ pkk في مظاهرات فرنسا ؟ pic.twitter.com/5gB1Vp7SoF
— عمار آغا القلعة (@Ammaraghaalkala) December 25, 2022
هل تتعلم فرنسا الدرس؟
القلق من تفاقم الوضع لم ينحصر في الحكومة فقط، حيث خرج اليمين المتطرف هو الآخر محاولًا تبرئة ساحته من الجريمة، نافيًا كل ما يتردد بشأن مسؤوليته عن الواقعة، وسخّر لأجل ذلك عددًا من وسائل الإعلام، منها قناة “سي نيوز” الإخبارية التي كانت المنبر الأكثر حضورًا للترويج للخطاب العنصري للمرشّح الرئاسي إريك زمور، فيما دخل قادة الشعبوية على خط الأزمة هربًا من المسؤولية كذلك ومنهم مارين لوبان.
كانت السردية الأكثر انتشارًا والأقرب للمزاج الداخلي الفرنسي، الكردي والشعبوي، هو تحميل أنقرة مسؤولية ما حدث، وهو الوتر الذي عُزف عليه بداية الأمر، غير أن تصريحات منفّذ العملية وخلفيته الإجرامية وسجلّه العنصري المعروف للجميع، فنّد تلك السردية وأجهضها من مضمونها، لتجد الحكومة الفرنسية نفسها في مأزق كبير.
En son ypg için “Suriye’de barışı tesis ediyorlar” diyorlardı meclislerinde. Gördün ananın barışını ? #Paris pic.twitter.com/gh0FaiS3sA
— Bahadır Telci (@purplebixi) December 24, 2022
وأمام هذا السيل الجارف من الاحتجاجات التي نجح اليسار الفرنسي وأنصار العمال الكردستاني في تأجيجها، لم تجد الحكومة الفرنسية بدًّا سوى التمايل نسبيًّا لعبور الموجة بأقل الخسائر، وعليه اضطرت الشرطة التراجع عن قرار إيداع منفّذ الجريمة في مصحة نفسية، وإعادته مرة أخرى للحجز الشرطي تمهيدًا لعرضه على قاضي الاستجواب اليوم، فيما تعهّد وزير الداخلية ببذل المزيد من الإجراءات لحماية الجالية الكردية.
المشهد بتفاصيله تلك ربما يكون صادمًا للحكومة الفرنسية والشارع معًا، إذ لم يتوقع أحد أن يضع الأكراد -الذي فتحت فرنسا أبوابها لهم ودعمت قضيتهم- الدولة في هذا المأزق الحرج، وأن يعرّضوا أمنها واستقرارها للتهديد، وأن يحتموا بأكراد الخارج ومعارضة الداخل للضغط على السلطة الحاكمة، الأمر الذي قد يُحدث ثقوبًا في جدار العلاقات بين فرنسا والأكراد، ويدفع باريس لإعادة النظر في موقفها الداعم لهم على طول الخط، ليبقى السؤال: هل تتعلم فرنسا من هذا الدرس أم أن عنادها سيقودها إلى درس ربما يكون أكثر قسوة وشراسة؟