كشف خبراء صندوق النقد الدولي عبر تقرير نشرته وكالة “رويترز“، الثلاثاء 10 يناير/كانون الثاني الحاليّ، عن الشروط والإصلاحات التي تعهدت القاهرة بالالتزام بها للموافقة على منحها دفعات القرض الأخير من الصندوق البالغ قيمته 3 مليارات دولارات على 46 شهرًا.
التقرير تضمن حزمة إصلاحات مالية ونقدية، وإجراءات على الحكومة المصرية اتخاذها لضمان حصولها على الدفعات المتبقية، ومنحها شهادة ثقة رسمية تمكنها من الحصول على منح ومساعدات وحزم تمويلية من الشركاء الدوليين والإقليميين، تصل – وفق تقديرات المؤسسة الدولية – إلى أكثر من 14 مليار دولار خلال السنوات القادمة.
التعهدات التي قال التقرير إن مصر التزمت بتنفيذها شملت بعض النقاط الحساسة التي تمس السيادة الوطنية مثل الضغط لبيع أصول الدولة بمتوالية سنوية لضمان عوائد ثابتة، بجانب أخرى تتعارض وإستراتيجية نظام عبد الفتاح السيسي، الخاصة بتخارج شركات الجيش تدريجيًا من السوق الاقتصادي المحلي، ومنح القطاع الخاص مساحة أكبر مما هي عليه اليوم، وتقليص قبضة الدولة على الاقتصاد الوطني، بجانب إقرار مبدأ الشفافية في التعامل مع تلك الشركات وتعزيز الحوكمة ووضع كل الأنشطة تحت الرقابة.. فهل تلتزم القاهرة بتلك الشروط؟
Egypt commits to IMF to slow projects, increase fuel prices https://t.co/TvllrLxB2y pic.twitter.com/YvvHCtXCn8
— Reuters (@Reuters) January 10, 2023
إعادة نظر
التقرير أشار إلى أن القاهرة وضعت برنامجًا شاملًا أعادت فيه النظر في السياسات الرئيسية التي ترسم المشهد المالي والنقدي في البلاد، وذلك بهدف الحفاظ على معدلات مستقرة نسبيًا لأداء الاقتصاد الكلي، بما يمهد نحو استدامة النمو طويل الأجل ويساعد على امتصاص الصدمات المستقبلية، ويجنب الوقوع في الأزمات التي عانت منها مصر خلال السنوات الماضية.
استعرض الصندوق حزمة السياسات التي تعهدت السلطات المصرية باتخاذها والوفاء بها خلال المرحلة المقبلة، وعلى رأسها تعميق سوق الصرف الأجنبي وتحسين انتقال السياسة النقدية التي يجب أن تركز على الحفاظ على استقرار الأسعار في إطار التحول الدائم نحو سعر الصرف المرن.
هذا بجانب إعادة النظر في أوضاع المالية العامة بما يمهد نحو ضبطها بصورة تساعد على استمرار تراجع الدين العام، من خلال تبني العديد من الإستراتيجيات التي تدعم تعبئة الإيرادات وتنفيذ قانون إدارة المالية العامة مع إدارة الديون في مجملها لتقليل حجم احتياجات التمويل، لا سيما الدولارية.
كما أقر الصندوق حزمة إصلاحات تستهدف توسيع شبكة الأمان الاجتماعي للتخفيف من حدة الفقر وحماية الفئات الهشة، وتخفيف ارتدادات الإصلاحات السلبية على متوسطي ومحدودي الدخل، بجانب تحفيز القطاع الخاص وخلق فرص عمل وتقليل الحواجز التجارية بما يحسن المستوى المعيشي للمواطن ومعدلات النمو للاقتصاد الكلي.
تحرير سعر الصرف
تعهدت السلطات المصرية بالالتزام بسياسة تحرير سعر الصرف وصولًا إلى سعر عادل يُحدد بناء على العرض والطلب في السوق دون أي تدخلات حكومية، حيث أشار خبراء الصندوق في تقريرهم إلى أن تثبيت البنك المركزي سعر العملة المحلية المصرية (الجنيه) في السابق أضر كثيرًا بالاقتصاد وأداء السوق.
قالت رئيسة مجلس إدارة الصندوق والعضو المنتدب، كريستالينا جورجييفا: “التزام السلطات الأخير بالتحول الدائم إلى نظام سعر الصرف المرن والتخلص من تشوهات السياسة السابقة، بدعم من تشديد السياسة النقدية المسبق، والمزيد من التعزيزات لشبكة الأمان الاجتماعي، هي خطوات مرحب بها”، فيما أوضح التقرير أن التحول إلى نظام سعر صرف مرن سيساعد في “تخفيف الصدمات الخارجية والسماح للسياسة النقدية بالتركيز على الحفاظ على استقرار الأسعار، كما سيضمن الضبط المالي القدرة على تحمل الديون على المدى المتوسط”.
وحرك البنك المركزي المصري سعر صرف الجنيه صبيحة الأربعاء 4 يناير/كانون الثاني الحاليّ ليفقد قرابة 9% من قيمته في غضون ساعات معدودة، فقد تراجع من 24.6 جنيه إلى 30 جنيهًا للدولار الواحد، وهو التعويم الثالث الذي شهدته العملة المصرية خلال أقل من عام، فقد عوم في 21 مارس/آذار الماضي فاقدًا أكثر من 15% من قيمته، وفي أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام كان التحريك الثاني ليفقد 60% من قيمته ليأتي هذا التعويم الثالث في غضون 10 أشهر فقط ليخسر الجنيه قرابة 75% من قيمته التي كان عليها بداية العام الماضي.
بيع أصول الدولة
بينما تنفي السلطات المصرية لجوء الدولة إلى سياسة “بيع الأصول” لسد العجز والوفاء بالالتزامات إزاء الدائنين، ردًا على الهجوم والانتقادات الشعبية والنخبوية الموجهة إليها بسبب هذا التوجه الذي يهدد سيادة البلد ويجرفه من موارده الاقتصادية، إذ بصندوق النقد يكشف الأمر بشكل علني، ليؤكد أن القاهرة تعهدت بالاستمرار في تلك السياسة خلال الفترة المقبلة.
التقرير المنشور قال إن مصر ستبيع أصولًا مملوكة للدولة لمستثمرين أجانب بقيمة ملياري دولار، على أن يكون لمستثمري دول مجلس التعاون الخليجي نصيب الأسد في تلك الأصول بسبب تعهد بلدانهم بعدم مطالبة مصر بودائعهم الموجودة في البنك المركزي المصري بقيمة تصل إلى 28 مليار دولار حتى سبتمبر/أيلول 2026.
كما حدد الصندوق قيمة الأصول المقرر بيعها خلال العام الحاليّ (2023)، التي حددها بقيمة 4.6 مليار دولار، بينما يتبعها موجة بيع أخرى خلال عام 2024-2025 بقيمة 1.8 مليار دولار، على أن تصبح إستراتيجية “تسييل الأصول الثابتة” سياسة ممتدة حتى تحسين الوضع المالي المصري والخروج من المأزق الحاليّ.
منذ 2019 بدأت الدولة المصرية في تبني سياسة “بيع الأصول” لسد ما تعانيه من عجز وتراجع في مؤشرات النمو بسبب أحداث عالمية كجائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية لاحقًا، بجانب السياسات الاقتصادية الخاطئة التي اتبعتها الدولة على مدار السنوات الثمانية الماضية التي أغرقت البلاد في الديون حتى وصلت إلى 157.8 مليار دولار وفق تقرير البنك المركزي سبتمبر/أيلول الماضي.
هذا أول اعتراف رسمي من صندوق النقد الدولي بتعاظم نفوذ الجيش المصري اقتصاديًا ومخاطر هذا النفوذ على الاقتصاد المصري بالكلية بما يُعجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها فيما يتعلق بسداد القروض وديونها الخارجية
استحوذت الصناديق السيادية في الإمارات والسعودية تحديدًا على النصيب الأكبر من حصة بيع أصول الدولة المصرية، وهي الظاهرة التي أرجعتها وكالة “بلومبيرج” الأمريكية إلى استغلال دول الخليج الوضع الاقتصادي المصري الهش، الذي دفعه نحو بيع وارتهان أصوله للخروج من تلك الشرنقة، في ظل غياب التخطيط والإدارة والرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي.
وتخيم حالة من القلق على الشارع المصري جراء تلك السياسة، لا سيما بعد التحذيرات التي أطلقها خبراء بشأن إستراتيجية “مبادلة الديون بالأصول” وهي الإستراتيجية التي يخشى أن تتبعها القاهرة مع قائمة دائنيها التي تضم “صندوق النقد الدولي بـ14.2 مليار دولار بما فيها القرض الأخير، و10.6 مليار دولار للبنك الأوروبي، فيما تمتلك الدول العربية 21.4% من إجمالي الديون المصرية: 8.3% للسعودية و8.1% للإمارات و5% للكويت، بينما تساهم أكبر 5 بنوك أعضاء فى دول نادي باريس بقيمة 9.4 مليارات دولار (3 مليارات دولار من ألمانيا و2.5 مليار من اليابان و1.5 مليار من فرنسا و1.3 مليار دولار من أمريكا و1.1 مليار من بريطانيا)، بحسب إحصاءات البنك المركزي في بداية عام 2020”.
تقليص اقتصاد الجيش
أقرت القاهرة وفق التقرير بسياسة التخارج من الاقتصاد الوطني عبر تقليص سيطرة الشركات التابعة للدولة، خاصة تلك المملوكة للمؤسسة العسكرية على الساحة الاقتصادية، وذلك بعد التداعيات السلبية لتلك الهيمنة على أداء ومؤشرات الاقتصاد، لا سيما بعد الهزة الكبيرة التي تعرض لها الاقتصاد المدني بسبب تغول الكيانات العسكرية على كل المجالات.
يعد هذا الشرط أول اعتراف رسمي من تلك المؤسسة الدولية بتعاظم نفوذ الجيش المصري اقتصاديًا ومخاطر هذا النفوذ على الاقتصاد المصري بالكلية بما يعجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها فيما يتعلق بسداد القروض وديونها الخارجية، وهو الملف الذي طالما رفضت الدولة المصرية التحدث فيه، مقللة على لسان رئيس الدولة من حجم هذا النفوذ رغم كل الشواهد والأرقام التي تؤكده.
منذ وصول السيسي إلى سدة الحكم في 2014 أطلق يد المؤسسة العسكرية لتحكم سيطرتها شبه الكاملة على كل أوجه الاقتصاد، حتى وصل الحال إلى إدارة القوات المسلحة ما بين 25-40% من حجم الاقتصاد المصري وفق بعض التقديرات، بينما قالت تقديرات أخرى أن النسبة أكبر من ذلك وفق ما نشر “نون بوست” في تقرير له.
التقرير نقل عن أستاذة التاريخ في أوبرلين كولدج والجامعة الأمريكية في القاهرة، زينب أبو المجد، قولها إن الجيش المصري يمتلك أكثر من 35 مصنعًا ضخمًا يعملون في الأنشطة المدنية وليست الدفاعية، وهو ما يتنافى مع سياسة التحرير الاقتصادي التي تعهدت القاهرة بالالتزام بها، ما يضع مصر في منطقة غامضة، وسط بين الاقتصاد النيوليبرالي والاشتراكي، ويحولها إلى “سوق ملتبسة” بحسب وصفها.
تحتكر 4 هيئات رئيسية تابعة للمؤسسة العسكرية جزءًا كبيرًا من الاقتصاد الوطني، هي: جهاز مشروعات الخدمة الوطنية والهيئة العربية للتصنيع والهيئة القومية للإنتاج الحربي، وأخيرًا الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، حيث تهيمن تلك الجهات على معظم الصناعات الغذائية والتعدينية والزراعية والتجارية ومجالات الطاقة والوقود وصناعة السيارات والمعادن وغيرها.
أثار هذا الاحتكار العسكري حفيظة خبراء الاقتصاد ممن حذروا من أن تلك السياسية من شأنها ضرب الاقتصاد الوطني وتجريفه من موارده وجدرانه الأساسية، وتفريغه من كوادره التي اضطر قطاع كبير منها للهجرة بعد تقليص الشركات والمصانع العمالة لديها بعدما احتكر الجيش المشهد، هذا بخلاف انتفاء المنافسة الشريفة والعادلة تمامًا بين الشركات التابعة للجيش ونظيرتها المدنية، في ظل الامتيازات الممنوحة للمؤسسة العسكرية التي تعطيها الأفضلية في كل شيء مقارنة بغيرها، ومن أبرزها الإعفاء من الضرائب والجمارك وتوفير الموارد البشرية دون كلفة الأجور، فمعظمهم من المجندين ممن لا يتقاضون رواتب نظير عملهم في تلك الجهات.
هل تلتزم مصر بتعهداتها؟
الصندوق أقر بعض المسارات التي يجب على القاهرة اتباعها للوفاء بما عليها من التزامات خاصة بخدمة الدين، منها التخارج ومنح القطاع الخاص المساحة المقبولة بما يشجع الاستثمارات الأجنبية خاصة بعد الهزة التي تعرض لها هذا القطاع مؤخرًا وأسفرت عن خروج أكثر من 20 مليار دولار من البلاد بداية العام الحاليّ.
هذا بجانب فرض حزم تسعيرية جديدة على السلع والخدمات بما ينعش خزينة الدولة بما فيها ربط أسعار الوقود بالأسعار العالمية، والنظر في إدخال آلية لربط الأسعار المحلية للغاز الطبيعي بالأسعار العالمية، وفرض ضرائب إضافية على الوقود، بصرف النظر عن تداعيات ذلك على الحالة المعيشية للمواطن المصري.
الهيمنة العسكرية على الاقتصاد في مصر لم تكن سياسات فردية، بل توجهات عامة وإستراتيجية متفق عليها بين الجنرالات منذ 2011 لتعزيز نفوذ الجيش في الداخل بما يجعله مهيمنًا على المشهد، ويجنبه أي تغيرات أو تحركات من شانها أن تطيح به خارج الملعب، فهي سياسة كان يؤمن بها الجيش نفسه من أي هزات سياسية أو شعبية، دون أي اعتبارات لتداعيات ذلك على الاقتصاد الوطني والوصول بالبلاد إلى تلك المرحلة الحرجة التي لم تشهدها حتى أوقات حروبها أو خضوعها للاستعمار الأجنبي.
بعد 8 سنوات من الإصرار على ذات السياسات التي أودت بالبلاد إلى طريق مسدود، ها هي القاهرة تستجيب لمناشدات الخارج بعد رفضها طيلة الأعوام الأخيرة الاستماع لاستغاثات الداخل، لتتيقن أن تقليص صلاحيات الجيش الاقتصادية بات مسألة أمن قومي، وأن إعادة النظر في السياسات المالية والنقدية ضرورة محورية، والتخلي عن الصلف والعناد السلطوي أهمية إستراتيجية لا تستقيم الأمور دونها.
ليس هناك أدوات رقابية محكمة تكشف مدى التزام السلطات المصرية بتلك التعهدات في ظل عدم وجود أرقام أو بيانات رسمية عن اقتصاد الجيش المفروض عليه غيمة من الغموض والضبابية، حتى بعيدًا عن البرلمان الذي يفترض مراقبته، ليبقى السؤال: هل يلتزم النظام المصري بما تعهد به أم سيواصل عنجهيته السلطوية في ترسيخ أركان الجنرالات ولو كان على حساب مستقبل الدولة واستقرارها الاقتصادي والاجتماعي؟