في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2022 وخلال كلمته ضمن فعاليات المؤتمر الاقتصادي الذي عقدته القاهرة، وقف الرئيس عبد الفتاح السيسي مخاطبًا الحضور قائلًا: “عاوزين تعرفوا مصر عاملة إزاي روحوا حديقة الحيوان، شوفوا حجم التردي والمنشآت والسلبيات والتعب”، وتابع “حد بيقول ما تأخذ الحديقة تعملها، قلت لا أنا أعمل 10 حدائق ومعملش حديقة بالطريقة دي”.
كانت تلك الكلمات إيذانًا بوضع حديقة الحيوان بالجيزة (تبلغ مساحتها 88 فدانًا) التي تعد الأكبر في إفريقيا وواحدة من أقدم حدائق الحيوانات في العالم، على مجهر اهتمام الدولة، لكن أي اهتمام كان يقصده الرئيس؟ البعض قرأ تلك الكلمات على أنها انتقاد للوضع العام للحديقة دون المساس بها، فيما قرأها آخرون كونها بداية الاستحواذ والهيمنة بعدما صاغ السيسي مبررات ذلك حين تحدث عن الوضع المتردي الذي يحتاج إلى تدخل عاجل.
لم تأخذ تلك التصريحات نصيبها الكافي من التناول الإعلامي، فيما خرجت بين الحين والآخر تسريبات بشأن بيع الحديقة والحديث عن نقلها لمكان آخر بهدف استثمار الموقع الحيوي الذي توجد فيه ويعد ضمن أفضل المواقع الاستثمارية في مصر بأكملها، لكن لم يقف أحد حيالها بشكل جدي، ما أوهم البعض أن المسألة لا تعدو كونها تسريبات من “أهل الشر” كما يسميهم الرئيس وأذرعه الإعلامية.
في الأول من يناير/كانون الثاني الحاليّ، نشر موقع “مدى مصر” تقريرًا كشف فيه انتهاء الاتفاق على نقل إدارة الحديقة وتطويرها إلى تحالف مكون من 3 أطراف: طرفان حكوميان وآخر إماراتي، بحق انتفاع لمدة 25 عامًا، على أن يتم التوقيع الرسمي بحد أقصى قبل منتصف الشهر.
سيمثل الجانب الإماراتي شركة “Worldwide Zoo Consultants”، وهي تحالف مقره الرئيسي في أبو ظبي، فيما يمثل الجانب المصري شركة الإنتاج الحربي للمشروعات والاستشارات الهندسية، ممثلة عن وزارة الإنتاج الحربي التابعة للمؤسسة العسكرية، وهيئة الخدمات البيطرية ممثلة عن وزارة الزراعة.
رئيس شركة الإنتاج الحربي للاستشارات الهندسية، ماجد السرتي، كشف أن مشروع التطوير مدته 18 شهرًا، وأن هناك محاولة لتقليل تلك الفترة إلى 12 شهرًا فقط، من بداية استلام الحديقة، منوهًا إلى نقل الحيوانات الموجودة بالحديقة في أثناء عملية التطوير للأماكن المخصصة، وقد يتم غلق الحديقة في بعض الأوقات إذا لزم الأمر.
الاتفاق رغم ندرة معلوماته أثار الكثير من علامات الاستفهام لدى الشارع المصري، خاصة فيما يتعلق بعلاقة المؤسسة العسكرية ممثلة في وزارة الإنتاج الحربي بهذا الاتفاق، فالمسألة برمتها تابعة لوزارة الزراعة دون أي نزاع ملكي أو إداري مع أي جهة أخرى، هذا بجانب الإصرار على أن يكون الشريك الدائم في معظم المشروعات التي تكون المؤسسة العسكرية طرفًا فيها هي دولة الإمارات أو من يمثلها، وهي تساؤلات تدور في إطار القلق من بيع أصول الدولة لمستثمرين أجانب مقابل الوفاء بالتزامات خدمة الدين الذي وصل إلى مستويات قياسية ويبتلع الجزء الأكبر من موازنة الدولة المخصصة لخدمة الشعب.
مخطط مسبق.. هكذا تقول المصادر
بحسب المصادر التي نقل عنها الموقع المصري، فإن الحديقة لم تكن تخسر كما يتردد على ألسنة بعض المسؤولين، وأن الأزمة التي تفاقمت مؤخرًا من تدهور أوضاعها كانت بسبب التقاعس الحكومي وعدم وفاء وزارة المالية بالتزاماتها مع إدارة الحديقة، وهو ما يثير الشكوك ويذهب في اتجاه الأصوات التي تقول إن ما حدث كان مخطط له منذ فترة بهدف الوصول إلى تلك المرحلة التي يستوجب معها التدخل الرسمي من الدولة.
يقول المصدر إن الإيرادات السنوية للحديقة منذ 2018 وحتى 2021 كانت تتأرجح بين 35-38 مليون جنيه، وهي محصلة تذاكر الدخول وحق إيجارات الكافيهات والمتاجر داخل الحديقة، وتأجير مطاعم كجزيرة الشاي، منوهة أن إيرادات التذاكر وحدها تصل إلى ما بين 12-14 مليون جنيه، وفي نهاية كل عام يتم توريد تلك الإيرادات لوزارة المالية، علمًا بأن موازنة الحديقة الخاصة السنوية تبلغ 20-22 مليون جنيه، وتشمل أجور الأطباء والعمالة موازنة إطعام وعلاج الحيوانات، ما يعني أن هناك فائضًا سنويًا يتجاوز 16 مليون جنيه.
يضيف المصدر أن الأزمة الحقيقية للحديقة بدأت منذ عام 2013، حين رفضت وزارة المالية تحمل كلفة استيراد الحيوانات من الخارج، وهو ما دفع الإدارة آنذاك لتدبير أمورها بالجهود الذاتية عبر عدد من البدائل مثل اللجوء إلى نظام المبادلة، أي مبادلة حيوانات بحيوانات أخرى من إفريقيا والهند، غير أن هذا الحل تراجع في الآونة الأخيرة بعد ارتفاع أسعار الحيوانات، ومع نفوق الحيوانات الموجودة بالفعل داخل الحديقة بدأ نزيف التدني والتراجع، دون تدخل رسمي من الحكومة رغم المناشدات، حتى وصل الوضع إلى تلك الحالة التي بات يضرب بها المثل في التدني والتدهور، كما أشار الرئيس في كلمته على هامش المؤتمر الاقتصادي قبل شهرين.
قبل عدة أشهر، فوجئ الجميع بخبر منشور في عدد من المواقع الصحفية المحلية بزيادة قيمة تذكرة دخول الحديقة من 5 إلى 65 جنيهًا خلال يوم واحد فقط في الأسبوع (الثلاثاء) بهدف توفير النفقات. القرار أحدث ضجة كبيرة – خشية تعميمه على بقية أيام الأسبوع – كونه يساهم بشكل واضح في مقاطعة الكثير من المصريين لهذا المكان الذي كانت ميزته الأكبر رخص تذكرته التي كانت في متناول الجميع، وعليه خرجت أصوات لتحذر من أن مثل تلك القرارات سوف تؤدي إلى تفريغ الحديقة من زوارها البالغ عددهم 3 ملايين سنويًا، تمهيدًا لإدراجها ضمن خطة البيع والاستثمار ولو كان باسم التطوير.
خصومة مع الأخضر
الأعوام الثلاث الأخيرة تحديدًا، شهدت تغولًا غير مفهوم على المساحات الخضراء في مصر من المؤسسة العسكرية أو الجهات التنفيذية الأخرى، وكأن هناك عداءً وخصومةً مع كل ما هو أخضر، رغم أن رؤية الأمم المتحدة 2030 التي أقرتها الدولة المصرية تشير إلى أن نصيب الفرد من المسطحات الخضراء في أي مدينة يجب ألا يقل عن 15 مترًا مربعًا، كما أن نسبة 25% من المساحة الكلية للمدن يجب أن تكون مساحات خضراء.
يبلغ سكان القاهرة الكبرى (القاهرة – الجيزة – القليوبية) أكثر من 25 مليون نسمة، ويحتاجون وفق ما أقرته الأمم المتحدة قرابة 60 مليون متر مربع من المساحات الخضراء، حسبما أشار الباحث في مجال السياحة علي عبد الله، الذي كشف خلال لقاء تليفزيوني له أن المساحات الخضراء بالقاهرة الكبرى تترواح بين 3-5 ملايين متر مربع بما لا يتجاوز 3% فقط مما يحتاجه القاهريون من المناطق الخضراء.
رغم هذا العجز الكبير في مساحات الأخضر، فإن السلطات المصرية لا تتوانى مطلقًا عن تجريف عشرات المساحات الخضراء التي كانت متنفس المواطنين الوحيد لسنوات عدة، مع الوضع في الاعتبار أن 99% من الحدائق الموجودة بالقاهرة تم إنشاؤها في عهد أسرة محمد علي باشا (1805-1952)، وهي الثروة التي تنهار اليوم، حديقة تلو الأخرى.
يدير الجيش ما بين 25-40% من حجم الاقتصاد المصري وفق بعض التقديرات، فيما يشير آخرون إلى أن المعدل أكبر من ذلك رغم نفي الرئيس لتلك الأرقام
لم تكن حديقتا الأورمان والحيوان الحالتين الوحيدتين للهيمنة على الحدائق والمساحات الخضراء، فهناك العديد من السوابق في هذا السياق، أبرزه تحويل أجزاء كبيرة من حديقة الطفل بمصر الجديدة إلى مشروعات سياحية وكافيهات، كذلك حديقة “الميرلاند” التاريخية بمصر الجديدة (مساحتها 50 فدانًا وبنيت عام 1949 في عهد الملك فاروق تحت اسم نادي سباق الخيل) التي بدأت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في تحويلها إلى بنايات سكنية ومطاعم وكافيهات ومشروعات استثمارية.
ومن مصر الجديدة إلى شارع عباس العقاد بمدينة نصر بالقاهرة حيث تقع “الحديقة الدولية” صاحبة الأشجار الكثيفة والحيوانات النادرة، التي تحتوي على أقسام خاصة لبعض الدول كالإمارات والسعودية والبحرين واليابان وغيرها، التي تتعرض لحملة استهداف هي الأخرى بدأت برفع قيمة تذاكر الدخول وسط مخاوف من عرضها للبيع والاستثمار الخارجي بحجة الخسائر التي تتكبدها.
الخصومة مع الأخضر انتقلت من العاصمة القاهرة إلى العديد من المدن الأخرى، ففي الإسكندرية (شمال)، العاصمة الثانية لمصر، قطعت أشجار منطقة المنتزه التاريخية بحجة التطوير، وجرفت المساحات الخضراء هناك، وفي الدقهلية (شرق) تم تجريف حدائق “عروس النيل” و”صباح الخير” و”هابي لاند” الأقدم في مدينة المنصورة، بهدف إنشاء مشروعات سكنية تحت اسم “تحيا مصر المنصورة”، تنفيذًا لتوجيهات الرئيس السيسي.
الجيش والاقتصاد
أصوات ترى أن المؤسسة العسكرية المصرية ليست في خصومة مع المساحات الخضراء، لكن الفرص الاستثمارية الكبيرة التي توفرها تلك المساحات هي ما يسيل لعابها، كما أن ملكيتها العامة للدولة تطمعها أكثر في السيطرة عليها خاصة مع إحكام قبضتها على المشهد برمته، بجانب منح الرئيس الضوء الأخضر لها للتعامل مع كل المسائل دون رقابة أو محاسبة، وعليه فإن الاستثمار وتحقيق العوائد المادية وتوسيع دائرة النفوذ الاقتصادي للجيش هو المقدم شكلًا ومضمونًا على أي اعتبارات أخرى، بيئية كانت أو صحية، بعيدًا عن الاعتبارات الإنسانية التي لا قيمة لها على الإطلاق في هذا المسار وهو ما يمكن قراءته بدقة في مساعي تهجير أهالي جزيرة الوراق وغيرهم.
بدأت هرولة الجيش نحو الانخراط في الاقتصاد منذ انطلاق الجمهورية الجديدة في أعقاب حركة 23 يوليو/تموز 1952، حينها لجأ جنرالات المشهد وعلى رأسهم جمال عبد الناصر ورفاقه إلى عدد من الإجراءات مستندًا إلى ذريعة مقاومة الاستعمار الخارجي، مثل تأميم الصناعة وإعادة توزيع الأراضي وفرض ضرائب تصاعدية على الدخل والثروة، وتم الترويج لتلك الإجراءات على أنها ثورة في مسار العدالة والاشتراكية فيما كانت إيذانًا بوضع أقدام الجيش في خاصرة الاقتصاد بشكل بات من الصعب زحزحته عنه بأي صورة.
خلال عهد حسني مبارك حاول الجيش على استحياء الدخول إلى عالم الأعمال من خلال بعض الأنشطة والتحركات، لكنها كانت في إطار ضيق في ظل المقاومة الشرسة للنظام الرأسمالي آنذاك، بقيادة رجال أعمال مبارك ونجليه ممن تصدوا لهذا المخطط وسحبوا البساط من تحت جميع الأقدام لحساباتهم الشخصية.
مع ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وما تلاها، تغيرت الخريطة بصورة كبيرة، حيث تغول الجيش على كل المجالات الاقتصادية وبات المتحكم الأبرز في المشهد، حتى وصل الحال إلى إدارة القوات المسلحة ما بين 25-40% من حجم الاقتصاد المصري وفق بعض التقديرات، فيما ذهبت أخرى إلى أن النسبة أكبر من ذلك رغم نفي الرئيس أكثر من مرة لتلك الأرقام، فلا يعلم أحد بما فيهم البرلمان حجم ميزانية المؤسسة العسكرية ولا مصارفها.
تشير تقديرات إلى أن المؤسسة العسكرية تمتلك أكثر من 60 شركةً تعمل في 19 مجالًا من مجالات الصناعة المختلفة البالغ عددها 24 مجالًا، وفق مؤشرات “فانيانشيال تايمز”
يمتلك الجيش أكثر من 35 مصنعًا ضخمًا يعملون في الأنشطة المدنية وليست الدفاعية، وهو ما يتنافى مع سياسة التحرير الاقتصادي التي تعهدت القاهرة بالالتزام بها، ما يضع مصر في منطقة غامضة، وسط بين الاقتصاد النيوليبرالي والاشتراكي، ويحولها إلى “سوق ملتبسة” بحسب وصف أستاذة التاريخ في أوبرلين كولدج والجامعة الأمريكية في القاهرة، زينب أبو المجد.
وتشير الأرقام الرسمية المنشورة في الصحف القومية إلى امتلاك وزارة الإنتاج الحربي التابعة للمؤسسة العسكرية 8 مصانع، 40% من إنتاجها يذهب للأسواق المدنية، الوضع ذاته مع الهيئة العربية للتصنيع التي تمتلك 11 مصنعًا، يذهب أكثر من 70% من إنتاجها للأسواق المدنية، كذلك جهاز مشروعات الخدمة المدنية الذي يمتلك 32 شركة (30% منها أنشئ بعد عام 2015) تنخرط في إنتاج السلع المدنية مثل سيارات الجيب الفخمة وحاضنات الأطفال وأسطوانات الغاز للمطابخ والسلع الغذائية ومنتجات اللحوم والألبان والدواجن، فضلًا عن إدارة عشرات محطات الوقود المنتشرة في شتى المحافظات.
تقديرات أخرى تشير إلى أن المؤسسة العسكرية تمتلك أكثر من 60 شركة تعمل في 19 مجالًا من مجالات الصناعة المختلفة البالغ عددها 24 مجالًا، وفق مؤشرات “فانيانشيال تايمز”، ونجحت تلك الشركات في تحقيق دخل وأرباح تراوحت بين 6-7 مليارات دولار خلال عام 2019، وسط توقعات بزيادة معدلات تلك الأرباح مستقبلًا في ظل الإصرار على الهيمنة على المشهد الاقتصادي بشتى فروعه.
عسكرة الاقتصاد
هناك 4 هيئات رئيسية تابعة للمؤسسة العسكرية تحتكر جزءًا كبيرًا من الاقتصاد الوطني، أولها: “جهاز مشروعات الخدمة الوطنية” الذي تأسس عام 1979 بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وكان الهدف الرئيسي حينها تحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي من الاحتياجات الرئيسية للقوات المسلحة لتخفيف أعباء تدبيرها عن كاهل الدولة.
يتبع هذا الجهاز 32 شركة تعمل في العديد من القطاعات الحيوية التي تنافس السوق المدني بشكل كبير، منها: استصلاح الأراضي، ويتصدره الشركة الوطنية لاستصلاح الأراضي، فوفق القانون تمتلك القوات المسلحة أكثر من 97% من مساحة الدولة المصرية (كل الصحراء في الغالب)، كذلك مجال الأمن الغذائي، إذ تمتلك شركة مصر للتصنيع الزراعي التابعة له 7 مصانع لإنتاج صلصة الطماطم ومنتجات الألبان وأعلاف الماشية والأسماك والبصل المجفف، إضافة إلى شركات خاصة بإنتاج المكرونة وغيرها.
وللجهاز حضور قوي في مجالات الصناعات الكيماوية والتعدين، إذ يحكم قبضته على معظم المناجم التعدينية في البلاد مثل مناجم الجبس والمنجنيز والرمل الزجاجي والطَفل والزلط، إضافة إلى مجال إنتاج المياه وعلى رأسه الشركة الوطنية للمياه “صافي” أكبر الشركات في هذا المجال داخل مصر، بجانب مجال البتروكيماويات والكيماويات الوسيطة، وأبرز الشركات العاملة في هذا المجال، شركه النصر للكيماويات الوسيطة وشركة العريش للأسمنت وشركة إنتاج المشمعات البلاستيك.
حتى خدمات الأمن وحراسة الفنادق لم تسلم من قبضة جهاز تنمية المشروعات التابع للمؤسسة العسكرية المصرية الذي يمتلك شركة النصر للخدمات والصيانة “كوين سيرفيس” التي تقدم خدمات الأمن والحراسة وإدارة الفنادق، علاوة على الشركة الوطنية للبترول التي تدير محطات بنزين الوطنية وتنتج العديد من المنتجات البترولية، فضلًا عن قطاع المقاولات الذي تهيمن عليه شركتان تابعتان للجهاز هما: الشركة الوطنية للمقاولات العامة والتوريدات والشركة الوطنية للطرق والكباري.
ثانيًا: الهيئة العربية للتصنيع التي تأسست عام 1975 في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، بمشاركة قطر والسعودية والإمارات، برأس مال أكثر من مليار دولار، وكانت تهدف حينها إلى تأسيس صناعة عربية دفاعية مشتركة، لكن عادت ملكيتها لمصر فقط بعد انسحاب البلدان العربية المشاركة عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع “إسرائيل”، لتخضع بعد ذلك بشكل مباشر إلى وزارة الإنتاج الحربي.
كان الهدف الرئيسي للهيئة تلبية احتياجات المؤسسة العسكرية من الصناعات الدفاعية، لكنها توسعت فيما بعد لتشمل كل الصناعات المدنية وتنافس الشركات والقطاعات الأخرى في السوق المدني، وذلك عبر عشرات المصانع والشركات أبرزها: مصانع صقر وقادر وحلوان للصناعات المتطورة ومصنع سيماف الذي ينتج عربات السكك الحديدية، ومصانع للمنتجات الإلكترونية، إضافة إلى الشركة العربية لإنتاج الطاقة المتجددة وشركة السماد العضوي ومصنع أبو زعبل للأخشاب الذي ينتج أثاث المنازل والفنادق والقرى السياحية.
كما للهيئة علاقات اقتصادية خارج البلاد، مع شركات للتصنيع العسكري والمدني في الولايات المتحدة وفرنسا وكندا وبريطانيا، هذا بجانب إبرامها اتفاقيات تعاون وتوأمة مع بعض المؤسسات العالمية في مجالات التصنيع المدني مثل جنرال إلكتريك ولوكهيد مارتن، لتصبح لاعبًا محوريًا ومنافسًا شرسًا في سوق المنتجات المدنية.
يرى القائمون على الاقتصاد في مصر أن تغول المؤسسة العسكرية على مجالات الاقتصاد المختلفة من شأنه ضرب الاقتصاد الوطني وتجريفه من موارده وجدرانه الأساسية، وتفريغه من كوادره التي اضطر قطاع كبير منها للهجرة بعد تقليص الشركات والمصانع العمالة لديها بعدما احتكر الجيش المشهد
ثالثًا: الهيئة القومية للإنتاج الحربي، التي تأسست عام 1984 بهدف الإشراف على المصانع الحربية في المقام الأول، لكنها سرعان ما تخلت عن هذا الهدف، أو بالأحرى وسعت رقعته ليضم أهدافًا أخرى خاصة بالربح ومنافسة الشركات الأخرى في السوق المدني، ليصبح عدد المصانع التي تمتلكها اليوم أكثر من 18 مصنعًا، أبرزها: مصانع أبو قير – أبو زعبل – شبرا – حلوان للصناعات الهندسية، ومصنع حلوان للأثاث ومصنع حلوان لمحركات الديزل ومصنع حلوان للصناعات غير الحديدية.
وانخرطت الهيئة في مجال الصناعات الكيماوية من خلال مصانع أبو زعبل وقها وهليوبوليس، كذلك الصناعات الإلكترونية عن طريق مصنع بنها للصناعات الإلكترونية، هذا بجانب أن للهيئة أسهمًا في بعض الشركات الأخرى مثل ثروة للبترول وإيبيك العالمية لصناعة المواسير، والشركة العالمية لصناعة الكمبيوتر، وهي الشريكة لمجموعة ناصر الخرافي وتعد المنتج الأوحد لأجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية في مصر.
رابعًا: الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وهي تتبع وزارة الدفاع المصرية، وتهدف إلى الإشراف على البنية التحتية والإنشاءات العسكرية، ويتفرع عنها عدد من الإدارات منها إدارة الأشغال العسكرية وإدارة المهندسين العسكريين وإدارة المساحة العسكرية وإدارة المياه وإدارة المشروعات الكبرى.
وبلغت المشروعات التي نفذتها الهيئة خلال 2013/2014 قرابة 473 مشروعًا إستراتيجيًا وخدميًا بحسب تصريحات مدير الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في مايو/أيار 2014، ومن المجالات التي دخلتها الهيئة مدّ أنابيب المياه وبناء محطات تحلية المياه وبناء الطرق والجسور والموانئ وترميم المستشفيات والمدارس ومراكز الشباب.
يرى القائمون على الاقتصاد في مصر أن تغول المؤسسة العسكرية على مجالات الاقتصاد المختلفة من شأنه ضرب الاقتصاد الوطني وتجريفه من موارده وجدرانه الأساسية، وتفريغه من كوادره التي اضطر قطاع كبير منها للهجرة بعد تقليص الشركات والمصانع العمالة لديها بعدما احتكر الجيش المشهد.
وتنتفي المنافسة الشريفة والعادلة تمامًا بين الشركات التابعة للجيش ونظيرتها المدنية، في ظل الامتيازات الممنوحة للمؤسسة العسكرية التي تعطيها الأفضلية في كل شيء مقارنة بغيرها، ومن أبرزها الإعفاء من الضرائب والجمارك، حتى تلك الشركات والمشروعات العاملة في السوق المدني كمحطات الوقود والمتاجر الغذائية والأسواق ومصانع الأثاث والمنتجات الغذائية، بجانب أن النسبة الكبرى من العاملين في شركات الجيش هم في الأساس مجندون إلزاميون في القوات المسلحة يقضون فترات خدمتهم دون رواتب، مناظرة بالارتفاع المستمر في أجور العمالة في معظم القطاعات الصناعية التي تتحملها الشركات المدنية.
لماذا الإمارات؟
بالعودة إلى السؤال الذي استُهل به هذا التقرير، بشأن الإمارات تحديدًا كشريك محوري للمؤسسة العسكرية في استثماراتها في مصر، يلاحظ أن هناك توجهًا واضحًا من الدولة الخليجية للاستثمار عبر الاستحواذ على أصول الدولة، كأحد التوجهات الجديدة التي اتبعتها أبو ظبي للإبقاء على نفوذها داخل مصر بعد تراجعه مؤخرًا إعلاميًا وسياسيًا لصالح كيانات أخرى.
وهنا تلتقي مصلحة الدولة الخليجية ذات الطموحات التوسعية الكبيرة التي تتمتع بعلاقات قوية مع رأس هرم السلطة السياسية في مصر، مع أهداف المؤسسة العسكرية المصرية والنظام الحاكم في تحقيق أكبر قدر من العوائد الدولارية من خلال فتح مجالات استثمارات عدة بما فيها بيع الأصول لسد العجز الكبير والقدرة على الوفاء بسداد خدمة الدين البالغ 157.8 مليار دولار وفق تقرير البنك المركزي سبتمبر/أيلول الماضي.
تشير الأرقام إلى تصدر الإمارات قائمة الدول المستحوذة على الأصول المصرية، ففي الربع المالي الثاني من عام 2021/ 2022 بلغت استثماراتها نحو 1.46 مليار دولار بنسبة 91.2% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية لمصر البالغة 1.6 مليار دولار، بحسب نشرة القطاع الخارجي الصادرة عن البنك المركزي المصري.
وترجمة لتلك الأرقام أبرمت الإمارات خلال 2021 أكثر من 20 صفقةً بزيادة قدرها 67% عن عام 2020، مع توقع زيادة تلك المعدلات سنويًا، لتحل الدولة الخليجية في المرتبة الثانية من حيث الاستثمارات الأجنبية في مصر بإجمالي يبلغ 20 مليار دولار وسط من خلال 1165 شركة تعمل في السوق المصري، مع توقعات بارتفاع هذا الرقم ليصل إلى 35 مليار دولار خلال السنوات الخمسة القادمة وفق ما أشار الأمين العام لمجلس الإمارات للمستثمرين بالخارج، جمال الجروان.
لم تكن حديقة الحيوان والأورمان وبقية القائمة المطولة من المساحات الخضراء الشاسعة الضحية الأولى لتغول المؤسسة العسكرية على القطاع المدني، فالشواهد والمؤشرات تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، احتكار شبه كامل للمشهد
ترجع وكالة “بلومبيرج” الأمريكية الهرولة الإماراتية نحو الاستحواذ على الأصول المصرية إلى استغلالها الوضع الاقتصادي المصري الهش، الذي دفعه نحو بيع وارتهان أصوله للخروج من تلك الشرنقة، في ظل غياب التخطيط والإدارة والرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي، متوقعة أن تصل استحواذات صندوق الثروة السيادي في أبو ظبي داخل السوق المصري إلى نحو ملياري دولار قريبًا.
لم تكن الإمارات وحدها الطرف الأجنبي المستحوذ على أصول الدولة المصرية، إذ شهد العامان الماضيان موجة عارمة لبيع تلك الأصول للعديد من الجهات، منها إلى جانب الإمارات، الصندوق السيادي السعودي وشركات قطرية، وبعض الشركات الأجنبية وعلى رأسها الصين.
خرجت بعض الأصوات مؤخرًا محذرة من سياسة “مبادلة الديون بالأصول” التي يبدو أن القاهرة تتبعها في الوقت الراهن مع تعدد قائمة الدائنين التي تضم “صندوق النقد الدولي بـ14.2 مليار دولار بما فيها القرض الأخير، و10.6 مليار دولار للبنك الأوروبي، فيما تمتلك الدول العربية 21.4% من إجمالي الديون المصرية: 8.3% للسعودية و8.1% للإمارات و5% للكويت، بينما تساهم أكبر 5 بنوك أعضاء فى دول نادي باريس بقيمة 9.4 مليارات دولار (3 مليارات دولار من ألمانيا و2.5 مليار من اليابان و1.5 مليار من فرنسا و1.3 مليار دولار من أمريكا و1.1 مليار من بريطانيا)، بحسب إحصاءات البنك المركزي في بداية عام 2020”.
تتبنى الحكومة المصرية منذ عام 2019 إستراتيجية ثنائية الأبعاد للخروج من هذا المأزق، بعدها الأول يتعلق بسياسة التخارج والتخلي نسبيًا عن بعض القطاعات التي كانت حكرًا على الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية وإدخال القطاع الخاص كشريك بها لضخ استثمارات جديدة توفر سيولة نقدية ودولارية، أما البعد الثاني فهو بيع أصول الدولة للخارج سواء كانت شركات أم صناديق سيادية تابعة لدول بعينها، وهو الخطر الذي يحدق بالاقتصاد المصري ويهدد سيادة الدولة واستقلالها الوطني.
لم تكن حديقة الحيوان والأورمان وبقية القائمة المطولة من المساحات الخضراء الشاسعة الضحية الأولى لتغول المؤسسة العسكرية على القطاع المدني، فالشواهد والمؤشرات تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، احتكار شبه كامل للمشهد، وهو ما بدأت تداعياته الكارثية تطفو على السطح، ما دفع السلطة إلى إعادة النظر في تلك السياسة لتمنح القطاع الخاص بصيصًا من الأمل للتشاركية عبر إستراتيجية التخارج النسبي، فهل تنجح مثل تلك التحركات البطيئة في إنقاذ الموقف قبل فوات الأوان؟